منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، استشهد بنيامين نتنياهو مرات عدة بأسفار التوراة، ففي التاسع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، استحضر رئيس الوزراء الإسرائيلي استعارة من “سفر صموئيل”، وبعد التوافق على حكومة الإئتلاف في الثاني عشر من الشهر نفسه، اقتبس من “سفر التثنية” وفي الخامس والعشرين من الشهر إياه استعان بـ”سفر إشعيا” حين أسقط توصيف “أبناء الظلام” على الفلسطينيين و”أبناء النور” على بني “قومه” الإسرائيليين.
كل ذلك يقود إلى استدعاء النظرة التوراتية لغزة وكيف تعاملت نصوص التوراة مع هذه المدينة الكنعانية.
أولاً؛ “حروب الرب”:
يرد إسم غزة في “سفر التكوين” وهو السفر الأول في التوراة، فيتحدث عن جغرافية أرض كنعان الممتدة “من صيدون ـ فينيقيا ـ إلى غزة” وفي “سفر يشوع” المنسوب إلى يشوع بن نون خليفة النبي موسى “احتل يشوع جميع أرض الجبل والسهل والسفوح، وضرب ملوكها ولم يُبق باقيا، وقتل كل نفس فيها كما أمر الرب إله إسرائيل، واجتاح يشوع قادش برنيع ـ غرب وادي عربة ـ إلى غزة جنوبا”.
وإثر تقسيم أرض كنعان كما “وعد الرب” بحسب “سفر يشوع” كانت غزة من نصيب سبط يهوذا، وفي هذا السفر “ما امتلكه بنو إسرائيل في أرض كنعان، ملّكهم إياه العازر الكاهن ويشوع بن نون ورؤساء أسباط بني إسرائيل، فعلوا ذلك بالقرعة كما أمر الرب على لسان موسى (…) وكانت حصة بني يهوذا بالقرعة بحسب عشائرهم ـ ومن ضمن هذه الحصة ـ اشدود وتوابعها وقراها وغزة وتوابعها وقراها إلى وادي مصر والبحر المتوسط”.
وفي “سفر القضاة” لما توفي يشوع بن نون “سأل بنو إسرائيل الرب: من منا يصعد أولا لمحاربة الكنعانيين؟ فأجابهم الرب: بنو يهوذا يصعدون أولا (…) وهاجم بنو يهوذا أورشاليم واحتلوها بحد السيف وأحرقوها بالنار(…) وذهب بنو يهوذا مع بني شمعون أخوتهم فهاجموا الكنعانيين في صفاة ـ بلدة ليس لها أثر الآن ـ وافتتح بنو يهوذا غزة وأشقلون وعقرون”.
وضمن قائمة الحروب تلك، يروي سفر “الملوك الثاني” مطاردة حزقيا بن آحاز ملك يهوذا للفلسطيين (تولى الحُكم عام 728 ق.م وفقا لتاريخ كتبة التوراة) وهو الذي تولى المُلك “إبن خمس وعشرين سنة، ودام ملكه تسع وعشرين سنة، وعمل القويم في نظر الرب كجده داوود (…) وتوكل على الرب إله إسرائيل ولم يكن له مثيل في جميع ملوك يهوذا، لا من قبل ولا من بعد، وتمسك بالرب وما حاد عن إتباعه والعمل بوصاياه كما أمر الربُ موسى، وكان الرب معه، فحالفه النجاح في كل ما كان يعمل، وطارد الفلسطيين إلى غزة وهدم كل شيء في مناطقهم من برج الحراسة إلى المدينة المحصنة”.
ثانياً؛ “نبوءات ولعنات”:
كثيرة هي أسفار التوراة التي تتحدث عن نبوءات “أنبياء” بني إسرائيل حول غزة ولعناتهم عليها، ففي “سفر إرميا” أن “الرب” كلم إرميا فأبلغ الأخير بني إسرائيل قائلاً:
“قال الرب لإرميا النبي قبل أن يهاجم فرعون غزة: تفيض مياه من الشمال، فتصير سيلا جارفا، فتغمر الأرض وجميع ما فيها والمدن وسكانها، فيصرخ البشر ويولول اهل الأرض، فلا يلتفت الآباء إلى البنين من انهيار العزائم، في ذلك اليوم الآتي يُدمّر جميع الفلسطيين ويُقتلع أهالي صور وصيدون وجميع من بقي من مناصريهم لأن الرب يفني بقية الفلسطيين، حان لسكان غزة أن يحلقوا رؤوسهم حزنا، ولأشقلون أن تصمت، يا سيف الرب إلى متى لا تكف؟ ولكن كيف يكف؟ والرب أمره بتدمير اشقلون وساحل البحر”.
