هل يستفيد الشرق الأوسط من حرب أوكرانيا؟

مع بداية الأسبوع الثالث للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بدا الشرق الأوسط عالقاً بين اصطفاف إجباري تفرضه واشنطن كأحد أدوات الضغط على موسكو، وبين مصالح وأولويات غالبية القوى الإقليمية التي لا تتوافق على طول الخط مع مقاربات إدارة جو بايدن للمنطقة.

سنة أولى من ولاية جو بايدن كانت كافية لإختبار كل الشعارات التي رفعها الديموقراطيون في حملتهم الإنتخابية. الاصطفاف الإجباري الذي يطلبه بايدن تجاه الحرب في أوكرانيا صار بمثابة بوصلة معتمدة لدى ساكن البيت الأبيض في تحديد اتجاه علاقة إدارته في المستقبل القريب بدول المنطقة.

على نفس المنوال، فإن تعاطي القوى الإقليمية تجاه هذا التوجه الأميركي، تراوح بين التماهي غير الفعّال وبين الاستجابة المشروطة، وهو ما ظهر في تصويت كل من مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وانعكس كذلك بشكل أوضح في زيارات وبيانات وتصريحات رسمية وإعلامية لمختلف قادة ومسؤوليّ دول المنطقة، والتي أظهرت على اختلاف أولويات كل منها ميلاً كبيراً لتعزيز نمط التوازن تجاه تطورات الحرب في أوكرانيا، كبديل عن الاصطفاف/الاستقطاب الإجباري الذي تفرضه واشنطن منذ مطلع الألفية على العالم بشكل عام والشرق الأوسط بشكل خاص.

وتدل تحركات وتصريحات بايدن المتواترة على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية، وأبرزها قرار حظر النفط الروسي الذي قفز بأسعار النفط العالمي إلى مستويات قياسية لم تحدث منذ 2008، والذي أتى عقب إلقاء خطاب حالة الاتحاد أمام الكونجرس مطلع الشهر الحالي، أن السقف الأميركي تجاه تطورات المشهد في أوكرانيا بات دعائياً أكثر مما هو واقعي وسياسي؛ فمحاولة واشنطن إلزام “العالم المتحضر” بمحددات إدارة صراعها مع موسكو، لم تؤتِ ثمارها بشكل يجعله توجهاً عالمياً، بل هو فقط توجه أميركي لا يتوافق حتى مع أولويات ومصالح الشركاء الأوروبيين، خاصة في ما يتعلق بمسائل مثل بدائل إمدادات الطاقة الروسية لأوروبا، واستمرار تدفق اللاجئين الناتج عن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا.

الجميع يدرك مدى التباين بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوربيين من حيث عدم واقعية السقف الأميركي بإطالة أمد النزاع في أوكرانيا وكذلك توقيته، وهو الأمر الذي جعل واشنطن تلجأ مضطرة لمباحثات نفطية مع فنزويلا المحاصرة بعقوبات أميركية قاسية منذ سنوات، الغرض منها موازنة تداعيات إقصاء النفط الروسي من سوق الطاقة الأميركي أولاً والعالمي ثانياً، وهو ما خلق – بجانب الغاز وخطوطه – هامشاً إضافياً يمكن توظيفه من جانب القوى الإقليمية المنتجة للطاقة، في عملية إعادة هيكلة علاقاتها المتعثرة مع الولايات المتحدة، وتحديداً لجهة ضرورة مراعاتها لأولويات ومصالح هذه الدول، وذلك عبر موازنة المخاطر الناجمة عن الحرب في أوكرانيا – القمح والأمن الغذائي مثلاً- بفرص متنوعة خارج الاستقطاب الذي تصدره وتحاول فرضه واشنطن.

فترة اقتناص الفرص والمكاسب ستمتد بموازاة امتداد فترة الحرب الأوكرانية، التي رصد الكونجرس الأميركي لها 14 مليار دولار لدعم كييف بها، وذلك قبيل قمة أوروبية كان موضوع الغاز الروسي وسُبل تعويضه حسب المقترحات الأميركية موضع خلاف لا يبدو أنه سيُحل في القريب وفق توقيت بايدن

