زيليسنكي بين نصيحة كيسنجر.. و”السلام البوتيني”!

تضغط روسيا على جبهة الدونباس لتحقيق إختراق عسكري تضعه على طاولة المفاوضات، عندما يحين الحوار الجدي مع كييف ومن خلفها الغرب.

يدرك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن سقوط الشرق الأوكراني في يد القوات الروسية، سيشكل رافعة للأهداف التي وضعها نظيره الروسي فلاديمير بوتين؛ لذلك، يُلح على واشنطن ودول الإتحاد الأوروبي لنجدته بأسلحة ثقيلة تكسر الزحف الروسي شرقاً ليتكرر سيناريو محيطي كييف وخاركيف.

لكن الوقائع الميدانية تنبىء بأن هذا السيناريو مستبعد. وبعد ماريوبول، إستعادت روسيا الزخم العسكري في الشرق الأوكراني بتفوق عددي وقوة نارية ضخمة تفتح الطريق، ولو ببطء، إلى الحدود الإدارية لإقليمي لوغانسك ودونيتسك أو على الأقل تطويق الوحدات العسكرية الأوكرانية في الإقليمين.

ويُعدُ ذلك إختراقاً عسكرياً يفتح آفاقاً جدية لبدء الحديث عن الحلول السياسية. هذه الحلول لا يفرضها الواقع الميداني فحسب، وإنما تدفع إليها ترددات الحرب في أوروبا العاجزة عن الإتفاق على حظر فوري لموارد الطاقة الروسية، فضلاً عن التحذيرات من إبتلاء عشرات الملايين من سكان العالم بالجوع نتيجة الإضطراب الحاصل في سلاسل الإمداد من الحبوب والزيوت سواء من روسيا أو من أوكرانيا. هذا عدا عن موجات غير مسبوقة من التضخم التي تضرب الدول الأوروبية والولايات المتحدة نفسها، وتُشكل هاجساً يقلق مصارفها المركزية.

منطقة الدونباس لا تضع مصير أوكرانيا فقط على المحك. المعني الأول بالمسألة هنا هو الغرب نفسه. والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا لو لم تكفِ الأسلحة بكافة أنواعها المرسلة إلى أوكرانيا في إلحاق الهزيمة بالجيش الروسي، وهل ثمة إستعداد غربي للمخاطرة بتورط مباشر في الحرب، برغم كل سيناريواتها الكارثية؟

مع التقدم العسكري الروسي المحرز في جبهة الدونباس فإن التسوية المنتظرة قد تسفر عن “سلام روسي” (بوتيني)، وهو ثمن مؤلم قد يجد الزعيم الأوكراني أن لا مفر من تجرعه.. فهل يفعل قبل فوات الأوان؟

في الولايات المتحدة، ثمة سخاء تعتمده إدارة جو بايدن، سواء إقتصادياً أو تسليحياً بالنسبة لأوكرانيا، لكنه لا يُحدث تحسناً في شعبية الرئيس الأميركي والديموقراطيين قبل خمسة أشهر من موعد الإنتخابات النصفية. شعبية بايدن هي الأدنى بين الرؤساء الأميركيين بعد مرور سنة ونصف على دخوله إلى البيت الأبيض. آخر إستطلاع أظهر أن التأييد لبايدن، لا يتجاوز 39 في المئة. كما أن 11 سناتوراً و50 نائباً عارضوا حزمة المساعدات البالغة 40 مليار دولار لأوكرانيا. هذا يعني أن المضي في الخيار الأوكراني سيكون مكلفاً أكثر بالنسبة للولايات المتحدة.

هنا يتدخل وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر ليسدي نصيحة إلى زيلينسكي بأن يدخل في مساومة مع الروس، وليحذر الغرب من مغبة إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا. أما الأستاذ في الجامعة العبرية حزقيال درور زميل كيسنجر في هارفرد، فقد قال قبل أيام لموقع “بلومبرغ” الأميركي، إن الرئيس الأوكراني مصاب “بعمى إستراتيجي” وبأن لا مفر من الدخول في تسوية مع روسيا.

فهل يأخذ زيلينسكي الآن بنصيحتي كيسنجر ودرور أم يعمل بالتحذير الذي أطلقه الرئيس البولندي أندريه دودا أمام البرلمان الأوكراني الأسبوع الماضي، من مغبة الدخول في مساومات مع موسكو ومواصلة القتال حتى طرد آخر جندي روسي من الأراضي الأوكرانية؟

حتى أن تحويل فنلندا والسويد إلى محميتين أطلسيتين لن يحدث تغييراً في إستراتيجية روسيا في أوكرانيا. بعض الأميركيين لا يبدون حماسةً لهذا الإنضمام ويرون فيه عبئاً أوروبياً جديداً على الولايات المتحدة. فهذا الإنضمام ستكون كلفته عاليةً جداً، وقد يقود إلى حرب نووية مع روسيا. وناهيك عن ذلك، فهذه تركيا تطالب بغزو الشمال السوري في مقابل عدم إستخدام الفيتو في وجه ضم هلسنكي وستوكهولم إلى الناتو. الكلام عن مطالبة تركية بقمع للناشطين الأكراد على الأراضي الفنلندية والسويدية، ليس إلا من قبيل ذر الرماد في العيون. وللتذكير، كانت السويد ثاني دولة بعد تركيا تُصنّف “حزب العمال الكردستاني” على لائحة الإرهاب في الثمانينيات الماضية.

