تحديات وتحولات عالمية.. و”الدولة العربية” مؤجلة!

أسبغ الزمان علينا بأوقات نغيب فيها عن بعضنا البعض وبأوقات تجمعنا لنناقش ما أنجزناه وما أخفقنا فيه خلال الغياب ولنحلم معاً ولأمتنا بأوقات هناء ورغد وكرامة.

أما نحن فمجموعة من رجال ونساء التقينا على مرات حتى اكتمل ما اعتبرناه نصاباً متوافق الأهداف وإن اختلفت أدواته وتعدّدت حتى تباينت مصادره. بيننا صُنّاع قرار ومخططو سياسات وصُنّاع رأي ونُقّاد أدب وأبطال دراما. أغلبنا اقترب من قلب السياسة الخارجية تنظيراً أو هواية أو تدريساً أو تنفيذاً أو كلها معاً.

اقترح أحدنا أن نحمل لاجتماع هذا الشهر قوائم بهموم الأهل في بلد كل منا. نفرش الهموم على المائدة لنختار أسبقها في الأهمية ثم نُرتّب الأسبقيات استعداداً للنقاش. استبعدنا بالتأجيل مناقشة قضية عجزنا عن الاستعداد في وقت مناسب للتعامل معها وأقصد الذكاء الاصطناعي وملحقاته وتوابعه. كما استبعدنا، لضيق الوقت المخصص للاجتماع، التعرض لتفاصيل ومجريات الحرب الدائرة بين روسيا من جهة وأوكرانيا وحلف الناتو من جهة أخرى.

للانتقال مباشرة للنقاش صغنا ثلاثة عناوين رئيسة.

أولاً؛ التخبط في خطوات بناء الدولة الحديثة في العالم العربي، بين وحدة منقوصة وانفراط متسارع:

لا جدال في أن الحكام العرب سواء منهم من تلقى من المستعمر مسئولية بناء دولة أو من اختار لنفسه عبء تنفيذ هذه المهمة، جميعهم اكتشفوا بعد وقت قصير أو طويل أن إمكانات أقطارهم والبيئة المحيطة بها لم تساعدهم في أداء مهمتهم، بل ربما كانت من بين العوامل التي أحبطت مساعيهم. مرت سبعون عاماً ولم تتحول بعد أكثر “الأقطار” العربية إلى دول. صحيح أن اثنين وعشرين علماً اصطفت ترفرف على جوانب الطريق المؤدية إلى القاعة التي شهدت انعقاد القمة العربية الأخيرة، ولكن المُدقّق في تفاصيل التاريخ الحديث تُدهشه حقيقة أن أقطاراً عديدة من الدول المجتمعة في القاعة لم تكتمل بعد بناها كدولة. جميعها حصلت على اعتراف بسيادتها ولكن بعضها إن لم يكن أكثرها ما يزال يعاني وبقسوة أعراض “نقص في الدولة”. كانت هناك مقاعد في القاعة يحتلها ممثلون بصفتهم رؤساء وخلفهم جلس مساعدون ومساعدات وعندما حلّ الدور ألقى رئيس بخطبة سياسية باسم “الدولة” التي يرأسها وهي العضو كامل العضوية في جامعة الدول العربية، وفي الحقيقة يعلم ويعلم الرؤساء الآخرون أنه يتحدث باسم دولة غارقة في حرب أهلية أو تمزقها صراعات طائفية أو تهيمن على معظم أطرافها ميليشيات وعصابات مرتزقة أو تقبض على رقابها أزمة اقتصادية مستدامة وخانقة أو لم يسعفها الحظ بقيادات سياسية كفوءة، “دولة” لم تستحق بعد هذه الصفة برغم أنها حصلت على استقلالها وعلى عضوية الأمم المتحدة قبل نصف قرن أو أكثر أو أقل.

