الخلافة الإسلامية والحداثة.. الدين في خدمة “السلاطين” (4)

مع دخول عصر الحداثة إلى العالم الاسلامي، تجدّد النقاش حول الخلافة. أحد العوامل التي ساعدت في ذلك هو الاستخدام المفرط للقب الخليفة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من قبل حكام في بلدان إسلامية عديدة.

استخدم السلاطين العثمانيون لقب الخليفة من أجل حشد الدعم لشرعيتهم المتآكلة أو حشد المسلمين للتطوع في حروب السلطنة العثمانية، كحرب القرم (1853-1856) والحرب العالمية الأولى (1914-1918). هناك مثل آخر هو خلافة عثمان بن فودُي أو عثمان دان فوديو (ت. 1817) في شمال نيجيريا اليوم والتي امتدت من غرب السودان إلى حدود مالي وأصبحت تُعرف في ما بعد بـ”خلافة صُكُتو” (1804-1903).

لكن العامل الأهمّ كان السباق تحت عناوين مثل “الإصلاح”، وهي عناوين باتت تشكل هاجساً عند معظم المسلمين، علمانيين كانوا أم متديّنين. وقاد ذلك إلى سجال واسع حول ضرورة مؤسسة الخلافة أو عدمها من أجل الإشراف على الإصلاحات وضمان امتثالها للشريعة الإسلامية ومبادئ العقيدة (للمناسبة، لا يتفق المسلمون في شأنها). وتأثّر هذا السجال وأثّر بالنقاش حول فصل الدين عن الدولة.

على سبيل المثال، زعم المفكر التجديدي الهندي شراغ علي (ت. 1895) في كتابه “الإصلاحات السياسية والقانونية والاجتماعية المرجوة في الدولة العثمانية والدول المحمدية الأخرى” أن “الاسلام المحمدي كما علّمه محمد، النبي العربي، يمتلك مرونة كافية تعطيه قدرة على التكيف مع الثورات الاجتماعية والسياسية التي تدور حوله”. الهدف من قول هذا الشيء كان أساساً الردّ على الاتهامات التي عمّمها بعض الأوروبيين والمسلمين بأن الإسلام هو عثرة في طريق التجديد ويمنع المسلمين من إصلاح مجتمعاتهم والانضمام إلى العصر الحديث. بعد تقديم لمحة تاريخية أرادها شراغ علي كأساس لنظريته بأنّ الاسلام الحقيقي هو إسلام ديناميكي، طرح بعد ذلك السؤال التالي: “من يمكنه القيام بالإصلاحات المطلوبة”؟ وكان جوابه حازماً:

“أجيب من دون أي تردّد: هو صاحب الجلالة السلطان. فهو مؤهل بما يكفي لإحداث أي إصلاحات سياسية أو قانونية أو اجتماعية مبنية على القرآن. هو المرجع القانوني الوحيد في مسائل تجديد الاسلام كونه خليفة خلفاء رسول الله، وأمير المؤمنين، وصوت الإسلام الحيّ”.

وفقاً لشراغ علي، تلميذ ورفيق المفكر الهندي الكبير سيدّ أحمد خان (ت. 1898)، فإن السلطان العثماني كخليفة وأمير للمؤمنين هو صاحب التفويض الحصري للقيام بالإصلاحات السياسية والقانونية والاجتماعية المرجوة وإعطائها الشرعية التي تحتاجها. بكلام آخر، هو صوت الإسلام الحي. وبالنظر إلى سلطته القانونية – أي السلطة الممنوحة له كخليفة – يجب عليه أن يقودهم عبر الاصلاح الذي لا مفر منه من أجل تلبية متطلبات العصر الحديث التي فيها مصلحتهم.

