يعود هذا الفشل إلى أسباب عديدة أبرزها خطة توزيع الخسائر، وزعم أو وهم رد الودائع، وهي الخطة التي وصفت من قبل الصندوق وخبراء المال والاقتصاد المحايدين فضلاً عن عموم المودعين باللاوقعية والظالمة والمستهترة.
والأنكى ان جمعية المصارف رفضتها أيضاً لأنها تأتي على بعض رساميل البنوك، وتنصل منها نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي مدعياً أن التوسع في “الليلرة” (رد الودائع الدولارية بالليرة اللبنانية) هي من عنديات الحاكم بأمر المنظومة رياض سلامة، برغم أن الأخير لم يدع هو الآخر أبوة الخطة، فقناعته للحل المزعوم لم تتزحزح عن مغامرة “ليلرة” أكبر وأوسع نطاقاً حتى لو كانت انتهاكاً بيناً صارخاً لأبسط حقوق المودعين في أموالهم وأجناء أعمارهم ومستقبل أبنائهم.
طلبت الحكومة من الصندوق، في مراوغة أخرى يائسة، عدة اسابيع اضافية، على أن تستعين، بناء على نصيحة الصندوق، بشركة لازار لاعداد خطة بديلة، لعلها تحظى بقبول مبدئي هذه المرة.
يذكر ان حكومة حسان دياب التي استقالت غداة انفجار مرفأ بيروت في آب/ أغسطس 2020، كانت استعانت بشركة لازار التي وضعت خطة حددت بموجبها الخسائر وطرحت كيفية استيعابها. لاقت تلك الخطة آنذاك قبول صندوق النقد، في مقابل معارضة شديدة من الأطراف السياسية الوازنة ومصرف لبنان وجمعية المصارف، في لقاء المتسلطين سياسياً وميليشياوياً ومالياً، من دون أدنى عبء أخلاقي ووطني بحقوق المودعين.
وكان صندوق النقد حذر الفريق اللبناني المفاوض في صيف 2020 من ان الانصياع لما يخطط له حاكم مصرف لبنان رياض سلامة سيهبط بسعر صرف الليرة أكثر. وتوقع الصندوق آنذاك، أي قبل أكثر من سنة ونص عندما كان سعر الدولار 7 آلاف ليرة ، أن يصل السعر الى 20 ألف ليرة، فتحققت النبوءة بحذافيرها.. لا عجب، انها حسابات صندوق النقد الدولي وليس دكان مصرف لبنان!
بعد سنة ونصف تعود البلاد الى المربع الأول، إذ لا يمكن توقع مقاربة مختلفة كثيراً لشركة لازار عما سبق وقدمته لحكومة دياب التي تمكن تحالف مصالح خبث سياسيين ومصرفيين من هزيمتها على حساب سذاجة المودعين.
مع إقتراب مهلة الصندوق، سكتشف حكومة ميقاتي أن هذا “النصر” سيكون بلا كبير فائدة. فحصول اتفاق مبادئ مع الصندوق ـ ولا يبدو بمتناول اليد ـ لن يقلب المعادلة، كما يشتهي الثلاثي ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي، قبل بدء تنفيذ الاصلاحات التي يحاول سياسيو لبنان تجنب تجرع كأسها المرة منذ عقدين من الزمن على الاقل
خلاصة ما يمكن توقعه بسهولة هذه المرة أيضاً يدور حول كيفية استيعاب خسائر تقدر بنحو 69 مليار دولار ( وربما أكثر بانتظار التقييمات الجديدة من شركة لازار) معظمها في مصرف لبنان والمصارف. ليتسنى رد ودائع تقدر حالياً بأكثر من 100 مليار دولار. والمؤشرات الأولى تؤكد أن لازار لن تتراجع عن خطوط عريضة أبرزها ضرورة إعادة رسملة المصارف وتحميل مصرف لبنان والدولة اعباء اضافية، على ان يأتي المودع في المرتبة الاخيرة من التضحيات المطلوبة، فتحفط كامل حقوق صغار المودعين حتى مبلغ 200 الف دولار على سبيل المثال، وتتحول أجزاء أساسية من حقوق كبار المودعين إلى مساهمات في رساميل المصارف، بعد اقتطاع اجزاء منها لا سيما الفوائد الباهظة المتراكمة. كما سيتوسع البحث في كيفية الإفادة من أصول الدولة لرد أجزاء من الودائع الكبيرة على مراحل تمتد على المديين المتوسط والطويل.
