رحلة ماكرون السعودية.. من يُمثل الإعتدال السني في لبنان؟

ما أن هدأ غضب الفرنسي جراء الإلغاء المفاجئ لصفقة الغواصات النووية الفرنسية لأستراليا، حتى بدأ إيمانويل ماكرون يستعيد ما تيسر له من قوة منحتها له التسوية مع الولايات المتحدة.. وها هي تباشيرها تطل مع "الصفقات" في كل من أبو ظبي وجدة.

لم تكن خسارة فرنسا مادية فقط بإلغاء صفقة مع إستراليا تبلغ قيمتها 66 مليار دولار، ولا بإهتزاز صورتها كدولة تحتل موقعاً متقدماً بين متصدري صناعة الأسلحة في العالم، انما بإعلان “تحالف اوكوس” الثلاثي الأميركي البريطاني الأسترالي، بما يعنيه من إستبعاد لفرنسا عن المحيط الهادئ واقتصار الحضور الاوروبي على بريطانيا التي باتت خارج الاتحاد الاوروبي سياسياً، وهذا الأمر إعتبره الفرنسيون ليس طعنة في الظهر بل ضربة قاسية جداً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.. والأهم من ذلك معنوياً.

تحركت فرنسا باتجاه ملعب الشرق الاوسط الذي تتحضر الولايات المتحدة لتخفيف وجع رأسها فيه، وهذا ما تأكد بعد الخروج الأميركي الدراماتيكي من افغانستان وتسليم حركة “طالبان” السلطة والتخلي عن عقدين من التحالف مع زعماء وجماعات شاهدناهم يتزاحمون  للحصول على مقعد في طائرة مغادرة في وقت امتنع جيران افغانستان في البر عن استقبالهم، ناهيك عن صرف أكثر من ألف مليار دولار أميركي على “أفغانستان الجديدة” ذهبت كلها أدراج الرياح!

أفسح الضوء الأخضر الاميركي لفرنسا المجال للتحرك نحو المنطقة. الخليج هو بيضة الذهب ومنه تستعيد فرنسا بعض ما خسرته من صفقة الغواصات مع استراليا ومنه تستعيد ايضاً علاقاتها ونفوذها انطلاقا من العلاقة التاريخية مع لبنان. اثمرت زيارة الامارات عن صفقة “تاريخية”، بينها 80 طائرة حربية من طراز “رافال”، ليصل إجمالي حاصل الزيارة إلى أكثر من 20 مليار دولار!

وبإستثناء ما كشفت عنه الصحافة الفرنسية (إذاعة آر. تي. إل) عن توقيف الأمن الفرنسي أحد المتهمين السعوديين في جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في خريف العام 2018 في القنصلية السعودية في إسطنبول، وهو جندي في الحرس الملكي، كان متوجهاً من مطار شارل ديغول في باريس إلى مطار الرياض، في خطوة لم تتضح أبعادها الكاملة حتى الآن، ولا سيما تأثيرها على نتائج الزيارة الماكرونية الأخيرة إلى الخليج، فإن عودة سريعة إلى الوراء قليلاً، تجعلنا نستنتج أن فرنسا شاركت فولكلورياً في ادانة جريمة قتل جمال خاشقجي، حتى أن كل الكلام الفرنسي عما يسمى “حقوق الانسان” بدا متواضعاً للغاية مقارنة بالنبرة العالية السقف التي رفعها الديموقراطيون في الولايات المتحدة إلى درجة أن جو بايدن وقع بعد فوزه في الإنتخابات الرئاسية، اسير هذا الخطاب الديموقراطي حول “وجوب الاقتصاص من مرتكبي الجريمة”، وإلا ماذا يُفسر قرار بايدن بمقاطعة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان سوى خشيته من معارضة يسار الحزب الديموقراطي وشماتة الجمهوريين!

عملياً، تبدو الاتصالات الدبلوماسية بين قيادتي الولايات المتحدة والسعودية شبه متوقفة منذ حوالي السنة تقريباً، إلى درجة أن سفيرة المملكة العربية السعودية في الولايات المتحدة ريما بنت بندر بن سلطان باتت شبه عاطلة عن العمل. لذلك، جاءت زيارة ماكرون إلى السعودية عبارة عن محاولة فرنسية لملء الفراغ. زدْ على ذلك أن لقاء ماكرون وبن سلمان فيه فوائد متبادلة للجانبين.من جهة،  بن سلمان الطامح إلى تسلم العرش السعودي في أقرب فرصة يدخل النادي الدولي مجدداً برفقة رئيس دولة غربية كبرى عضو دائم في مجلس الامن. بالمقابل، وجد ماكرون في إنتظاره عقود تسلح وطائرات ومقاولات مغرية تساعده في الداخل الفرنسي على اسكات المعارضين وتدعم مؤيديه في حملة تجديد انتخابه لدورة ثانية في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية المقررة في الربيع المقبل.

