ينبري كثرٌ إلى نقد حركات المقاومة من باب المنطلقات الدينية لهذه الحركات، وبعضهم ينفر منها بالمطلق انطلاقاً من خوفه من مآلات انتصارها على الواقع السياسي، وخصوصاً بعد أن أفرز ما سمي بـ”الربيع العربي” ما أفرزه من أشكال متعددة للتطبيق “الإسلامي”.
ويلعب البعض على هذا الوتر بعناوين “السلام” و”التطبيع” و”حل الدولتين”، طمعاً بلجم اندفاعة هذا الإسلام السياسي. هذه مسألة تستحق بل يجب الوقوف عندها والتعليق عليها. لكن ما يهم هذا المقال هنا هو تسليط الضوء على أبعاد تديين الصراع العربي الإسرائيلي انطلاقاً من هذا الطرف الأخير.
تديين إسرائيلي وغربي للصراع، ساهم وسيساهم بطبيعة الحال في تغذية صعود التيار الديني المقابل، وسيؤجج الصراعات السياسية في المنطقة بأكملها من الباب الديني، وسيُقوّض كل مسعى للحلول السياسية للقضية الفلسطينية التي يسعى إليها البعض، ما دامت الأيديولوجيا الدينية هي المحركة للغطرسة الإسرائيلية. بل إنّه سيُفضي إلى الانبعاث الدائم للغة صدام الحضارات السطحية التي لا تُشكل سوى ملهاة لتحويل الأنظار عن القضايا الوضعية الدنيوية الجوهر، وهي اللغة التي لا نسمعها فقط من بنيامين نتنياهو مؤخراً، بل من بعض الإسلاميين الذين يرون في “طوفان الأقصى” تعريةً للغرب لا بل تأكيداً على قيمة حضارتهم الإسلامية في مقابل الحضارة الغربية المنافقة، والتي تأثّر في دعايتها كثر في المرحلة السابقة، ثمّ من شأن أو من إيجابية ما يحصل اليوم ـ كما يُقرّون ـ أن يعيد “المستغربون” إلى أصولهم وهوياتهم الإسلامية.. وهم في خطابهم هذا يقعون في الأدبيات المُفخخة نفسها والتي تبقي الصراع مؤججاً على هذا النحو بما يخدم سياسات أميركا ومصالحها ومن يحذو حذوها.
على أي حال، هو انبعاثٌ قديمٌ مستجدٌّ للدين في مسألة القضية الفلسطينية، يظهر في أعلى تجلياته في فترات الحروب الساخنة، كما يحصل في أيامنا هذه. ففي الأسبوع الفائت، خاطب رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو الإسرائيليين بالقول: “عليكم أن تتذكروا ما فعله عماليق بكم، كما يقول كتابنا المقدس”. ويقرأ لمن تَوجّه إليهم بخطابه في سفر صموئيل الفصل ١٥ الآية ٣ ما يلي: “الآن إذهب واضرب عماليق ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً”.
وفي رسالة وجّهها إلى الجنود الإسرائيليين في غزة بالأمس قال نتنياهو: “كلكم من نسل سلسلة الأبطال الذين لم يتردّدوا ولم يتراجعوا: يهوشوع بن نون، دبورة النبية، الملك داود، يهودا المكابي، بار كوخبا، جوزيف ترومبلدور، المقاتلون السريّون، الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن. لقد أمسكوا بسيف درع إسرائيل إلى الأبد، وأنتم تسيرون على خطاهم”. كما اقتبس في رسالته من (مزمور 3:18): “تُمَنْطِقُنِي بِقُوَّةٍ لِلْقِتَالِ. تَصْرَعُ تَحْتِي الْقَائِمِينَ عَلَيَّ”. وأضاف:” ليسمح الرب أن يوبخ أعداءنا الذين قاموا علينا في وجوههم، فليحفظ القدوس المبارك جنودنا ويحفظهم من كل ضيق، ومن كل مرض وسقم، وليباركهم ويوفقهم في كل أعمالهم. ويزينهم بتاج الخلاص وتاج النصر”.