وها هو المستشار في مركز المصلحة القومية بالولايات المتحدة سومانترا مايترا يُعلّق على تخلي فنلندا والسويد عن حيادهما التاريخي وتقديم طلب للإنضمام إلى حلف الأطلسي، فيكتب محذراً في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية أنه “لا هستيريا الحرب، ولا الرغبة في معاقبة روسيا، ولا التعاطف مع القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، يجب أن تؤثر دائماً على حسابات إستراتيجية دقيقة. وعوض ذلك، فإن المعضلة الروسية في أوكرانيا، تُثبت أنه حان الوقت للولايات المتحدة كي تعيد توجيه سياستها بعيداً عن أوروبا والتركيز أكثر على قضايا أكثر إلحاحاً مثل الحدود الجنوبية والتضخم وصعود الصين”.

ويرى المحلل السابق في وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية بول آر. بيلار “أن القول بإضعاف روسيا كهدف، ينجم عنه مشكلتان أساسيتان. إذ أنه يساعد في تسويق دعاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أن ما يفعله الغرب ليس فقط رداً على الحرب في أوكرانيا، بل إنه يعكس تهديداً أشمل لروسيا. كما أنه يجعل من الصعوبة بمكان التوصل إلى تسوية لإنهاء الحرب الحالية، من خلال تقليل ثقة روسيا بإمكان حصولها على إعفاء مهم من العقوبات وحالة النبذ، مهما فعلت في أوكرانيا”.

إقرأ على موقع 180  سابعة فيينا غير نووية.. والخليج يواكبها بالتكيف مع إيران! 

ويشير الزميل الأول في مركز الشؤون الإستراتيجية والدولية بالولايات المتحدة جيرالد إف. هايمان، إلى أنه “في نهاية المطاف ومن أجل وضع حد للحرب، فإن الجانبين سيتعين عليهما التوصل إلى نوع من الإتفاق، حتى ولو كان تسوية موقتة ضمنياً. ومن المؤكد أن أي تسوية ستعني بالأمر الواقع سيطرة روسيا أو وكلائها على أراضٍ أوكرانية. لكن إذا كان ذلك أمراً حتمياً، فلماذا لا يُصار إلى التوصل إلى هذا الترتيب في أقرب وقت من اجل تجنب المزيد من الدمار والمذابح والموت”؟

يتدخل كيسنجر ليسدي نصيحة إلى زيلينسكي بأن يدخل في مساومة مع الروس، وليحذر الغرب من مغبة إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا. أما الأستاذ في الجامعة العبرية حزقيال درور، فقد قال قبل أيام لموقع “بلومبرغ” الأميركي، إن الرئيس الأوكراني مصاب “بعمى إستراتيجي” وبأن لا مفر من الدخول في تسوية مع روسيا

يفتش زيلينسكي، عن أسباب الفتور الألماني والفرنسي في تقديم مساعدات عسكرية أكبر لأوكرانيا وعن أسباب التأخر في حظر إستيراد النفط والغاز الروسيين. لكن لا بد أنه يدرك جيداً أن سبباً واحداً يحمل برلين وباريس على التردد، إنه عدم الإقتناع بجر أوروبا إلى كارثة أخرى، وبأن نبذ روسيا هو فعلاً الطريق إلى السلام في أوروبا لسبعة عقود مقبلة.

وفي المقابل، فإن نصراً عسكرياً في الدونباس يُوفّر لبوتين مبرراً كافياً للإعلان عن وقف للنار والقول بأن “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا قد حققت أهدافها، وأنه آن الأوان للحوار.

كانت فرصة أوكرانيا لتحقيق تسوية متوازنة ممكنة عندما كانت القوات الروسية تتخبط على أبواب كييف في آذار/مارس الماضي وبعدما أعلنت موسكو سحب قواتها من هناك على أثر الإجتماع بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والأوكراني ديميترو كوليبا في إسطنبول. لكن يبدو أن نصيحة بايدن ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وقادة بولونيا لزيلينسكي كانت بالتمهل في إنتظار الهزيمة الكاملة لبوتين.

أما اليوم ومع التقدم العسكري الروسي المحرز في جبهة الدونباس فإن التسوية المنتظرة قد تسفر عن “سلام روسي” (بوتيني)، وهو ثمن مؤلم قد يجد الزعيم الأوكراني أن لا مفر من تجرعه.. فهل يفعل قبل فوات الأوان؟

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الهند الآتية.. ولاّدة ثورة أم فوضى دولية؟