بإنتظار لحظة الحسم الرئاسية في منتصف ليل الواحد والثلاثين من الشهر المقبل، تتعدد التصورات و”الإجتهادات” الدستورية المرتبطة بالخطوات المقبلة لرئيس الجمهورية، فمن قائل إن الحكومة الحالية غيرمؤهلة لإستلام الصلاحيات الرئاسية لإفتقادها الشرعية، إلى داع إلى التعاطي مع حكومة نجيب ميقاتي بإعتبارها “حكومة مغتصبة”، إلى مناد بأن يحزم رئيس الجمهورية قراره ويصدر مرسوما منفردا بتسمية رئيس جديد للحكومة على غرار ما فعل الرئيس بشارة الخوري عام 1952، حين كلّف اللواء فؤاد شهاب بتشكيل الحكومة إثر “الثورة البيضاء” التي قادتها المعارضة الوطنية.
يتضح من خلال هذه الدعوات و”الإجتهادات”، أن إنكارا عالي المستوى لا يفصل بين مرحلتين وزمنين لبنانيين، أي ما قبل “اتفاقية الطائف” وما بعدها، وما قبل التعديلات الدستورية عام 1990، وكل ذلك يستدعي العودة إلى “الكتاب” كما كان يحلو للرئيس فؤاد شهاب أن يصف الدستور، ولكن قبل ذلك، قد يكون من المناسب التطرق إلى ما ينص عليه الدستور حين انتهاء الولاية الرئاسية، وما فعله الرئيس إميل لحود عام 2007.
بحسب المادة 62 من الدستور “في حال خلوّ سدة الرئاسة لأي علّة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء”، وفي حال التمعن في عبارة “لأي علة كانت”، عنى الأمر كل العلل والأسباب التي تؤدي إلى “خلو سدة الرئاسة” من الإستقالة إلى نهاية الولاية، ومن الوفاة إلى محاكمة رئيس الجمهورية، ولا يحدد الدستور في هذه المادة شكل الحكومة ولا كونها كاملة الصلاحيات او مبتورة الشرعية، فالهدف من إناطة صلاحيات الرئيس لمجلس الوزراء منع الفراغ في المؤسسات الدستورية، كما أنه بعد انتهاء الولاية الرئاسية يغدو رئيس الجمهورية رئيسا سابقا لا يقبض على أي من مفاتيح الحُكم.
ثمة واقعة نزاعية شبيهة بالواقعة الراهنة بين الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي، جرت بين الرئيسين إميل لحود وفؤاد السنيورة، والمعروف في هذا المجال أن جفاء وخصاما كان وما زال بين الرئيسين السابقين، وطالما اتهم لحود (وأيضاً رئيس مجلس النواب نبيه بري) حكومة السنيورة بأنها “حكومة بتراء” وغير ميثاقية وغير دستورية بفعل انسحاب الوزراء الشيعة منها في الثلاثين من تشرين الأول/اكتوبر 2006، ومع ذلك حين انتهت ولاية إميل لحود في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2007، غادر القصر الجمهوري تاركا لحكومة فؤاد السنيورة صلاحياته ومقاليد الحُكم، واستمرت هذه الحكومة قابضة على مفاصل السلطة حتى “تسوية الدوحة” وما أعقبها من انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو ميشال سليمان في الخامس والعشرين من أيار/مايو 2008.
ما يُمكن أن يُضاف في هذا الشأن، أن رئيس الجمهورية “لا يُسلّم” صلاحياته لمجلس الوزراء، بل هي تنتقل تلقائياً إليه، فعملية “التسلم والتسليم” تكون بين رئيس مغادر ورئيس مقبل، أي بين متعادلين ومتكافئين، وليس بين “رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن” وبين مؤسسة دستورية هي الثالثة في ترتيب المؤسسات.
وإلى ما تقدم، فالطرح الآيل إلى تشكيل حكومة “مدعومة” بستة وزراء سياسيين، ومهما كان الهدف منها، عبر إدخال رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل إليها أم لا، فحكومة من هذا النوع، تعني حكومة من “غرفتين”، عُليا وسُفلى، الأولى تشرف على الثانية وتضبط إيقاعها.
وإذا كان “واقع الغرفتين” مقبولاً ومطلوباً وضرورياً تشريعياً، كما هي حال مجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة، ومجلسي العموم واللوردات في بريطانيا وغيرهما من الدول الديموقراطية، للحيلولة دون طغيان مصالح فئوية على أخرى، فإن حكومة (سلطة تنفيذية) من “غرفتين” لا سابق لها في أنحاء المعمورة، ولا مبرر لوجودها سياسيا ولا ميثاقيا طالما أن الحكومات التوافقية التي عرفها لبنان منذ مرحلة ما بعد “الطائف” تضم مجمل القوى السياسية الفاعلة، أما إذا كان الهدف من حكومة بـ”غرفتين” ضبط التوازن الطائفي والحذر من البحث في القضايا المصيرية، فهذه مهمة مجلس الشيوخ الموجود حبرا على ورق في نصوص الدستور.
وفي مختلف الأحوال، فإن مسار التأليف الحكومي المتعثر، رافقته تحذيرات من “فوضى دستورية”، ذهب معها قوم من “فقهاء الدستور” إلى تقديم “اجتهادات” تهديدية بإحتمال أن يلجأ رئيس الجمهورية إلى تسمية رئيس حكومة بديل عن نجيب ميقاتي، وفي ذاكرة هؤلاء مشهد الرئيس بشارة الخوري في تكليف اللواء شهاب بترؤس الحكومة عام 1952 مثلما سبق القول، وكذلك مشهد الرئيس أمين الجميل في تسمية العماد ميشال عون رئيسا للحكومة العسكرية عام 1988.