نتنياهو هذا يُنظّم سنوياً في منزله لقاءً لمنتدى التوراة، فيربط الأحداث السياسية بالنبؤات الدينية، ويحاول تجاوز الأحداث التاريخية: “دولة الحشمونائيم صمدت ثمانين عاماً وعلينا تجاوز هذا الرقم”. هذا ما قاله في إحدى اللقاءات تلك. وهو لا ينفكّ يدغدغ المشاعر الدينية وينشد المتعالي، لحاجته إلى منطق يفوق الواقع لأجل الإقناع وشحد العزيمة، أو لأجل تفسير ما يحدث على الأرض من خارج إطار منطق السببية، وليُخاطب به الأصوليين المسيحيين والإنجيليين في أميركا وغيرها. هكذا سيلعب الدين دور الرافد السياسي غير الخاضع أو المتعالي عن الجدل، والقابل للتأثير بزخم، ليس في عهد نتنياهو، بل على طول خط الصراع القائم، ورسائل بن غوريون لزوجته التي سبقت تأسيس كيان العدو كافية ووافية للتفسير الدقيق والمبسّط لطبيعة الأيديولوجيا الدينية التي دعّمت فكرة إنشاء الوطن القومي لليهود.
أهل غزة وفلسطين، ليسوا “حماس” جميعاً. عندما يتعلّق الأمر بمظلومٍ يعاني، فإنّ الإنسان أياً كان انتماؤه وخلفيته سيشُد على يد من يأخذ بالوسيلة اليوم لإيلام الخصم أياً كانت خلفيته أيضاً. هذا شيءٌ من البداهة عندما تنعدم الحلول ويسود التطبيع ويكون الخطر على وجود الإنسان الفلسطينيّ داهماً في كلّ حين
وفي حين لا ينفك نتنياهو في كتابه “الحرب على الإرهاب كيف تهزم الأنظمة الديموقراطية الإرهاب المحلي والإرهاب العالمي” عن انتقاد الإسلام السياسي، وعلاقة الدين الإسلامي “الإرهابي” بالدولة، وهي العلاقة البعيدة عن أفكار التنوير الغربي الذي يفصل ما بين المجال السياسي والمجال الديني، يتناسى هو وأربابه الأميركيون من مدّعي العلمانية والديموقراطية أنهم هم السبّاقون في الاستخدام السافر للدين في السياسة الخارجية تجاه منطقتنا تحديداً، وفي إلباس مطامعهم الاستعمارية لبوس الأيديولوجيا الدينية، ما يجعلهم مسؤولين إلى حدّ بعيد عن الكثير من حالات النزاع والحروب، في حين أنهم ينسبون حصرية هذه الأسباب للتّعصّب الإسلامي!
ولأن الدور الأميركي في الصراع العربي الإسرائيلي هو دور تأسيسي واستثنائي، من المهم تسليط الضوء أيضاً على الحرص الأميركي على تديين هذا الصراع، والتعاطي معه بخلفية توراتية بامتياز، وتوظيفها مباشرة في السياسة، ليكون ذلك بمثابة الانقلاب على مبادئ الثورة الأميركية، بل على كل تراث فلسفة الأنوار النهضوية في الغرب.
وتستثمر أميركا الأيديولوجيا الدينية التوراتية في مجالات شتى. فقد ظهرت مثلاً منذ سبعينيات القرن الماضي ما عرفت بالكنيسة المرئية وقادتها من نجوم البرامج الدينية والتلفزيونية ممن يسمون “انجيليو التلفزيون”، وتشكل الشؤون السياسية المادة الرئيسة لهذه البرامج، وهي مملوءة بالأيديولوجيا الصهيونية.
وعلى صعيد المدارس، يذكر الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في كتاب مذكراته أنه تأثّر باكراً على مقاعد الدراسة بالمُدرّسين اليهود الذي حدّثوه عن معاناتهم وأفكارهم، ويشير أيضاً إلى المشرف في مدرسته الذي كان يهودياً وأقام في المزارع (كيبوتسات) في “إسرائيل”، والذي قصّ عليه وعلى زملائه مراراً كيف يعيش الجميع هناك ويتشاركون مشقة ومتعة محاولة إنقاذ العالم! وهو في المذكرات نفسها، أتى على ذكر التأثير البالغ لمنظمات الـ Aipac (الإيباك) الصهيونية التي تحرص على دفع السياسيين في أميركا لمنع أي إدانة لإسرائيل في مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، لافتاً الإنتباه إلى أنه لا يوجد سياسي أميركي لا يُركز على الـ Aipac باعتباره من المصادر الرئيسية لتمويل أي حملة انتخابية.
