روسيا الكبرى.. أمنها الإقليمي أو الأوروبي؟

إن تحقيق الهيمنة يُعتبر الهدف النهائي للدول الكبرى لمجرّد بلوغها مرتبة القوّة العظمى، لكونه أفضل ضمانة للبقاء. غير أنّ تحقيق هذا الهدف، وكذلك الحفاظ عليه، هما أمران في غاية الصعوبة. ولذلك فإنّ أفضل نتيجة يمكن أن تطمح إليها الدولة الكبرى، هي أن تصبح مهيمناً إقليميّاً، الأمر الذي يعني سيطرتها على المجال الجغرافي الخاص بها أو مجالها الحيوي.

وثمّة هدف إضافي للدولة الكبرى التي تحقّق هيمنة إقليميّة، وهو أنّها تسعى إلى منع القوى الكبرى في أقاليم جغرافيّة أخرى من تحقيق المكانة نفسها التي وصلت هي إليها؛ فالقوى الإقليميّة المهيمنة يصعب عليها تحمّل وجود نظراء منافسين لها.

بناء على هذا الباراديغم، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية قد حقّقت أولاً سيطرة إقليمية في القارّة الأميركيّة ثمّ راحت تبذل قصارى جهدها كقوّة عظمى لمنع القوى الكبرى الأخرى من السيطرة على آسيا وأوروبا، وكذلك فعلت قبلها الامبراطوريّة البريطانيّة.

مقاربة روسيا الكبرى

إذا كان صحيحاً ما تقوله مفاهيم “الواقعيّة البنيويّة” في مقاربتها لعلاقة القوى العظمى بالهيمنة، علينا أن نتوقع من روسيا الكبرى أن تستوحي النموذج الأميركي حول الهيمنة الإقليميّة لكي تستعيد موقعها مهيمناً إقليميّاً في أوروبا، أو أن تسعى إلى تحويل اختبار المواجهة في أوكرانيا وسيلةً لتوسيع فجوة القوّة إلى أقصى حدٍّ بينها وبين حلف شمال الأطلسي، بحيث لا يكون لدى أي دولة في أوروبا الوسائل لتهديد أمنها.

تعاملت إدارة كينيدي مع أزمة الصواريخ السوفياتيّة في كوبا (1962) بوصفها تهديداً محتملاً للأمن القومي الأميركي، وينبغي أن ينطبق المنطق نفسه على الروسيا في أوكرانيا حالياً

وليس غريباً أن تحاول الروسيا ذات الطاقة العسكرية الفائضة بفضل تأمين عمقها الآسيوي بالتفاهم الاستراتيجي مع الصين، دفع القوّات العسكريّة الأميركيّة خارج شرق أوروبا، وذلك بالطريقة نفسها التي اعتمدتها الولايات المتحدة لدفع القوى العظمى الأوروبية خارج النصف الغربي من الكرة الأرضية في القرن التاسع عشر، وهي العملية التي تُوّجت بمبدأ مونرو (سنة 1823).

ومن وُجهة نظر الروسيا المدفوعة بالنزعة الامبراطوريّة بقيادة فلاديمير بوتين، تبدو هذه الأهداف منطقيّة من الناحية الجيوسياسيّة، إذ من الطبيعي أن ترغب موسكو (العائدة بقوّة إلى المسرح الدولي) في أن تكون جاراتها الأوروبيّة، ولا سيّما منها أوكرانيا وألمانيا، ضعيفة عسكريّاً مثلما تفضّل واشنطن أن تكون كندا والمكسيك ضعيفتّين عسكريّاً على حدودها. ويتذكّر جميع الروس ما حصل في الحرب العالمية الثانية عندما كانت ألمانيا النازيّة قويّة والاتحاد السوفياتي ضعيفاً، كما أنّه ليس من سببٍ يدعو الروسيا الشاهدة على العجز الأميركي الاستراتيجي في أفغانستان والعراق وسوريا، إلى قبول وجود قوّات عسكريّة أميركيّة فاعلة في فناء بيتها السلافي الأرثوذوكسي، مثلما هي الحال الآن.

ومن السهل أن نتصوّر ردّة الفعل لدى أصحاب القرار في واشنطن، في حال أقدمت أيٍّ من القوى العظمى الأخرى على إرسال قطعات عسكريّة وازنة إلى النصف الغربي من الكرة الأرضيّة. وقد تعاملت إدارة كينيدي مع أزمة الصواريخ السوفياتيّة في كوبا (1962) بوصفها تهديداً محتملاً للأمن القومي الأميركي، وينبغي أن ينطبق المنطق نفسه على الروسيا في أوكرانيا حالياً.

