تضعنا هذه المقدمة أمام سؤالين: إلى أي مدى تبدو الولايات المتحدة، التي تقود إئتلاف الدفاع عن أوكرانيا، مستعدة للذهاب لمنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الإنتصار في الحرب، وإلى أي مدى يمكن الصين أن تسمح بإجهاض المحاولة الجدية الأولى لكسر هيمنة القطب الواحد التي نشأت قبل أكثر من ثلاثة عقود؟
في الدروس المستنتجة من الحرب، أن بوتين إختار قرار الغزو في لحظة كانت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، لا تزال تعاني من آثار الإنسحاب الفوضوي من أفغانستان وسرعة سقوط النظام الموالي لواشنطن الذي أنفقت عليه الولايات المتحدة نحو تريليون دولار في عشرين عاماً، من دون أن يتمكن من الصمود سوى بضعة أيام أمام مقاتلي “طالبان” الأقل عدداً وعدة.
الإنسحاب الأميركي من أفغانستان الذي جرى من دون تشاور مع الحلفاء، جعل الزعماء الأوروبيين وفي مقدمهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يبحثون في كيفية “الإستقلال” عسكرياً عن الولايات المتحدة. في رأيهم أن حلف شمال الأطلسي “مات سريرياً” ولم يعد يلبي المتطلبات الأمنية التي أنشىء من أجلها.
عندما تُشدّد الصين في مبادرتها الديبلوماسية على ضرورة عدم إستخدام الأسلحة النووية أو التلويح بإستخدامها، فإنها ضمنياً تخشى أن يتحول النزاع في لحظة ما، إلى أقصى سيناريو يمكن تخيله.. حرباً عالمية تقود إلى الشتاء النووي!
في هذا الجو من الإرباك الأميركي والأوروبي، إختار بوتين إقتحام أوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022 على “الطريقة السوفياتية”. إن ظهور الدبابات الروسية في كييف كان كفيلاً بإعتقاده في إحداث صدمة تُغيّر نظام فولوديمير زيلينسكي الموالي للغرب، في إستعادة لنموذج بودابست عام 1956 وبراغ في 1986. لكن بوتين لم يجد أمامه زيلينسكي بل وجد نفسه أمام أميركا وخلفها الغرب موحدين في دفاع مستميت عن أوكرانيا.. وعن النظام العالمي القائم على هيمنة القطب الواحد.
ومن أشد المفارقات غرابة، أن الميجر جنرال كريس دوناهو الذي كان آخر عسكري أميركي يغادر أفغانستان في 31 آب/أغسطس 2022، كان أول ضابط أميركي يُعهد إليه بتدريب طلائع القوات الأوكرانية عقب الهجوم الروسي. السؤال: هل إنسحب بايدن من أفغانستان لأنه كان موقناً أن بوتين ماضٍ في قرار الحرب، وأن الجبهة الأوكرانية بالنسبة إليه هي من يُحدّد بقاء أميركا زعيمة العالم، وليس كهوف تورا بورا وجبالها؟
وبعيداً عن أسطرة الغرب بقاء زيلينسكي في كييف ورفعه إلى مرتبة ونستون تشرشل والمبالغة في الشفاعة التي تملكها صواريخ “جافلين” و”ستينغر”، فإن تعثر “العملية العسكرية الخاصة” الروسية، كان المتسبب به إلى حد كبير، عدم جاهزية الجيش الروسي لحرب بهذا الحجم. وما التغيير المتتالي للقيادات العسكرية خلال السنة الفائتة، إلا خير دليل على وجود تخبط فظيع، إضطر معه الكرملين إلى التخلي عن فكرة الحرب التقليدية والإستعانة بمقاتلي شركة “فاغنر” الأمنية برئاسة بفغيني بريغوجين وبالنخبة الشيشانية بقيادة رمضان قديروف كرأسي حربة في الميدان بعد الإنسحابات الروسية من محيط كييف في الربيع ومن خاركيف وخيرسون في الصيف والخريف الماضيين.
تحدي باخموت
واليوم، تواجه روسيا تحدي كسر الدفاعات الأوكرانية على جبهة باخموت المشتعلة منذ ستة أشهر. باخموت ذات قيمة رمزية أكثر منها إستراتيجية في تقويم معظم المحللين العسكريين. يريدها بوتين من أجل إحراز أول مكسب على الأرض منذ تراجعات الصيف والخريف، وكي يتفادى مزيداً من الإنتقادات التي تُوجه إليه على طريقة إدارة الحرب.
