ما حصل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر بين إسرائيل و”حماس” لم يكن عادياً بالسياسة والعسكر والأمن والإستخبارات. نحن أمام عملية نوعية حتماً يقف وراءها مخطّطون وعسكريون وتكنولوجيون ولوجستيون، وبالتالي ثمة تداعيات عسكرية وأمنية وسياسية تجعل المستقبل غامضاً وربما مخيفاً لأن الفلسطيني هو الحلقة الأضعف في جيوسياسة المنطقة.
ومن يعتقد أن اسرائيل ليست مستعدة لهكذا سيناريو هو واهم. المشهدية ولو بصورة جزئية منها تم تصويرها عبر مسلسل “فوضى” (Fauda) عبر “نتفليكس” (Netflix). فكاتب ومنتج المسلسل كان عضواً سابقاً في جهاز الإستخبارات الإسرائيلية. ولكن المختلف اليوم هو التطبيق واختيار التوقيت الذي يُشكّل صفعة قوية لإسرائيل.
لم ينتهِ النقاش حتى الآن حول ما إذا كانت إيران على علم بتوقيت العملية الحمساوية، بمعزل عن دورها “التاريخي” في رفد حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” بالتمويل والقدرات والتدريب، لكن سؤال التخطيط والتوقيت لهذه العملية لم يُحسم أميركياً وإسرائيلياً حتى الآن.
غير أن الموضوع بتعقيداته وتداخلاته أكبر بكثير مما يتخيله البعض. ففي لحظة جيوسياسية إقليمية ودولية حرجة جداً، قرّرت منظومة إقليمية مستفيدة من شبه حياد روسي وصيني (بالحد الأدنى من خلال بياناتهما) خلط الأوراق في المنطقة من خلال عملية “طوفان الأقصى” التي يُمكن القول إنها قطعت الطريق على المشروع السعودي للتطبيع مع إسرائيل من ضمن مشروع إقتصادي توسعي ضخم ستكون نتيجته ـ إذا نجح ـ في غير مصلحة إيران والصين وروسيا.
لربما استلهم راسم السياسات الإيراني تجربة إلهام حيدر علييف ورجب طيب اردوغان في أذربيجان وكيف استفادا من هذه اللحظة الحرجة دولياً (حرب أوكرانيا) للسيطرة على إقليم ناغورني – كرباخ المحمي تاريخياً بواقع جيوسياسي معقد ولكن متوازن.. وما أن اختل التوازن الدولي حتى تم تغيير الجغرافيا والتاريخ هناك.
لقد نجحت إيران في إصابة “رؤية ٢٠٣٠” التي يقودها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من خلال إصابة فرصة التطبيع السعودي الإسرائيلي. من منظور طهران، لا يُمكن وقف هذا المسار إلا من خلال هكذا مواجهة. فأي اتفاق سلام إسرائيلي ـ سعودي سيؤدي إلى مصالحة العالم السني كله مع إسرائيل، وبالتالي تنتفي مشروعية الخطاب الإيراني “المقاوم” الذي تمكنت من خلاله طهران من إحكام قبضتها على العديد من عواصم المنطقة. تعتبر إيران أن هكذا اتفاق بين تل أبيب والرياض يُشكّل خطراً حقيقياً على أمنها الجيوسياسي ويضفي شرعية إسلامية إستثنائية على الدولة العبرية، ما يؤدي إلى إضعاف مشروع إيران الايديولوجي ـ الديني المبني على عقيدة زوال إسرائيل.
إيران أيضاً، ومن خلال عملية “حماس” العسكرية تتعسكر أكثر فأكثر خلف قطبية عالمية متنامية (صينية ـ روسية). فمن شأن تداعيات هذه الحرب ـ لا سيما إذا تحوّلت حرب استنزاف متعددة الجبهات ـ اسقاط خط التجارة بين الهند والسعودية (والإمارات) وإسرائيل وأوروبا بمباركة أميركية.
دولياً، عملية “حماس” قد تُطيح بالمشروع المنافس لخط الحرير الصيني وإقليمياً اضعاف خطط ولي العهد السعودي لتطوير وانفتاح الإقتصاد السعودي وخصوصاً حاجته إلى ميناء على البحر المتوسط، مثل ميناء حيفا بوصفه “الميناء الوحيد القابل لاستيعاب حجم التطوير الاقتصادي الحاصل هناك”، حسب خبراء أميركيين.
إن التغيير الحاصل في نمط الصراع في الشرق الأوسط ليس بالأمر العادي والسهل ولكن نتيجة طبيعية لتبدل واضح في الموازين الجيوسياسية في العالم والمنطقة. أما خلط الأوراق بالطريقة الحاصلة فقد يدفع المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة وربما فوضى شاملة. من جهة، لا تريد إيران خسارة موقعها الإستراتيجي ونفوذها المتقدم في المنطقة ومن جهة أخرى، لا تريد السماح بظهور قوة إقليمية منافسة قد تطيح بمشروعها الإقليمي. الدول الأخرى لا تريد للمشروع الإيراني أن ينتصر لأنه سيُزيل أنظمة لطالما كانت إيران تعمل على ضربها واستبدالها. الخيارات المتاحة قليلة جداً وأحلاها شديد المرورة على فلسطين والإنسان العربي المرابط في هذه البقعة الجغرافية التي وصفها الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول بـ”المضطربة والمقلقة”.