النهاية الوشيكة للولاية الرئاسية لدونالد ترامب جعلت مساعي المصالحة الخليجية تحتل أولوية لدى السعودية من باب الاضطرار وليس الاختيار على العكس من القاهرة وأبوظبي، خصوصاً أنها تندرج في سياق عزم الإدارة الأميركية الحالية في أواخر أيامها في البيت الأبيض تعقيد الملفات الداخلية والخارجية للإدارة الجديدة، وذلك كاستمرارية لتداعيات الاستقطاب الداخلي الأميركي وانعكاساته الخارجية، وخصوصاً على منطقة الشرق الأوسط.
مصالحة “الضغط الأقصى”
تشي ملامح تشكيل الرئيس المنتخب جو بايدن لفريقه الرئاسي بأنّ هناك توجهين رئيسيين في ما يتعلق بالشرق الأوسط: الأول، محاولة العودة للاتفاق النووي مع إيران وتعديله بمعزل عن محاذير وعراقيل حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ والثاني إعادة هيكلة العلاقات الأميركية مع دول المنطقة في ضوء تغير محددات الاستراتيجية الأميركية فيها، وهو ما يشكل الهاجس الأكبر للدول الحليفة للولايات المتحدة وعلى رأسها السعودية منذ عهد باراك أوباما، وخاصة بعدما بات ينظر إلى هذه الدول في مختلف دوائر السياسة الأميركية، طوال السنوات الأربع الماضية، على أنها شريكة لترامب نفسه، وليست حليفة للولايات المتحدة.
ما سبق يتأكد في الأسابيع القليلة المتبقية على ولاية ترامب من خلال انخراط هؤلاء الحلفاء في مسعى الرئيس الأميركي من أجل تعقيد الأمور أمام خلفه في الداخل والخارج.
وفي ما عدا تصريحات دبلوماسية وإعلامية مقتضبة، تترقب القاهرة حدود ما سينتج عن مسعى كل من بومبيو وكوشنر في تدوير زوايا المصالحة الخليجية، والتي سوَّقت أميركياً قبل الانتخابات الرئاسية وبعدها على أنها جزء مما يسميه بومبيو بـ”سياسة الضغط القصوى” على إيران، التي تعني أنه بجانب العقوبات والاغتيالات سد جميع منافذ التنفس التي أتاحتها خلافات مجلس التعاون الخليجي للجمهورية الإسلامية، وأهمها وقف تدفق مئات الملايين من الدولارات القطرية شهرياً نظير سلع وخدمات إيرانية أبرزها استخدام الطيران المدني والتجاري القطري للأجواء الإيرانية منذ العام 2017 ناهيك عن الشراكات في مجالات الطاقة واستخراج الغاز.
التجاوب السعودي مع الجهود الأميركية يأتي في سياق مقاربة ترى الرياض أنها قد تساعد في كبح المساعي المستقبلية للإدارة الأميركية الجديدة تجاه إيران والتي يرى القائمون على حكم السعودية أنها لا تصب في صالح المملكة، بالإضافة إلى نية إدارة بايدن إعادة تقييم وهيكلة علاقة واشنطن بـ”الحلفاء” في منطقة لم تعد تحتل رأس أولويات السياسات الخارجية الأميركية مثلما كانت الحال منذ تسعينيات القرن الماضي، وهو تحوّل من شأنه أن يضر بالسعودية، سواء في ما يتصل بعلاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة، أو في ما يتعلق بموقعها القيادي داخل مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص، والشرق الأوسط بشكل عام.
شراكة الأولويات المتضاربة
انطلاقاً من مجريات الأحداث الأخيرة، وبنظرة سريعة إلى الوراء، نجد أنه بالتوازي مع الانفتاح الذي ساد المحادثات بين الملك السعودي سلمان والرئيس التركي رجب طيب اردوغان عشية قمة العشرين، وامتداده إلى أجواء كسر الجليد بين الرياض والدوحة بوساطة كويتية مدعومة أميركياً، أتت تحركات كل من تركيا وقطر على الساحة الليبية مؤخراً لتلوّح باشتعال القتال من جديد بعد ما يتجاوز الأربعة أشهر على وقف إطلاق النار وانطلاق عملية سياسية متعددة المحاور شكلت الرؤية المصرية ركيزتها في جولات الحوار والمفاوضات المتعددة بين الفرقاء الليبيين، وهو ما يتشابه مع ما حدث في العام 2015 بعد اخفاق السعودية في تسيير المصالحة بين مصر وقطر، وما أعقب ذلك من استهداف للعمالة المصرية في ليبيا، ورد عسكري مصري على ذلك، وتماهي السعودية مع الإدانة القطرية لهذا الرد المصري، وذلك عبر تأييد وتمرير بيان إدانة من الجامعة العربية وقتها.
وحتى أواخر العام 2018، وبعد تعقد الأمور مع تركيا بعد حادثة مقتل الصحافي جمال خاشقجي، حكم الستاتيكو السابق بين الرياض والقاهرة معظم جوانب التعاطي الثنائي مع مختلف القضايا الإقليمية، وهو أمر ناتج في الأساس عن اختلاف أولويات كل من القاهرة والرياض خلال السنوات الأخيرة على معظم الأصعدة، بداية مما اعتبرته السعودية نكوصاً مصرياً عن المشاركة في حربها على اليمن عام 2015، وما تبع ذلك من ميل سعودي نحو أنقرة والدوحة على حساب القاهرة، وخاصة في ما يتعلق بليبيا، ووصولاً إلى التضارب الراهن بين الخطوات الإقليمية لكل من القاهرة والرياض استعداداً لدخول جو بايدن البيت الأبيض واستيعاباً للمتغيرات الكبرى التي ينوي فريقه الرئاسي تطبيقها في نمط العلاقات بين واشنطن ودول المنطقة.