إن الإستيلاء على باخموت سيمنح القوات الروسية موطىء قدم في دونيتسك والسيطرة على نقطة مواصلات رئيسية، ومن شأنها أن تشكل أيضاً منصة للإنطلاق نحو مدينتي سلوفيانسك وكراماتورسك أبعد نحو الغرب.
وتضغط روسيا بقوة للإستيلاء على مدينة فوغليدار الغنية بمناجم الفحم، بهدف إقامة موطىء قدم آخر في دونيتسك. لكن القوات الروسية مُنيت بخسائر كبيرة على مدى أشهر في المدينة. خطورة فوغليدار أنها تشكل أقرب نقطة تكتيكية إلى منطقة زابوريجيا الجنوبية، ومن المرجح أن تستخدمها القوات الأوكرانية نقطة إنطلاق في الهجوم المعاكس الذي تتهيأ له الآن على المنطقة التي ضمتها روسيا في الخريف.
بالمقابل، ينصح الغرب زيلينسكي بالإنسحاب من باخموت توفيراً للكلفة البشرية الهائلة في الدفاع عنها. لكن المسألة بالنسبة إلى كييف تتعدى الرمزية إلى سبب تكتيكي آخر عبّر عنه مستشار وزير الداخلية الأوكراني أنطون غيراشينكو في مقابلة مع مجلة “نيوزويك” الأميركية، عندما قال إن باخموت “هي جدار حي يتيح لنا إعداد قواتنا من أجل طرد الإحتلال”، مما يعني أن الدفاع الناجح عن المدينة من الممكن أن يضع الأوكرانيين في موقع يؤهلهم لشن الهجوم المعاكس في أماكن أخرى، حيث أن جزءاً كبيراً من الجيش الروسي يُركّز قواته حول المدينة الآن.
باخموت يريدها بوتين من أجل إحراز أول مكسب على الأرض منذ تراجعات الصيف والخريف، وكي يتفادى مزيداً من الإنتقادات التي تُوجه إليه على طريقة إدارة الحرب
سباق على الذخائر
وفي ظل توقعات بأن روسيا وأوكرانيا كلتاهما تستعدان لشن هجمات رئيسية في الربيع المقبل، فإن ذلك يبدو مرتبطاً إلى حد بعيد بحصول كلٍ منهما على مساعدات عسكرية خارجية. فالجيشان الروسي والأوكراني يعانيان من نقص في الذخائر. ولحل هذه المشكلة، رفعت روسيا فترات العمل في مصانعها إلى ثلاثة أضعاف الأيام العادية، وإتجهت إلى إيران للحصول على المُسيّرات. أما واشنطن فتتحدث عن شحن طهران قذائف مدفعية ودبابات إلى روسيا لإستخدامها في أوكرانيا، ويُطلق المسؤولون الأميركيون تحذيرات على مدار الساعة إلى الصين من مغبة تزويد موسكو بأسلحة، وهم يشيرون إلى أن الصين تدرس تقديم مساعدة فتّاكة إلى روسيا، برغم النفي الصيني للأمر. بدورها، نفت كوريا الشمالية تقارير عن تزويد مجموعة “فاغنر” بالقذائف.
وفي المقابل، أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي أن الدول الأعضاء تُسخّر كل جهودها الآن لتوفير قذائف المدفعية للجيش الأوكراني، وأميركا سرّعت من خطوط إنتاج القذائف وخصوصاً قذائف من عيار 155 ملليمتراً.
ومنذ يوم الجمعة الماضي، بدأت تصل إلى أوكرانيا دبابات “ليوبارد-2” الألمانية التي ستشكل السلاح الرئيسي في الهجوم المعاكس. ومن دون هذه المساعدات الخارجية لن يكون الجيش الأوكراني بقادر على شن الهجوم المنتظر.
وإلى كثافة التسليح، يُمارس بايدن دوره كرئيس حرب. من الزيارة المفاجئة إلى كييف تعبيراً عن الدعم غير المحدود لأوكرانيا، إلى تحذير الصين من مغبة الإقدام على تسليح روسيا، فضلاً عن إصدار أوسع حزمة عقوبات على شركات روسية وصينية وإيرانية وحتى رجال أعمال وشركات غربية متهمة بتقديم مساعدات للجيش الروسي.
هذا الدعم الأميركي الواسع وغير المسبوق ربما منذ الدعم الأميركي لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية، يُعجل من إحتمالات الصدام بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، ويأخذ الصراع إلى مديات أخطر. وتعليق روسيا مشاركتها في معاهدة “نيوستارت” للأسلحة النووية في اليوم الذي كان يزور فيه بايدن كييف، مؤشر خطير على السيناريوات الكابوسية التي قد تتخذها الحرب في سنتها الثانية.