يؤثر هذا بشكل مباشر في مجريات مفاوضات فيينا النووية بمراحلها الأخيرة، والتحركات والتصريحات الموازية لها، سواء من القوى الإقليمية المعنية بتداعيات التوصل لاتفاق نووي وعلى رأسها إسرائيل والسعودية، أو حتى من بين أطراف التفاوض الرئيسية وعلى رأسهم طهران وواشنطن وموسكو وبكين وبروكسل؛ حيث عكست الجولة الأخيرة رغبة معظم الأطراف بتجنيب المفاوضات النووية تبعات الأزمة الأوكرانية في ما يتعلق بالوصول لاتفاق نهائي، تتأكد استمراريته عبر ضمانات تقدمها واشنطن لأطرافه، مفادها بأن لا تستخدم الحرب في أوكرانيا وحزم العقوبات على موسكو،  كحجة مستقبلية لتعطيل الاتفاق وتنفيذ بنوده.

يتسع السابق لما يشبه نمط تحوط وتوازن من جانب القوى الإقليمية على اختلاف مواقعها فيما يتعلق بإدارة علاقاتها بالولايات المتحدة، وهو ما يتجاوز مسألة المناورة التقليدية التي برزت خلال السنوات الماضية في محطات تأزم علاقات بعض هذه الدول مع واشنطن واشتداد وتيرة الصراعات الاقليمية، وينقلها لمحاولة خلق نمط مستدام نسبياً يُجنب دول المنطقة تبعات المتغيرات الأميركية الداخلية والخارجية المتسارعة، خاصة وأن الشرق الأوسط كان المسرح الأميركي المفضل لتجريب هذه المتغيرات وتحمل أثمانها الباهظة على مدار العقود الثلاثة الماضية.

على أن هذا التوازن والتحوط لا يأتي من باب ترقب من موضع سكون ما سيحدث بين الثلاثة الكبار، ومن ثم الانحياز للرابح، ولكنه يأتي من دافعين أساسيين مرتبطين ببعضهما: الاول هو هيكلة أميركا لسياساتها الخارجية وما يتعلق بالشرق الاوسط منها خاصة بعد التطورات الاوكرانية، والثاني اولويات القوى الاقليمية ومدى توافقها/تباينها مع السابق من حيث التوقيت والاولوية، ومن ثم محاولة إدارة توازن قائم وفق هذه الأولويات، وفي نفس الوقت لا يتصادم مع المحددات الأميركية.

يُستدل على السابق من خلال التحركات الإقليمية التي أتت على وقع الحرب في أوكرانيا، والتي تراوحت بين تحريك ملفات عالقة استغلالاً للحظة الحرب الحالية، وما بين المضي قدماً في تعزيز سياسة التحوط والتوازن وفق أولويات ليس من المطلوب اصطدامها مع ما تريده واشنطن، ولكن الوصول لتسويات عاجلة، خاصة التي تتمحور حول النقاط السابقة، والتي تشكل بجوار مخاطر ارتدادات الحرب على المنطقة فيما يتعلق بالتبعات الاقتصادية والأمن الغذائي، فرصاً لاستدامة هذا النمط مستقبلاً، وليس فقط حصره كإجراء طارئ مرتبط بالترتيبات والتوقيتات الأميركية لإدارة الصراع مع موسكو على الأراضي الأوكرانية، وهو ما يتطلب تنسيقاً بين القوى الإقليمية لضبط تراتبية الأولويات التي لم يعد من بينها التنافس فيما بينهم من أجل وكالة المصالح الأميركية أو قيادة قاطرة التطبيع العربي مع إسرائيل.

إقرأ على موقع 180  "وول ستريت جورنال": إيران قوة دولية برغم أميركا 

تبرز التحركات الإقليمية التي أتت قبيل وعشية قرارات واشنطن الأخيرة المتعلقة بالنفط، متمثلة في زيارات ومكالمات لم تكن موسكو بمعزل عنها، وكذلك تصريحات رسمية متكررة على مدار الأسابيع الماضية، عكست توافقاً عاماً في تعزيز نمط التوازن السابق ذكره على مستويين: الأول بين القوى الإقليمية وخاصة التي لم تحسم كافة الملفات الخلافية بينها، ولكن على أرضية التحوط واستمرار الحوار. والثاني بين هذه القوى وبين واشنطن، وذلك من حيث توظيف ملفي الطاقة والملاحة خلال هذا الوقت الحرج أميركياً، في تطوير هامش المناورة التقليدي مع ساكن البيت الأبيض، وخاصة إذا ما عمد الأخير إلى استغلال معتاد لهذه الملفات الخلافية على طريقة فرق تسد.

