يبدأ رونين بيرغمان روايته من أحد الفنادق في النمسا. يروي الآتي: “جلس إبراهيم عثمان (مدير وكالة الطاقة الذرية السورية) قرب إمرأة غريبة جميلة في مقصف في فندق فيينا، وكان عثمان رجلاً في منتصف العمر أصلع الرأس ويتميز بعين متدلية، ومع ذلك بدت المرأة إلى جانبه مهتمة به أو على الأقل مهتمة في إطلاق محادثة معه. كانت هذه المرأة تتقن الفرنسية (عثمان يتحدث الفرنسية أيضاً)، وتحب باريس والكلاب. اشترى لها عثمان كأساً من المشروب وأخذ يُحدّثها عن الكلاب الصغيرة التي يُربيها في منزله في دمشق”.
يتابع بيرغمان، “كان عثمان يشغل منصب مدير وكالة الطاقة الذرية السورية، وكانت هذه الإمرأة عميلة لجهاز “الموساد”، ولم يكن الإسرائيليون يعرفون طبيعة الأسرار التي يحتفظ عثمان بها ولكنهم كانوا على بينة أنه سيكون في فيينا في يناير/كانون الثاني عام 2007، وكان من السهل نسبياً إدارة عملية استخبارية هناك، برغم أنه لم يولوا هذه العملية قدراً كبيراً من الأهمية. وفيما كانت الإمرأة عند المقصف مندمجة بقصص عثمان عن الكلاب، كان فريق من العملاء من وحدة “قوس قزح” يفتش غرفته في الفندق، ولكن لم يسفر البحث الاولي عن أي شيء ذي قيمة. حاولوا فتح حقيبة مقفلة بإحكام كان عثمان قد تركها في الغرفة من دون أن ينجحوا في ذلك، غير أن فتحها من دون ترك أي آثار كان يتطلب جهوداً خاصة. في ذلك الوقت، لاحظ أحد المراقبين أن عثمان يُصدر إشارات توحي بأنه بدأ يشعر بالملل وسيغادر عائداً إلى غرفته عما قريب. فترك قائد العملية موقع المراقبة الذي كان فيه وتوجه للدخول الى الغرفة وهو يهمس “سأدخل، بلغني بالتوقيت”. عندها وقّع عثمان الفاتورة. وجاء صوت لأحد المراقبين على جهاز اللاسلكي قائلاً “لديك أربع دقائق”. شكر السوري صديقته الجديدة واتفق الاثنان على التحادث في صباح اليوم التالي.. وربما على لقاء جديد. بدأ عثمان السير نحو مصعد الفندق. صوت المراقب عبر اللاسلكي يقول “دقيقتان.. اخرجوا من هناك”.
في ذلك الوقت، يضيف بيرغمان، “كان فريق “قوس قزح” قد تمكن من فتح الحقيبة وبدأ بنسخ الصور الموجودة في داخلها بأسرع ما يستطيع من دون أي اهتمام لمعرفة ما هي هذه الصور. أصبح عثمان في المصعد. صوت المراقب يُعلن بتوتر “دقيقة واحدة للتماس معه”. عندها كان كل شيء قد أعيد الى مكانه في الحقيبة قبل اقفالها مجدداً فيما صوت المراقب يعلن “وصل المصعد.. اخرجوا الآن”. كان عثمان قد أصبح في الزقاق المؤدي الى غرفته وتقريباً أصبحت غرفته في مدى الرؤية لديه، فحضّر أحد أعضاء الفريق نفسه لتنفيذ عملية إلهاء بالتظاهر بالسكر ورمي كأسه على عثمان معطياً بضع ثوان إضافية للفريق كي يخرج من الغرفة ويمشي مسرعاً في البهو في الاتجاه المعاكس ليأتي صوت قائد الفريق عبر اللاسلكي معلناً “خرجنا كلنا وكل شيء على ما يرام. ابتعدوا”.
لم يتم على الفور فك شيفرة المواد التي صورها فريق “الموساد” في ذلك اليوم، يقول بيرغمان، “ومضى ما يقارب الأسبوعين بعد اقتحام غرفة عثمان في فيينا حتى تسنى لأحد ما أن يلقي نظرة عليها. عندها كانت المرة الأولى التي شوهدت فيها صور للمفاعل (السوري). لقد كانت سوريا تحاول ان تصنع قنبلة، وفي الحقيقة، كانت قد حقّقت تقدماً ملحوظاً في هذه العملية، كما أنها استطاعت أن تحفظ كل المشروع في نطاق من السرية المطلقة. وكان هذا وضع لا يمكن حله بقتل عدد من الأشخاص الأساسيين، بل بحاجة الى عمل شيء أكثر عمقاً ويتطلب نوعاً مختلفاً من المعالجة”.