التحوط بدل الممانعة
التحوط وعدم الممانعة الذي تتشاركه القاهرة وأبو ظبي تجاه خطوات الرياض الأخيرة في ما يخص الدوحة وأنقرة، يشير إلى أن هناك انتظاراً لما ستؤول إليه سياسة “الباب المفتوح” التي تتبعها السعودية منذ العام 2013 كراعية لمحاولات المصالحة، ثم كطرف في الخصومة مع قطر، والتي بمرحلتيها لم تؤد إلى إنجاز اتفاق ملزم وشامل ومستمر، وهو الأمر الذي قد يتغير بعدما حظيت مساعي الوساطة من جانب الكويت بدعم أميركي غير مسبوق للإسراع في المصالحة على الأقل بشكل تدريجي يبدأ بالسعودية وينتهي بمصر.
يبدو أن مصر قد طوّرت آلياتها المستقلة عن الخليجيين تحسباً لمتغيرات في موقف الإدارة الأميركية المقبلة تجاه الملفات الإقليمية أو تلك المتصلة مباشرة بالأمن القومي المصري كسد النهضة والوضع في ليبيا
القاهرة بدورها، ووفق تصريحات وزير خارجيتها سامح شكري، لا تتعجل المضي قدماً في مسار المصالحة تلك، ليس بسبب سوابق متعلقة بالتلاعب من جانب الدوحة فحسب، وهو ما يجعلها مصرّة على الشروط الـ 13 التي طرحها “رباعي المقاطعة” قبل ثلاث سنوات، ولكن لأن معادلة الترغيب والترهيب التي كانت تجري محاولات المصالحة بإشراف سعودي وفقها خلال السنوات السابقة للعام 2017، قد تغيرت لصالح مصر، وتحديداً في ما يخص تماهي الرياض حينها مع شرط الدوحة -ومن ورائها تركيا- تعويم حركة “الإخوان المسلمين” كشرط للتصالح.
علاوة على ما سبق، فإنّ محاولة المصالحة الراهنة باتت اضطراراً وليست اختياراً بالنسبة للسعودية وتحديداً في ما يتعلق بأهدافها الخاصة بالضغط على إيران والتهيؤ لمجابهة سياسات بايدن تجاه المنطقة عموماً، وتجاه المملكة بشكل خاص، وهي توجهات تفوق بالنسبة إلى السعودية بأشواطٍ كبيرة ما قد تواجهه القاهرة من ضغوط أميركية مستقبلية في ما يتعلق بملف حقوق الإنسان، والذي يمكن معالجته مصرياً بطرق شتى على العكس من الرياض التي باتت متورطة في الاستقطاب الداخلي الأميركي بشكل منحاز تماماً لمعسكر ترامب.
هذا التحوط تتبع القاهرة فيه نهجاً من ثلاث مستويات:
- الأول التمسك بشروطها التي صيغت بشكل تفصيلي في بيان المقاطعة قبل ثلاث سنوات وخاصة في ما يتعلق بالدعم القطري لجماعة الإخوان المسلمين ودور الدوحة في إشعال الساحة الليبية.
- الثاني هو إثبات الدوحة لصدق نواياها بعد دخول بايدن للبيت الأبيض، وذلك بعيداً عن المناورات الإعلامية التي سرعان ما أدت إلى انهيار الخلاف في الفترة الممتدة بين العامين 2013 و 2017 إلى حدود العداء المزمن واجتماع القاهرة مع الرياض وأبوظبي والمنامة على قرار المقاطعة، وذلك بعد استمرار الدوحة في تلاعبها استغلالاً لفرصة ترامب ومنهجيته الشراكاتية، خصوصاً أن الرئيس الأميركي وظف هذا العداء بأقصى درجات الاستغلال وبشكل فج أوصل إلى تنافس بين أطرافه على تقديم خدمات انتخابية له ولبنيامين نتنياهو.
- أما المستوى الثالث والأهم فهو تحرك القاهرة منذ بدايات العام الماضي وفق أولوياتها وليس أولويات صراعات “حلفائها” بشكل لا يتطلب ولا يشترط دعماً سعودياً سواء في ما يتعلق بالملف الليبي أو ملف شرق المتوسط وسد النهضة.
يعني ذلك في المستقبل المنظور أنه إذا مال “حلفاء” القاهرة الإقليميون إلى خصومها، وتحديداً إلى أنقرة وأديس أبابا والدوحة، وفق أولويات أكثر أهمية بالنسبة إليهم، ولا سيما مواجهة إيران، فإن الشريك المصري الذي استحوذوا منه على مدار العقد الماضي أوراق قوته الإقليمية – وأهمها قيادة العلاقات العربية – الأميركية/الإسرائيلية – قد لا يلتحق بالتموضعات الجديدة، وهو الأمر الذي قد يتلاقى أيضاً مع توجهات إدارة بايدن المستقبلية في المنطقة.