ولا تقتصر هذه الفرص على الغاز والنفط وتوظيفهما أميركياً على النحو السابق ذكره، ولكن تمتد إلى مسألة الملاحة وسلاسل الإمداد العالمية، وهي ما ترتبط الآن ومستقبلاً بالفعل الصيني وليس الروسي فقط، وذلك على مستوى إقليمي يمتد من الخليج العربي إلى خليج غينيا مروراً بالبحر الأحمر والقرن الأفريقي، ما يعني أن هذه الفرص لا تنحصر فقط بضبط العلاقات الثنائية بين القوى الإقليمية وواشنطن، ولكن من الممكن أن تُعظم كأوراق قوة إذا ما تم تثقيلها بقضايا عالقة مثل سد النهضة وحرب اليمن.

في الصورة الكاملة، نجد أن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا لا ينعكس فقط في شكل مخاطر اقتصادية تنظر إليها واشنطن على أنها ضريبة حرب ضرورية على جميع الشركاء والحلفاء تحملها، ولكن أيضاً يتوازى معها فرص يمكن تعظيم الاستفادة منها من جانب القوى الإقليمية لما يتجاوز المقاربة الأميركية المتعلقة بالطاقة، وهو ما يعني أن فترة اقتناص الفرص والمكاسب ستمتد بموازاة امتداد فترة الحرب، التي رصد الكونجرس الأميركي لها 14 مليار دولار لدعم كييف بها، وذلك قبيل قمة أوروبية كان موضوع الغاز الروسي وسُبل تعويضه حسب المقترحات الأميركية موضع خلاف لا يبدو أنه سيُحل في القريب وفق توقيت بايدن. وهو ما يطرح أسئلة حول السقف الزمني للحرب وانعكاساتها على المنطقة وقدرة دولها الفاعلة في الموازنة بين الفرص والمخاطر التي تتنوع بين الاقتصادي والسياسي والأمني والغذائي.

حتى مع إستمرار التباين والخلاف بين القوى الإقليمية، من المستبعد أن يتم على نفس أرضية الصراع المُستمر منذ حوالي العقد من الزمن ليس فقط لإرادة أنظمة المنطقة في تجنبها، ولكن لتغيّر محدداته الموضوعية من حيث مقاربات القوى الكبرى الخاصة بالمنطقة

يشترط تحقق السابق من حيث اقتناص الفرص وتحويل بعض المخاطر إلى فرص، استمرار نسبي لنمط انفراج وحل الخلافات بين القوى الإقليمية، والتي ترتبط بالإستعداد للمتغيرات الدولية والإقليمية الكبرى، ممثلة بشكل أساسي بالاتفاق النووي ومستقبل خارطة الطاقة والملاحة في المنطقة، وعلاقة الاثنين بتطورات الحرب في أوكرانيا من حيث انعكاساتها على مشهدية غاز شرق المتوسط ومسارحه الممتدة من طرابلس الشرق لطرابلس الغرب، وكذلك مشهد الملاحة الممتد من البحر الأحمر والقرن الأفريقي جنوباً وحتى الأسود شمالاً.

في الخلاصة، حتى مع إستمرار التباين والخلاف بين القوى الإقليمية، من المستبعد أن يتم على نفس أرضية الصراع المُستمر منذ حوالي العقد من الزمن ليس فقط لإرادة أنظمة المنطقة في تجنبها، ولكن لتغيّر محدداته الموضوعية من حيث مقاربات القوى الكبرى الخاصة بالمنطقة، والتي يبدو حتى الآن ووفق أسوأ السيناريوهات، أن سقفها التلويح بتعطيل تكتيكي متبادل لمصالح كل منها، خاصة مع تموضعات القوى الإقليمية تجاه ما يحدث في المشهد الدولي عموماً وفي أوكرانيا خصوصاً بمحددات اقتصادية وجيوسياسية وليس إيديولوجية/شعبوية، وما نتج عن تجذيرها في المنطقة لسنوات من فوضى وخراب جاري لملمته الآن، وإحلال اقتناص الفرص وتجنب/إدارة المخاطر محله.

Print Friendly, PDF & Email
إسلام أبو العز

كاتب صحافي ومحلل مختص بالشؤون الإقليمية والعلاقات الدولية - مصر

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  مدفيديف يكتب عن "أميركا 2.0": سياسة خارجية عصية على التنبؤ (2)