وللغرابة، “فان بشار الأسد كان يكن تقديراً كبيراً للاستخبارات “الإسرائيلية”، ولذا، عمل بكل جهد ممكن لخداعها، فقد كان مقتنعاً ان أي رسالة تبثها سوريا من أي وسيلة كهرومغناطيسية (هاتف أرضي، هاتف خليوي، فاكس، رسالة نصية، بريد الكتروني) كانت تحت مراقبة الاستخبارات الإسرائيلية.. ولتقليل الاخطار، أمر الأسد الجنرال محمد سليمان – ضابط الاتصال لديه مع جبهة التشدد – بأن يُنشئ جيش ظل، يكون منفصلاً ومستقلاً عن باقي مؤسسات الدفاع السورية، وحتى كبار الضباط في الجيش السوري ورئيس اركان الجيش ووزير الدفاع لم يكونوا على معرفة بالأمر. وأعطى سليمان الامر بان كل الاتصالات يجب ان تتم ورقياً وفي مغلفات مختومة بالشمع الأحمر ويتم تداولها عبر اسطول من الدراجات النارية مخصص لهذه المهمة.. وبقيت منظمة سليمان بعيدة كلياً عن أعين الاستخبارات الإسرائيلية لسنوات”.
يشير بيرغمان إلى أن السر الكبير الذي يحتفظ به محمد سليمان “كان مخفياً في واد عميق في مقاطعة دير الزور القاحلة، وذلك على بعد اميال قليلة من ضفاف نهر الفرات شمال شرق سوريا. ومنذ العام 2001، كان سليمان يشرف على تشييد الأبنية التي سيوضع فيها المفاعل الذي اشترته سوريا من كوريا الشمالية بتمويل إيراني. وكان من شأن هذا المفاعل ان يعطي سوريا القدرة على انتاج البلوتونيوم من اجل القنبلة الذرية التي كان الأسد يعتقد انها ستعطيه تكافؤاً استراتيجياً مع إسرائيل. ولم يألُ سليمان جهداً لإخفاء هذا الموقع – ولكن إبراهيم عثمان كان أحد الناس القلائل الذين يحظون بثقة سليمان. فهو كان يعلم بالمفاعل وقد ترك الملفات المتعلقة به في الحقيبة. والآن بات الإسرائيليون يعلمون به أيضاً”. (هناك الكثير من الثغرات في رواية الكاتب من شأنها ان ترخي ظلالا كبيرة من الشك على دقتها. اذ لم يشرح الكاتب لماذا كان عثمان في فيينا مثلا؟ ولماذا كان يحتفظ بصور عن ذلك المشروع الشديد السرية في حقيبته خارج سوريا وفي دولة غربية لا تعتبر حليفة لبلاده؟ وهل كان عثمان متواطئاً مع الموساد؟ أم أن الموساد أراد من خلال هذه الرواية الإيحاء بذلك).
يتابع بيرغمان روايته قائلاً “عندما وضع الموساد أيديه على المواد التي حصل عليها فريقه في يناير/كانون الثاني عام 2007، كان رئيسه مائير داغان في غمار دوره كرئيس المستشارين في الدفاع والاستراتيجيات لرئيس الوزراء ايهود أولمرت. وعندما قرر أولمرت الذهاب الى الحرب ضد حزب الله في يوليو/تموز عام 2006 عارض داغان بشدة خطة رئيس الأركان دان حالوتس التي كانت تقضي بهزيمة حزب الله من خلال الهجمات الجوية، وقال للحكومة الأمنية المصغرة “انا اعرف لبنان واعرف حزب الله ومن دون وجود جنود على الأرض وبأعداد كبيرة لن تنجح المهمة”.. لقد كان داغان شخصا بإمكانه ان يرى أعماق الآخرين وكان موهوباً في العلاقات العامة، وكان يشرك أولمرت بأكثر الحكايات دسامة للعمليات التي ينفذها الموساد، وقد بات أولمرت اسيراً لداغان وعالمه الاستخباري وعملياته الخاصة وبدأ يعطيه المزيد من القوة يوماً بعد يوم لخوض حرب الظل ضد جبهة التشدد”.
وينقل بيرغمان عن أولمرت قوله “لقد كنت أؤمن بداغان، كان يحتاج لدعمي لإقرار أفكاره المجنونة التي كان جهازه يأتيه بها”.