أفول التفوّق الأميركي؟

كيف ستكون ردّات فعل صانعي السياسات الأميركيّة في حال حقّقت موسكو شوطاً ملحوظاً في عمليّة استعادة السيطرة على شرق أوروبا؟

الولايات المتحدة، كما تفيد التجربة التاريخيّة مع ألمانيا واليابان والاتحاد السوفياتي، لا تقبل بوجود نظراءٍ منافسين لها، وقد أوضحت ذلك خلال القرن العشرين، فضلاً عن كونها مصمّمة على أن تظلّ هي المهيمن الوحيد، لذا يرجّح أن تسعى واشنطن بكلّ جهدها لمنع عودة الروسيا إلى قمّة السياسة الدوليّة وذلك عبر إضعافها بكل الوسائل الاقتصاديّة والماليّة والعسكريّة إلى الحدِّ الذي لا تعود تُشكّل تهديداً لتحالف القوى الغربيّة.

لذلك، من المرجّح أيضاً أن تتعامل الولايات المتحدة مع الروسيا بالطريقة نفسها (الى حدٍّ ما) التي تعاملت بها مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، بل ربّما تتجاوز سياسة الاحتواء إلى سياسة التفكيك. ومن المؤكّد أنّ الدول الأوروبيّة ستجد نفسها تحت وطأة ضغوط هائلة، لقطع الطريق على أيّ محاولة لانتهاج سياسات مستقلّة أو متميّزة إزاء موسكو، وسيكون التركيز الأميركي على وحدة التحالف الأطلسي هو أداة رئيسيّة في هذا المجال.

سيكون لدى الولايات المتحدة الساعية إلى الحفاظ على موقعها المهيمن بكلّ الوسائل، دوافع قويّة لتعبئة كل العوامل الآيلة إلى إشعال حروب وقائيّة بالوكالة تستهدف الروسيا أو الصين

وهناك تصوّرات واقعيّة أخرى تفترض أنّه إذا كان العالم الأحادي القطب يشهد تراجعاً أميركياً، فإنّ دخول الروسيا إلى جانب الصين حقل المنافسة بين القوى العظمى، سيؤدي في نهاية المطاف إلى وضع حدٍّ للأحاديّة القطبيّة. وعندما يحصل ذلك يمكن أن يتحوّل العالم إلى مكانٍ أكثر اضطراباً، وذلك لأنّ وقوع حرب بين القوى العظمى في إطار نظام التعدّدية القطبيّة يبقى أمراً محتملاً، وإن كانت الحرب هذه مستبعدة عندما يحكم نظام الاستقطاب قوّتان عظميان مثل الروسيا وأميركا. إضافةً إلى ذلك، إذا استمرت الصين والهند في الصعود، سيكون هناك عددٌ لا بأس به من القوى العظمى في النظام، وهو أمرٌ يضاعف احتمال وقوع صراع شديد بين القوى العظمى.

إقرأ على موقع 180  كيم جونغ أون ينافس"كورونا".. ماذا بعد الاختفاء الغامض؟

أخيراً، قد يجادل الواقعيّون البنيويّون الذي يعتقدون بأنّ التفوّق أو رجحان كفّة القوّة، يولّد السِّلم والتهدئة، بأنّه كان لقوّة الولايات المتحدة الثقل في إحلال التوازن في السياسة الدوليّة، ولم يكن هناك أيّ قوّة عظمى أخرى تجرؤ على افتعال اشتباك مع أميركا ما دامت تجلس على قمّة القوى العالميّة. لكن من الواضح أنّ ذلك الوضع تغيّر بعدما وصلت الصين إلى مستوى باتت فيه توازن قوّة الولايات المتحدة إن لم تكن قد تجاوزتها. ومن شبه المؤكّد أن أفول التفوّق الأميركي من شأنه أن يجعل لعبة القوّة بين الأمم محفوفة بكلّ أنواع المخاطر، كما سيكون لدى الولايات المتحدة الساعية إلى الحفاظ على موقعها المهيمن بكلّ الوسائل، دوافع قويّة لتعبئة كل العوامل الآيلة إلى إشعال حروب وقائيّة بالوكالة تستهدف الروسيا أو الصين.

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  إيران ورئيس أميركا المقبل.. الأولوية لجهاد النفس؟