يقول الشيخ علي عبد الرازق ما خلاصته أنّ الخلافة ليس لها اثبات في القرآن أو الحديث النبوي، وأن جمع الرئاسة الدينية والسياسية بشخص الخليفة هو غريب عن الاسلام ومناقض لأحكامه

لعبت دعوة شراغ علي والعديد من آرائه بشأن الخلافة دوراً كبيراً في ما بعد في إطلاق ما يعرف بـ”حركة الخلافة في الهند” (1919-1924)، والتي انهارت بسبب إلغاء الخلافة التركية كما سنرى أدناه. لكن المهم هو أنّه يجب قراءة ما قاله شراغ علي وقيام حركة الخلافة وأمثال ذلك كرأي نابع من واقع المسلمين الخاص في الهند؛ أي واقع أنهم أقليّة تخشى ـ من جهة ـ استقلال بلدها إذ ذلك يقود عملانياً إلى حكم الأكثرية الهندوسيةّ، ومن جهة أخرى، كانت هذه الأقلية رافضة للحكم الاستعماري البريطاني. من هنا كان ترويجهم لخلافة إسلامية (سنية) لكي تساعد في خلق شعور عام عند مسلمي الهند بالانتماء إلى عمق إسلامي يتعدّى الإطار الهندي وجنوب آسيا، بغض النظر عما إذا كان هكذا طموح واقعياً أم لا.

استعر النقاش حول الخلافة ووظيفتها في الإسلام الحديث مع إعلان قيام النظام الجمهوري في تركيا الحديثة وطلب مصطفى كمال أتاتورك من البرلمان التركي إلغاء الخلافة؛ وهو أمر صدّق عليه البرلمان التركي في 3 آذار/مارس 1924. (آخر خليفة في ذلك الوقت كان عبد المجيد الثاني الذي تولى المنصب في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1922 مع الغاء منصب السلطان ونهاية الدولة العثمانية بشكل قانوني).

أهم سجال كان ذلك الذي حدث (بطريقة غير مباشرة) بين الشيخ علي عبد الرازق والشيخ محمّد رشيد رضا. يقول رضا في وصفه للخلافة في كتابه “الخلافة أو الإمامة العظمى”:

“الخلافة مناط الوحدة، ومصدر الاشتراع، وسلك النظام، وكفالة تنفيذ الأحكام، وأركانها أهل الحل والعقد رجال الشورى، ورئيسهم الإمام الأعظم، ويشترط فيهم كلهم أن يكونوا أهلاً للاشتراع، المعبر عنه في أصولنا بالاجتهاد والاستنباط.”

ويضيف رضا أنّ الخلافة ضرورية من أجل الحفاظ على الاسلام وأن اختيار الخليفة هو واجب على الأمة شرعاً وعقلاً.

من يسمع كلام رضا يعتقد أنّ نهاية العالم آتية لا محال إلاّ إذا قام المسلمون بانتخاب خليفة لهم، وهو أمر محيّر حيث يصرّ رضا أيضاً على ضرورة عدم الاستعجال في تنصيب خليفة، إذ على المسلمين أن يعملوا أوّلاً على تهيئة جيل يمكنه أن ينتج طبقة من أهل الحلّ والعقد ليتمكّنوا بعد ذلك من اختيار خليفة كفؤ. بمعنى آخر، وبالرغم مما قاله  رضا عن دور الخليفة المحوري، فهو أقرّ بأن زمانه غير ملائم للخلافة.

إقرأ على موقع 180  لبنان: تأجيل الاستشارات النيابية أم مصادرة صلاحيات دستورية؟

وردّ الشيخ علي عبد الرازق في كتابه “الاسلام وأصول الحكم: بحث في الخلافة والحكومة في الاسلام” على “شطحات وتنظيرات” محمد رشيد رضا، إذ يقول ما خلاصته أنّ الخلافة ليس لها اثبات في القرآن أو الحديث النبوي، وأن جمع الرئاسة الدينية والسياسية بشخص الخليفة هو غريب عن الاسلام ومناقض لأحكامه. إذاً، كتاب عبد الرازق سياسي بامتياز، هدفه الأساسي هو فصل الدين عن الدولة وهو أمر رفضه رضا، ومن هنا إصرار الأخير على التنظير من أجل خلق أرضية لجمع الدين والدولة.