ستجد خطة لازار القديمة المعدلة معارضة من مصرف لبنان وجمعية المصارف حتماً، على غرار ما حصل في المرة السابقة. وهذا ما تعلمه حكومة ميقاتي علم اليقين، لكنها تسعى الى “نصر” وهمي ما عشية الانتخابات النيابية لتظهيره خطوة الى الأمام مرضاةً للمجتمع الدولي، ولكن مع إقتراب مهلة الصندوق، سكتشف حكومة ميقاتي أن هذا “النصر” سيكون بلا كبير فائدة. فحصول اتفاق مبادئ مع الصندوق ـ ولا يبدو بمتناول اليد ـ لن يقلب المعادلة، كما يشتهي الثلاثي ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي، قبل بدء تنفيذ الاصلاحات التي يحاول سياسيو لبنان تجنب تجرع كأسها المرة منذ عقدين من الزمن على الاقل. ولم يتراجعوا قيد أنملة بعد عن ممانعاتهم ومراوغاتهم برغم الانهيار الكبير.
والباعث على التشاؤم أو الحنق أن المنظومة تتشبث بمواقعها ونفوذها أكثر من أي وقت مضى، ما يشي بلا أدنى شك بتمييع الاصلاحات أيضاً وأيضاً، لأنها لو نفذت ستأتي على هيمنتها وتسلطها ومصالحها، وهذا من رابع المستحيلات عند حفنة زعماء يعلمون أن ثغرة واحدة في جدارها تعني انهيار كل هياكل المنظومة الفاسدة العرضة لحساب عسير.
اما المجتمع الدولي فأصبح متعباً، ان لم نقل مشمئزاً من طبقة ثعالب وذئاب سياسية. فرئيس الجمهورية، يعتقد واهماً نفسه في المعارضة وليس على رأس الحكم، ويحاول بجنون كسر أخصامه وتهشيمهم، كما فعل مع سعد الحريري، بصلاحيات من زمن غابر واصلاحات من زمن لن يأتي، ومن رئيس مجلس تحول الى عرّاب التوازنات الطائفية والمصلحية وغير المؤمن بأي من شعارات التغيير الجذري والإصلاح الهيكلي للنظام الذي وجدت فيه الشيعية السياسية ضالتها، ورئيس حكومة يُجرّب، تكريس نفسه رئيس حكومة بغطاء دولي أولاً ولو على أنقاض وطن.
لن يتوقف المجتمع الدولي كثيراً أمام حصول اتفاق من عدمه مع الصندوق بقدر تطلعه الى انجاز الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة جديدة لعل وعسى يحصل تجميل ما في جدران “خربة” لبنان.
لكن التوقعات الأقرب للواقع والمبنية على تجارب مريرة متكررة دورياً منذ ما بعد 2005، تشير الى صعوبات سياسية ستتجدد وتتعقد أكثر بعد الانتخابات النيابية اذا حقق الفريق المعارض لحزب الله تقدما في عدد النواب، او اذا حصل الحزب على اكثرية نيابية.. فالأمر سيان كما يقول حزب الله نفسه ليبقى القابض الأول على خيوط لعبة ضد الأميركيين والخليجيين في شد حبال بينهما يدفع ثمنه لبنان من استقراره واقتصاده ومعيشة أبنائه التي باتت أقرب الى “العرقنة” و”السورنة” و”اليمننة” و”السودنة”، منها الى أي بلد طبيعي آخر.