مرت سبعون عاماً ولم تتحول بعد أكثر “الأقطار” العربية إلى دول. صحيح أن اثنين وعشرين علماً اصطفت ترفرف على جوانب الطريق المؤدية إلى القاعة التي شهدت انعقاد القمة العربية الأخيرة، ولكن المُدقّق في تفاصيل التاريخ الحديث تُدهشه حقيقة أن أقطاراً عديدة من الدول المجتمعة في القاعة لم تكتمل بعد بناها كدولة

ثانياً؛ تحديات في مسيرة النظام الإقليمي:

لم تكن مسيرة سهلة بل تخللتها صعاب كادت في مرات عديدة تحبطها كلية. كان ولا يزال الوجود الإسرائيلي أحد أسباب الإحباط إذ لم تتمكن الدول العربية من تحقيق تكامل أمني يتناسب والخطر الذي يمثله وجود هذا العدو مع الدعم الغربي المتوفر له. تطور الإحباط فيما بعد ليصبح نمطاً في علاقات بمواصفات خاصة وجاري تعميمه بالسرعة المثيرة للجدل والضغط الأمريكي المتزايد بحيث يسبق احتمالات اندماج الدول العربية الواحدة بعد الأخرى في نظام إقليمي آخر متعدد الأعراق والملل.

من التحديات أيضاً الشَبَه الكبير بين اقتصادات عربية ناشئة، الأمر الذي حرم النظام العربي من فرص إقامة تكامل اقتصادي برغم أن عقد السبعينيات الماضية شهد تنفيذ تجارب تكاملية لا بأس بها وإن اعتمدت في غالبيتها على الفورة الطارئة في عائدات النفط بعد حرب أكتوبر وعلى نخبة ضئيلة العدد من التكامليين والاقتصاديين العرب. ومما لا شك فيه أن التجربة العربية في التكامل افتقرت إلى كثير مما توفر للتجربة الأوروبية من قيادات تكاملية ومن دروس التجربة الناجحة لمجموعة الحديد والصلب كنقطة انطلاق ناجحة.

تزاوجت قبل أن تنفرط عناصر هامة حققت انطلاقة السبعينيات في صنع تجارب تكامل ناجحة. إذ خلف العمل العسكري الناجح في الحرب ضد إسرائيل مع الموقف السياسي الاقتصادي للنفط مع تدفق في مشاعر العقيدة القومية في كافة أنحاء العالم العربي، كل هذا بالإضافة إلى توافر عدد من خيرة الاقتصاديين تحت قيادة مدربة في الجامعة العربية أرسى أرضية خصبة أقيمت فوقها مشروعات تكاملية حققت نجاحات.

أضف إلى ما سبق أن قيادات العمل العربي المشترك لم تفلح في تأسيس مدرسة لتسوية النزاعات بين الدول العربية. بمعنى آخر، استمر نشوب النزاعات بين الدول العربية في غياب أداة إقليمية أو قومية تنشط على الفور لإخمادها قبل أن تتصاعد فتشل جانباً أو آخر من جوانب العمل العربي المشترك. لم يخلُ الأمر، مع ذلك، من جهود قام بها أفراد ومحاولات ناجحة ساهمت بها سلطنة عمان إلا أنها في مجملها لم تسهم في وضع قواعد وطرق لتسوية النزاعات التي تنشب بين دول الجامعة العربية، منها المزمن كالنزاع بين المملكة المغربية والجزائر ومنها غريب النشأة والأطوار وأحد أطرافه دولة قطر ولم يهدأ إلا بتدخل من النظام الدولي ممثلاً في الولايات المتحدة.

إقرأ على موقع 180  إردوغان يكسب "غازياً" في المتوسط.. بفرصة أميركية

ثالثاً؛ تحولات في النظام الدولي:

كلنا في هذا العالم مقبلون على فترة عصيبة، هي فترة استثنائية بكل الحسابات والمعايير لأنها الفترة التي تستعد فيها الصين كدولة عظمى صاعدة وتستعد معها دول عديدة، كل بإسهام متواضع، لتجريد الولايات المتحدة كقطب دولي أعظم من أدوات هيمنته وتحييد إمكانات استمد منها على امتداد عشرات السنين الطاقة اللازمة لممارسة الهيمنة. على الجانب الآخر من الصراع الدائر حالياً والممتد غالباً في الفترة الطويلة القادمة لم يتأخر القطب الأمريكي المتهم بالهيمنة وسوء استغلال سلطاته كقطب أوحد وأعظم، عن تعبئة وحشد إمكانات ضخمة، من بينها ولعله في صدارتها تجييش حلف سياسي عسكري اقتصادي أيديولوجي، ليُهدّد به أمن وسلامة القطبين الروسي والصيني. جرب ضد أحدهما الحرب الفعلية والساخنة حتى تأكد لنا وللعالم بأسره تدهور حاله باستثناء احتفاظه بسلاحه النووي ليستعمله، حسب خطابه المعلن، إن تعرض وجوده لخطر الإبادة. أما الصين، القطب الثاني الذي لم يخف نيته تجريد الولايات المتحدة من أمضى أسلحة هيمنتها على العالم والوعد بتقييد حريتها في العمل الدولي عن طريق سن قواعد مختلفة يخضع لها كل الأقطاب والدول الأعضاء في نظام دولي جديد.

غالب الأمر أن يشهد الغرب انقسامات وسياسات تمرد ضد القطب الأمريكي، وبخاصة بعد أن زال التهديد الروسي، وقد تشهد آسيا، في أقصى شرقها حيث اليابان والكوريتان وحيث توجد القنبلة الأمريكية الموقوتة في مضيق تايوان. وهناك في أقصى جنوب القارة حيث الهند، توترات مع الصين تستديم كما استدامت في أوروبا الانقسامات والحروب على امتداد قرون

لن يكون هذا السباق، أو التنافس، ناعماً. وبالفعل بدأ خشناً ولئيماً وبشكل من الأشكال وحشياً. لم يخطئ كثيرا أو يبالغ من اعتبر الحرب الناشبة ضد روسيا تدريباً لحرب أشد وطأة سوف يشنها الأمريكيون بمساعدة بعض دول الغرب ضد الصين لتعود قطباً ثانوياً في هيراركية القيادة الدولية. ليس في ظننا، على كل حال، أننا سوف نكون شهوداً على نظام دولي متعدد الأقطاب. التعددية ليست ولن تكون هدفاً أمريكياً. الهدف، وقد جرّبته فعلاً وواقعاً الولايات المتحدة، نظام دولي أحادي القطبية. وإن تعذر أو تعثر فنظام دولي ثنائي القطبية، وقد جربته هو الآخر ونجحت التجربة. به وعن طريقه أضعفت القطب الثاني بسلسلة من سباقات تسلح قبل أن تخرجه نهائياً من معادلة القيادة الدولية. أما إذا اضطرت إلى قبول الصين قطباً ثانياً في نظام ثنائي القطبية فسيكون القبول مشروطاً بخضوع الصين لقواعد عمل النظام الدولي الذي شكّلته ووضعت قواعد عمله خلال وفي نهاية الحرب العالمية الثانية. من دون هذا الشرط سوف تنشب حرب باردة ولكن شرسة بين القطبين وسوف تسقط دول وشعوب كضحايا أجواء متناهية العنف.

غالب الأمر أن يشهد الغرب انقسامات وسياسات تمرد ضد القطب الأمريكي، وبخاصة بعد أن زال التهديد الروسي، وقد تشهد آسيا، في أقصى شرقها حيث اليابان والكوريتان وحيث توجد القنبلة الأمريكية الموقوتة في مضيق تايوان. وهناك في أقصى جنوب القارة حيث الهند، توترات مع الصين تستديم كما استدامت في أوروبا الانقسامات والحروب على امتداد قرون.

تشير مؤشرات أولية إلى أن السباق على إفريقيا وأمريكا الجنوبية حيث توجد وبوفرة المواد الخام الضرورية للثورة الصناعية الثانية، نقصد الثورة الإلكترونية في مرحلتها الذهبية، لن يكون متحضراً بل شرساً كسابقه، السباق الأوروبي على إفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر. الميليشيات متوفرة وبكثرة وكذلك فرق المرتزقة والزوار الكبار مندوبون عن كل الأقطاب والشركات الكبرى.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  ترسيم الحدود والحكومة: الـ29 مفقود.. وميقاتي يعود!