تعرّض عبد الرازق للتكفير، لكن الحقيقة التي لا غبار عليها بتاتاً أن أكثريّة المسلمين كانت مقتنعة بما قاله، لذلك نجد أنّهم رموا بالخلافة جانباً؛ للتذكير بقصة الشريف حسين بن علي (أمير الحجاز) وسخرية المسلمين منه حين أعلن نفسه خليفة في آذار/مارس 1924، بعد يومين من قرار البرلمان التركي. لكن الدليل الأكبر على ذلك هو أنّه في معظم العالم الاسلامي نجد أنظمة سياسية وقانونية استعارها المسلمون من أوروبا (أو فرضها عليهم الاستعمار)، وحصروا الشريعة بأمور ضيقة مثل العبادات والزواج والارث، وألغوا المحاكم الاسلامية وأجهزتها التي كانت تشرف على القانون وتنفيذه في مجالات كثيرة كالتجارة والجريمة والسرقة ومسائل مشابهة، وخلقوا لأنظمتهم الجديدة أجهزة قضائية وسياسية مدنية (برلمان، مجلس عدلي، رئاسة الدولة، مجلس الوزراء، الخ) ما زالوا يعتمدونها حتّى يومنا هذا.

مقاربة المفكرين والحكام المسلمين لمؤسسة الخلافة تشير إلى الإبداع الحذق في صياغة وإعادة صياغة كثير من ركائز الاسلام من أجل خلق آليات اعتقدوا أنّها تساعدهم على مواجهة التحديات وإيجاد حلول لها

حتّى عند الشيعة الاثني عشرية، الكلام عن الخلافة في العصر الحديث إمّا أنّه تاريخي بحت وعقائدي (أي يتعلق بمفهوم الايمان وليس بمفهوم الحكم الحالي) كما نجد في كتاب “الإمامة الكبرى والخلافة العظمى” لآية الله محمّد حسن القزويني (ت. 1960)، أو ليس لها أي ذكر كما نرى في كتاب “ولاية الفقيه وفقه الدولة الاسلامية” لآية الله العظمى حسين علي منتظري (ت. 2009).

خلاصة الأمر أنّ الخلافة في الاسلام هي مؤسسة أوجدها الحكّام لأغراض سياسية بالدرجة الأولى واستخدموا علماء وشعراء وبطانة من أجل ترسيخ أسسها وجعل المسلمين يتقبّلونها، لكن مع ضعف الخلفاء أو اختفاء آخر أئمة الشيعة الاثني عشرية، لم يعد من لزوم لمؤسسة الخلافة من أجل إدارة شؤون المسلمين، وهو أمر شرعنه الفقهاء إذا احتفظوا هم بمهامها الدينية والشرعية ونقلوا مهامها السياسية إلى مؤسسة السلطنة. فأصبحت الخلافة لزوم ما لا يلزم (رحم الله أبا العلاء المعري).

وفي القرن العشرين، استبدلوا مفهوم الحكم بمؤسّسات سياسية مستوحاة من التجربة الاوروبية، بما في ذلك الملوك والأمراء الذين يحكمون وفقاً لمنطق سياسي أوروبي لا وفق التراث الإسلامي. لذلك عندما أعلن قائد تنظيم “داعش” أبو بكر البغدادي عن قيام “دولة الخلافة” وتعيين نفسه “خليفة المسلمين” في حزيران/يونيو 2014، كانت ردّة فعل معظم المسلمين (وبينهم الكثير من الجهاديين) هو رفض هذه “الدولة”، وأحد أسباب ذلك هو أن الخلافة ليس لها مكان في هذا العصر أو أنه نتيجة للتنظير الديني، لا يمكن إيجاد شخص كفؤ لها. مكانها في الرمزيات والحنين إلى ماضٍ يحب البعض أن يتذكر أمجاده لا أن يُعيد إحياءه.

والعبرة الأهم في هذا البحث (وفي المقالات الثلاث السابقة أيضاً) هي أنّ مقاربة المفكرين والحكام المسلمين لمؤسسة الخلافة تشير إلى الإبداع الحذق في صياغة وإعادة صياغة كثير من ركائز الاسلام من أجل خلق آليات اعتقدوا أنّها تساعدهم على مواجهة التحديات وإيجاد حلول لها. بكلام آخر، طريقة “التلاعب” هذه لا تشير قطعاً إلى أنّ كبار علماء المسلمين عبر التاريخ (بمن فيهم من نسمّيه الآن الاسلام التقليدي عند أهل السنة أو الاثني عشرية) لم تكن مقاربتهم للفكر الديني من منطق الخضوع الأعمى بل من منطق أنّ واجبهم التنظير متى شاؤوا، أو الخضوع متى شاؤوا، أو التغيير متى شاؤوا.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  الفرق الإسلامية.. بين الجهل والحقائق التاريخية (1)