سيتأخر حتما تشكيل حكومة، وربما تدخل البلاد في فراغ حتى الانتخابات الرئاسية في الخريف، وهو الاستحقاق الأهم بالنسبة للفريق المعارض لحزب الله والمتسلح بموقف عربي ودولي داعم هذه المرة اكثر من اي مرة سابقة.
على كل حال، لن يفتح أي بحث جدي في بدء تنفيذ الاصلاحات قبل السنة المقبلة. ومن الآن حتى تاريخه سيكون لبنان في حالة مراوحة تزداد فيها المؤشرات الاقتصادية والمالية سوءاً.
لبنان ليس مستجداً على التسول مهما اختلف شكل التسول سواء كان بقروض أو مساعدات. فكما لمعظم اللبنانيين أقارب مغتربين يدعمونهم عند الشدة، كذلك للسياسيين سفارات ودول يبيعونها الوطن كرمى لحفنة دولارات وسلة مصالح، ولا عزاء للوطنية التي يتشدقون فيها على مدار نهاراتهم الكاذبة ولياليهم المارقة
وفي هذه الحالة، يؤكد مسؤول فرنسي معني مباشرة بمتابعة أزمات لبنان ان السيناريو الأقرب هو أن يصبح لبنان على أجندة الإعاشة الدولية. فالخلافات السياسية ستشتد أكثر على وقع نتائج الانتخابات النيابية وكباش الاستحقاق الرئاسي. فاذا حقّق حزب الله وحلفاؤه الأكثرية النيابية سيتمسك بكونه الناخب الأكبر لرئيس الجمهورية فيتكرر سيناريو عهد ميشال عون بـ”عجره وبجره”. واذا فقد الأكثرية النيابية سيستخدم بعناد حقوق “الفيتو” التي دخلت في الممارسات السياسية بقوة منذ اتفاق الدوحة في 2008. وفي الحالتين لن يحقق لبنان توافقاً جوهرياً يضعه على سكة التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
يعلم رئيس الحكومة ان هذه السيناريوهات مطروحة، وهو لذلك يحاول ايجاد خطة “باء” ظهر عنوانها في زيارته الى الفاتيكان وتناوله الشأن الإنساني مع البابا فرنسيس الذي بادر يومها الى الاتصال بشيخ الأزهر الدكتور محمد الطيب، لوضع حزام أمان انساني يقي اللبنانيين شرور الصدمات الاضافية، بانتظار حل سياسي ما لن يلوح من لبنان بل من تفاهمات اقليمية ودولية لها أثمانها بطبيعة الحال. كما ان ميقاتي في زياراته الخارجية الأخرى او لقاءاته مع مسؤولين دوليين في لبنان يتلمس دائما سبيل المساعدات لعلمه ان لا قروض الا من بوابة صندوق النقد الدولي التي لا يبدو أنها سهلة المفتاح.
هكذا إستطاع أن يفوز الجيش بفتات مساعدات أميركية تقي ضباطه وجنوده عوز الغذاء والإستشفاء، وهكذا أعطى رجب طيب أردوغان أوامره بأن تصل مساعدات تركيا الغذائية سنوياً إلى نحو خمسين ألفاً من عناصر قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة وجهاز الأطفاء. يسري ذلك على المستشفيات التي تُغدق عليها الدول بمساعدات لزوم تسهيل أمور المحتاجين للطبابة والإستشفاء، ناهيك بجسور المواد الغذائية التي لم تتوقف منذ إنفجار مرفأ بيروت حتى يومنا هذا وأبرزها تلك الآتية من مصر.
قد تكون الحقيقة مرة، لكن لبنان ليس مستجداً على التسول مهما اختلف شكل التسول سواء كان بقروض أو مساعدات. فكما لمعظم اللبنانيين أقارب مغتربين يدعمونهم عند الشدة، كذلك للسياسيين سفارات ودول يبيعونها الوطن كرمى لحفنة دولارات وسلة مصالح، ولا عزاء للوطنية التي يتشدقون فيها على مدار نهاراتهم الكاذبة ولياليهم المارقة.