ما يُمكن أن يُضاف في هذا الشأن، أن رئيس الجمهورية “لا يُسلّم” صلاحياته لمجلس الوزراء، بل هي تنتقل تلقائياً إليه، فعملية “التسلم والتسليم” تكون بين رئيس مغادر ورئيس مقبل، أي بين متعادلين ومتكافئين، وليس بين “رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن” وبين مؤسسة دستورية هي الثالثة في ترتيب المؤسسات
تلك هي دعوات للعودة إلى التاريخ، وإلى نصوص الدستور القديم، وكأن تعديلات جديدة لا ظهرت ولا بانت ولا وُلدت عام 1990، وكأنها دعوة إلى الوراء تتجاوزعن سابق تصور وتصميم النصوص والتعديلات الدستورية الجديدة، وهذا ما يقتضي المقارنة بين ما كان وبين ما هو كائن.
نصت المادة 53 قبل التعديلات الدستورية عام 1990 على التالي: “رئيس الجمهورية يعين الوزراء ويسمي منهم رئيساً ويقيلهم”، وهذه الصلاحيات التي كانت عائدة لرئيس الجمهورية توزعت على المواد الآتية:
ـ الفقرة الثانية من المادة 53 بعد التعديلات الدستورية: “يسمّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجها”.
ـ الفقرة الرابعة من المادة 53 بعد تعديلات 1990: “يصدر ـ رئيس الجمهورية ـ بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو اقالتهم”.
ـ الفقرة الثانية من المادة 64 بعد التعديلات الدستورية: “يجري ـ رئيس مجلس الوزراء ـ الإستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها”.
وبهذه الفقرات والبنود الدستورية، لم يعد رئيس الجمهورية بإمكانه الإنفراد بتسمية رئيس الحكومة أو إقالته أو إقالة الوزارء، بل ثمة آلية دستورية واضحة لتسمية رئيس الحكومة تتم عبر مجلس النواب وآراء أعضائه، وكأن في هذه الآلية معنى غير مصرح به إلا أن تطبيقها يعني أن المجلس النيابي “ينتخب” رئيس الحكومة المكلف عبر الإستشارات ـ الإنتخاب ـ التي يودعها النواب في عهدة رئيس الجمهورية، ولا مناص له في الخروج عنها.
وأما إذا انفرد رئيس الجمهورية بتعيين او تسمية رئيس للحكومة، فالأمر يعني مصادرة صلاحيات رئيس المجلس النيابي وإسقاط استشارات النواب الملزمة، فضلا عن مصادرة صلاحية رئيس مجلس الوزراء وإسقاط توقيعه عن مرسوم تشكيل الحكومة كما يرد في المادتين 53 و64.
وإلى ذلك أيضا، فهذه الخطوة تعني بما تعنيه عودة رئيس الجمهورية رئيسا للسلطة الإجرائية كما كانت الأحوال قبل إتفاقية الطائف، وتتضارب هذه الخطوة مع تعديلات العام 1990، وهذه مقارنة ثانية قبل التعديلات الدستورية وما بعدها:
ـ المادة 17 قبل التعديلات الدستورية: “تناط السلطة الإجرائية برئيس الجمهورية وهو يتولاهـا بمعاونة الوزراء وفاقاً لأحكام هذا الدستور”.
ـ المادة 17 بعد التعديلات الدستورية: “تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء وهو يتولاها وفقا لأحكام هذا الدستور”.
ـ المادة 64 بعد التعديلات الدستورية: “رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة يمثلها ويتكلم باسمها ويعتبر مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء”.
ـ الفقرة السابعة من المادة 64 بعد التعديلات الدستورية: “يتابع ـ رئيس مجلس الوزراء ـ أعمال الإدارات والمؤسسات العامة وينسق بين الوزراء ويعطي التوجيهات العامة لضمان حسن سير العمل”.
ـ المادة 65 بعد التعديلات الدستورية: “تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء”.
وبناء على هذه النصوص الدستورية، يتبين أن إجراء من النوع الوارد ذكره آنفاً، لا يمت بصلة قربى مع نصوص الدستور، وكما يقال عادة إن مثل هذه “الإجتهادات” هي من خارج النص ومن خارج “الكتاب” الذي لم يفارق يوماً اللواء فؤاد شهاب، وعلى ما كان يقول عارفوه إن “الكتاب” كان دائما موجودا على يمينه، وحين كان يأتي إليه احد و”يتفقه” كان يرد عليه بالسؤال “ماذا يقول الكتاب”؟
بالإنتقال إلى “اجتهاد” آخر يتمثل بتعيين حكومة عسكرية على ما جرى في وقائع سابقة، فدونه جدران دستورية عالية يستحيل مع نصوصها الإقدام على هكذا إجراء، وذلك لسبب بسيط وعميق في آن، فالقوات المسلحة تخضع لمجلس الوزراء، والنصان الدستوريان الناطقان بذلك هما:
ـ المادة 49: “رئيس الجمهورية، يرأس المجلس الأعلى للدفاع، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء”.
ـ المادة 65: “تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء وهو السلطة التي تخضع لها القوات المسلحة”.
والملاحظة الأساسية في هاتين المادتين هي التشديد على “خضوع” القوات المسلحة اللبنانية لمجلس الوزراء، وبما يعني ان هذه المجلس هو صاحب الأمر والنهي والقرار.
ماذا يبقى؟
يبقى العودة إلى “الكتاب”، وهذا بعض مما قاله اللواء فؤاد شهاب في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1958:
“لقد علمتنا الأيام العصيبة التي مررنا بها، أن مصيرنا هو من صنع أيدينا، فنحن بأيدينا عرّضنا استقلالنا للخطر، ونحن بأيدينا أنقذناه”.
من يُنقذ لبنان؟ ذاك هو السؤال.