لقد كان اكتشاف المفاعل (السوري) “ريشة أخرى تنمو على جوانح داغان (المقصود أن الاكتشاف عزّز نفوذه)، خاصة أن أي جهاز استخباري آخر إسرائيلي أو أميركي لم يتمكن من إكتشاف المفاعل”، كما يقول بيرغمان، ويضيف “انتشر خبر وصول ألد اعداء إسرائيل إلى مرحلة متقدمة من البرنامج النووي في طول أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية وعرضها”.
وينقل بيرغمان عن أولمرت استذكاره الأمر بالقول “اتى مائير الي بهذه المواد (الصور التي اخذت من غرفة عثمان في فيينا) وبدا الأمر كأنه زلزال”. بعدها بوقت قصير، أوفد أولمرت داغان الى الولايات المتحدة لإعطاء تلك المعلومات إلى مستشار الأمن القومي ستيفن هادلي ورئيس الـ”سي آي ايه” مايكل هايدن. كان داغان في المصعد متوجهاً الى الطابق السابع في مقر الـ”سي آي ايه” في لانغلي، وكان المكان مألوفاً لديه وهو ضيف مرحب به هناك، وكان من المعروف ان داغان على توافق تام مع هايدن ويقول داغان عن نظيره الأميركي “إنه شخص مباشر، وضابط استخبارات في كل عظمة من جسمه وكان يصغي بإمعان إلى ما أقول له”. في المقابل، كان هايدن يؤمن بداغان ويقول عنه “انه شخص مباشر، سهل الحديث، صريح بفجاجة، متواضع وصادق وشديد المعرفة”. وقد بنى الرجلان أعمق علاقات ثقة في تاريخ وكالات الاستخبارات في بلديهما، ما أطلق مرحلة من التعاون العميق بينهما. وقال هايدن “نحن قوة كبيرة وغنية تقنياً ونعمل على مستوى العالم فيما كان الإسرائيليون صغار الحجم وأكثر تركيزاً واذكياء ثقافياً ولغوياً ومناسبين للأهداف التي يضعها الطرفان”، وكان يعني بذلك، بحسب بيرغمان، الجهاد “الإرهابي” ومحاولات دول شرق أوسطية تطوير أسلحة دمار شامل.
يتابع بيرغمان، “كل مرة كان يزور فيها داغان مقر السي آي ايه كان يجلب معه معلومات حساسة واقتراحات، بعضها كان خلاقاً للغاية لتنفيذ عمليات مشتركة. ولكن في شهر ابريل/نيسان ذلك، “جلس داغان وفتح حقيبته واخذ منها نسخا ملونة لصور مفاعل دير الزور”، ولفترة ليست بالقصيرة تفحص داغان مع هايدن تلك الصور وهو يتساءل ان كان خبراؤه يؤكدون ما رآه الخبراء الإسرائيليون، وكان داغان يعرف انه بالرغم من قدرات الموساد في سوريا فان جهازه كان تقريباً يفتقر للمعلومات عما كان يحدث في الطرف الآخر (بيونغ يانغ)، لذلك طلب من هايدن أن يأخذ المعلومات التي أحضرها اليه “وأن يُغمّسها في كم المعلومات التي تمتلكها السي آي ايه عن كوريا الشمالية”.
وفي صبيحة اليوم التالي، ذهب هايدن الى البيت الأبيض للقاء الرئيس جورج دبليو بوش، وفيما كان ينتظر وصول الرئيس وإلى جانبه عدد من الذين سيشاركون في الاجتماع، مال هايدن نحو نائب الرئيس ديك تشيني الذي كان دائماً يقول إن السوريين يحاولون وضع أيديهم على سلاح نووي، وهمس في أذنه قائلاً “لقد كنت محقاً سيادة نائب الرئيس”.
أنهى الرئيس بوش الاجتماع بنقطتين حاسمتين تمثلان عملياً أمرين متناقضين: “رقم واحد: يجب التأكد. رقم اثنين: ممنوع تسريب هذا الموضوع”. عاد بعدها هايدن الى لانغلي وهو يفكر بكيفية تأكيد المعلومات الإسرائيلية، من أن دون أن ينتشر الخبر “للتأكد يجب أن تجعل عدداً أكبر من الناس مشاركين في الأمر ولكن ذلك أيضاً يزيد من مخاطر إفشاء السر”، يقول هايدن، كما ينقل عنه بيرغمان.