المبادرة الصينية
في هذا التوقيت، تطرح الصين مبادرة ديبلوماسية للحل من 12 بنداً، ملخصها الدعوة إلى ضمان سيادة “كل الدول” ووقف شامل لإطلاق النار وجلوس الروس والأوكرانيين فوراً إلى طاولة الحوار. في الشكل، أتت المبادرة الصينية بعد زيارة كبير الديبلوماسيين الصينيين وانغ يي لموسكو كمقدمة لزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى روسيا في الربيع المقبل.
هذا الحراك الديبلوماسي الصيني، أربك واشنطن التي سارعت إلى التشكيك بحيادية بكين وتجديد الإتهام لها بأنها غير مؤهلة للقيام بدور الوساطة على خلفية التذكير بعلاقاتها الوثيقة مع روسيا وبأنها لم تنضم إلى نظام العقوبات الغربية ضد موسكو. وليس من قبيل الصدفة أن تنشر صحيفة “دير شبيغل” الألمانية في اليوم نفسه لإعلان الصين مبادرتها في الذكرى السنوية الأولى للحرب، ما قالت أنه معلومات مفادها أن شركة “شيان بينغو إنتيليجنت أفياشن تكنولوجي” الصينية لتصنيع المسيرات بدأت بالتفاوض مع مسؤولين عسكريين روس، لإنتاج 100 طائرة من دون طيار من نوع “زد تي-180” واختبارها وتسليمها بحلول نيسان/أبريل المقبل إلى وزارة الدفاع الروسية.
لا بد من التساؤل عن موقف الصين في حال أجهضت أميركا مبادرتها؟ هل ستدع بكين روسيا تنهزم عسكرياً وتنهار إقتصادياً وتتهدّد وحدة أراضيها؟
إن مبادرة الصين التي لقيت ترحيباً روسياً، قد تكون هي الجهد الديبلوماسي الأكثر نشاطاً منذ المساعي التي بذلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العام الماضي وإستطاع من خلالها التوصل إلى “إتفاق الحبوب” الصيف الماضي.
ومعلوم أن المفاوضين الروس والأوكرانيين كادوا يتوصلون في أيار/مايو الماضي إلى إتفاق بعد جولات حوار في بيلاروسيا وفي تركيا، قبل أن يذهب رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون على عجل إلى كييف، ليقنع زيلينسكي بوقف الحوار ويتم الكشف عن “مجازر بوتشا” في ضواحي كييف.
وفي نموذج مماثل، وبينما كانت الصين تتهيأ إلى طرح مبادرة للسلام، يقفز بايدن إلى كييف في العشرين من شباط/فبراير كي يقنع زيلينسكي بمواصلة التحضير للهجوم المعاكس وأن اميركا وأوروبا على إستعداد لوضع كل الإمكانات العسكرية والمادية في تصرف الجيش الأوكراني لإلحاق الهزيمة العسكرية بروسيا. ويقولها وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن صراحة إن وقف النار الذي تدعو إليه المبادرة الصينية، هدفه منح روسيا فترة لإلتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم جيشها لشن هجوم عسكري جديد.
وفي إنتظار تحديد موقف أوكراني رسمي بعد اللقاء المنتظر بين زيلينسكي والرئيس الصيني شي جين بينغ، فإن كييف أبدت قبولها ببعض بنود المبادرة الصينية التي تتحدث عن “سيادة كل الدول ووحدة الأراضي”.
الصين تراهن على تعب روسي وأوكراني للقبول بمبادرتها. لكن لن يكون مرجحاً أن الولايات المتحدة ستلعب دوراً مساعداً في الحل الصيني وهي تخوض مواجهة إستراتيجية مع الصين لا تقل ضراوة عن تلك التي تخوضها ضد روسيا.
إنما لا بد من التساؤل عن موقف الصين في حال أجهضت أميركا مبادرتها؟ هل ستدع بكين روسيا تنهزم عسكرياً وتنهار إقتصادياً وتتهدّد وحدة أراضيها؟
ما يجري في أوكرانيا سيحدد طبيعة النظام الدولي للمئة سنة المقبلة. أكثر من يدرك ذلك، هي أميركا والصين وروسيا. وعندما تُشدّد الصين في مبادرتها الديبلوماسية على ضرورة عدم إستخدام الأسلحة النووية أو التلويح بإستخدامها، فإنها ضمنياً تخشى أن يتحول النزاع في لحظة ما، إلى أقصى سيناريو يمكن تخيله.. حرباً عالمية تقود إلى الشتاء النووي!