وفي الإطار نفسه، يُمكن الإتيان على الدور المتزايد للدين في إيصال جيمي كارتر إلى البيت الأبيض، وهو الرئيس الذي صرّح أنّ إسرائيل المعاصرة هي تحقيق للنبوءة التوراتية، وهو الذي آمن بمعركة “هر مجدون” التي أتى على ذكرها نتنياهو منذ أيّام. كما على الدور المثيل الذي ساهم في إيصال رونالد ريغان والذي يشير إليه هو في مذكراته أيضاً. وكان ريغان قد رفع الكتاب المقدس في مؤتمر جماهيري زاعماً أنّه يتضمّن حلولاً لكل مشاكل أميركا..
لا يُنسى في هذا الإطار أيضاً دور جورج بوش الإبن ودعوته لإحياء الحروب الصليبية وقوله إنّ خصومه من المسلمين والعرب هم يأجوج ومأجوج.. كما لا يُخفى على أحد الدور الذي لعبه دونالد ترامب، حيث شكّل فريقاً مختصاً بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كانت من بين مهامه العمل على تعزيز الحضور المسيحي-الصهيوني في قرارات الإدارة الأميركية بشكل علني وبلا تحفظ.
إسرائيل ومن خلفها أميركا تسعيان بشكل دائم ومستمر وجليّ إلى توظيف المقولات الدينية لغايات وأهداف سياسية واضحة. الأيديولوجيا الدينية السياسية هذه التي تم تبنّيها، والبعيدة كل البعد عن العلمنة، لا يمكنها من موقعها أن تنتقد الأيديولوجيا الإسلامية التي تربط الوعود القرآنية الخلاصية بالقضية الفلسطينية، لأن هذه هي الوجه المقابل لتلك، مع فارق أنها تستخدم الدين للاحتلال والاستعمار، فيما يستخدم الطرف المقابل الدين للتحرر حالياً، وينجح!
أهل غزة وفلسطين، ليسوا “حماس” جميعاً. عندما يتعلّق الأمر بمظلومٍ يعاني، فإنّ الإنسان أياً كان انتماؤه وخلفيته سيشُد على يد من يأخذ بالوسيلة اليوم لإيلام الخصم أياً كانت خلفيته أيضاً. هذا شيءٌ من البداهة عندما تنعدم الحلول ويسود التطبيع ويكون الخطر على وجود الإنسان الفلسطينيّ داهماً في كلّ حين.
على أن القضية في الصراع بين الدول، لا بين الشعوب، لا تتعلق بالحق أو الظلم، إذ لا عقد يحكم تعامل الدول فيما بينها على خلاف ما هو الحال بين الدول وشعوبها. ولهذا فإن إسرائيل وأميركا والغرب السياسي النفعي بأكمله يتعاطون بمنطق المصلحة والقوة وحده مع الدول، وهو المنطق الذي يشحدون لأجله كل الوسائل المتاحة، دينية أو غيرها. من هنا، فإن الأَولى من انتقاد الكفاح المسلح بداعي الخلفيات الدينية للمكافحين، فضح الخلفيات الدينية وغير الدينية للمستعمرين البيض الجدد، وإذاعة النقاش حول كيفية مقارعة هذه الدول بمنطق القوة نفسه.
أما القوة التي حُصِرت بالسلاح اليوم بفعل عقم واقع الدول العربية، فهي في الأساس غير محصورة به البتّة، بل تشمل القوة المتأتية من هيمنة المؤسسات وسيادة القانون وصناعة الدول القوية والحرة والعادلة والصائنة لحقوق المواطنين فيها، والتي من خلالها تستطيع أن تفرض احترامها في الداخل والخارج، وأن تفرض قوتها وكلمتها حتى يُحسب لها الحساب.. من خلال تأمين ذلك، ستُحقّق القوة مبتغاها، وسيذوب نقاش أسلمة القضية أصلاً حتّى يغيب!