ثمة مهمة عاجلة امام فرنسا في المرحلة المقبلة هي اعادة التوازن السياسي الى لبنان بدعم تيار الاعتدال السني قبيل الانتخابات النيابية. حتماً سيكون مفاجئاً إذا تم إعتماد نجيب ميقاتي عنواناً لهذا التيار بدل سعد الحريري. عندها سيكون مُبرراً طرح سؤال من نوع هل نحن أمام ثنائية جديدة: ماكرون ـ ميقاتي بدل جاك شيراك ـ رفيق الحريري؟

يأتي ذلك في ظل ازمة انعقاد مجلس الوزراء في لبنان وتدابير سعودية وخليجية ضد الحكومة اللبنانية، بينها سحب سفراء ووقف استيراد المنتجات اللبنانية بذريعة انتقاد وجهه وزير الاعلام اللبناني جورج قرداحي إلى خوض حرب اليمن، وذلك قبل ان يتولى الوزارة بشهر عبر إحدى القنوات الفضائية الخليجية.

لقد نجح ماكرون في كسر الجليد بين لبنان والسعودية من خلال الاتصال الهاتفي الذي رعاه بين بن سلمان ونجيب ميقاتي. اكثر من ذلك، السياسة الفرنسية في لبنان تعود الى اواخر القرن التاسع عشر وفرنسا هي الدولة التي انشأت لبنان الكبير بحدوده الحالية وهي الدولة التي منحته الاستقلال وكتبت دستوره وبنت مؤسساته وابرزها الجيش اللبناني.

سوف تعمد فرنسا الى استحضار العلاقات الانتدابية مع لبنان وهي حاضرة لدى العديد من اللبنانيين. فقد احتفظت بعلاقات مع جميع القوى السياسية بما فيها حزب الله الذي بات منظمة ارهابية في بريطانيا والمانيا وقبلها الولايات المتحدة. هذه العلاقات تؤهلها للتوسط واستعادة نفوذها في لبنان والانطلاق منه نحو المنطقة.

إقرأ على موقع 180  كونديرا: الروح السلافية وأزمة أوروبا الحضارية | (2)

ملف لبنان اذا صح التعبير موجود في دوائر القرار الفرنسي بكل تفاصيله. ومن المتعارف عليه ان فرنسا كانت صديقة مميزة للموارنة لكن بعد وصول رفيق الحريري الى السلطة ووصول صديقه جاك شيراك الى الرئاسة الفرنسية اصبح الحريري ومعه سنة لبنان (وليس الموارنة) في صدارة اصدقاء فرنسا في لبنان. الدولة العميقة في فرنسا لم تترك آل الحريري بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005. دعمت وريثه سعد الحريري بقوة وكان الرئيس ماكرون شخصياً وراء حملة انهاء ازمة إعتقال الحريري في السعودية في العام 2017 وعودته الى لبنان عن طريق باريس.

ويمكن القول إنه من بين اهم التحديات الراهنة الماثلة امام الادارة الفرنسية هي معالجة مستقبل الطائفة السنية في النظام السياسي اللبناني في ضوء قرار المملكة العربية السعودية بنزع مظلتها عن هذه الطائفة الوازنة لبنانياً. المسلمون السنة باتوا شبه مشتتين، كما يبدو من تصريحات قادتهم ويخشى الفرنسيون ان تنجح تركيا في تشكيل ظهير إقليمي للقسم الأكبر منهم وثمة مؤشرات تصب في هذا الإتجاه.

كما ان “قوى 8 اذار” التي يقودها حزب الله تستغل هذا الفراغ وتعمد الى تحشيد انصارها من دون إغفال إحتمال وقوع بعض الشباب في حبال تنظيمات أصولية متطرفة مثل “القاعدة” و”داعش”، علماً أن ظاهرة إلتحاق مجموعات لبنانية بما تسمى “الثورة السورية” كانت محدودة للغاية، وهذا إن دلّ على شيء إنما على مدى رسوخ الإعتدال السني المتمثل بتيار المستقبل، غير أن ذلك لا ينفي حقيقة موجعة بأن الفراغ الناجم عن الإنسحاب السعودي والخليجي في لبنان سيجعل الساحة السنية في الإنتخابات المقبلة مشرعة الأبواب أمام التطرف وبالتالي لن يكون مستغرباً أن يقال للمسلمين السنة: “مرجعكم الأول والأخير هو سمير جعجع”!

ثمة مهمة عاجلة امام فرنسا في المرحلة المقبلة هي اعادة التوازن السياسي الى لبنان بدعم تيار الاعتدال السني قبيل الانتخابات النيابية. حتماً سيكون مفاجئاً إذا تم إعتماد نجيب ميقاتي عنواناً لهذا التيار بدل سعد الحريري. عندها سيكون مُبرراً طرح سؤال من نوع هل نحن أمام ثنائية جديدة: ماكرون ـ ميقاتي بدل جاك شيراك ـ رفيق الحريري؟

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  في أن تنتصر وتصفح