وبما أن غزة مقيمة على “الإثم والمعصية” يورد “عاموس” في سفره “أحكام الرب” عليها، فيقول:
“هذا ما قاله الرب لأجل معاصي غزة المتكررة، وبالأخص لأنهم أجلوا شعبا بكامله ـ يقصد أنهم تاجروا بالأسرى العبرانيين ـ إلى أدوم ـ جنوب البحر الميت ـ حكمتُ عليهم حكما لا رجوع عنه، فأرسل نارا على سور غزة فتأكلها ولا تُبقي منها شيئا، وأقطع الساكنين من أشدود والقابض على الصولجان من أشقلون، وأرتد بيدي على عقرون فأبيد سائر الفلسطيين، هكذا قال السيد الرب”.
هذه النصوص قد تكون كافية لعقد مقارنة بين البناء النصي التوراتي وبين البناء الخطابي لنتنياهو الذي قام على استدعاء أسفار التوراة منذ انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزة، متسولا “شرعية” دينية لتبرير حرب الإبادة على فلسطينيي القطاع، ففي خطابه إلى جنوده في 25 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم قال نتنياهو “يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم كما يقول لنا كتابنا المقدس”
ولا يختلف “سفر صفنيا” في نصه عما ورد في “عاموس” وفيه:
“هذه هي كلمة الرب التي كلم فيها صفنيا: أزيل كل شيء عن وجه الأرض، أزيل البشر والبهائم، أزيل طير السمك وسمك البحر، أسقط الأشرار وأقطع الإنسان عن وجه الأرض (…) قريب يوم الرب العظيم (…) ستكون غزة مهجورة وأشقلون خرابا، ويُطرد سكان أشدود عند الظهيرة، وتُقلع عقرون من مكانها”.
وفي “سفر زكريا” التالي:
“كلام موحى من الرب إلى النبي ـ زكريا ـ بنت ـ مدينة ـ صور حصنا لها وكنزت الفضة كالتراب والذهب كوحل الشوارع، ها السيد ـ الرب ـ يمتلكها ويضرب قدرتها في البحر فتؤكل بالنار، ترى ذلك أشقلون فتخاف، وغزة فتنحل عزيمتها، وعقرون فتُخزى من ضعفها، ويبيد المُلك من غزة، وأشقلون لا تُسكن، وأشدود يسكنها الغرباء”.
هذه النصوص قد تكون كافية لعقد مقارنة بين البناء النصي التوراتي وبين البناء الخطابي لبنيامين نتنياهو الذي قام على استدعاء أسفار التوراة بكثافة لافتة للإنتباه منذ انطلاق العدوان الإسرائيلي على غزة، متسولا “شرعية” دينية لتبرير حرب الإبادة على فلسطينيي القطاع، ففي خطابه الموجه إلى جنوده في 25 تشرين الأول/أكتوبر المنصرم قال نتنياهو “يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم كما يقول لنا كتابنا المقدس”.
من هم العماليق في الرواية التوراتية؟
تضع أسفار التوراة العماليق في قائمة القبائل أو الشعوب الفارعة الطول والشديدة القوة والصلابة والأكثر محاربة للعبرانيين، إذ وقعت وقائع معهم لا تُنسى في الذاكرة التوراتية والعبرية منذ خروج العبرانيين من مصر، فقد تصدى العماليق للعبرانيين في المنطقة الفاصلة بين مصر وأرض كنعان، ثم دارت الدوائر بين الطرفين لسنوات وعقود حتى أفنى العبرانيون العماليق كما تروي التوراة، وفي شروحات “قاموس الكتاب المقدس”:
“كان يقيم العماليق في جنوبي فلسطين، وكانوا هناك عند بدء مجيء العبرانيين، وكانوا مصدر إزعاج للعبرانيين لأنهم ـ العبرانيون ـ اعتدوا على ممتلكاتهم، وكانت المعركة المهمة بين الطرفين في غرب سيناء، وقد غلبهم العبرانيون وتشتتوا، ولكنهم وقفوا في وجه العبرانيين مرة أخرى لما أراد هؤلاء التوسع باتجاه الشمال، وبعد أن انتصر عليهم موسى ويشوع تحالفوا مع جيرانهم، وقد ضايقهم شاوول وأسر ملكهم وذبحه، وطاردهم داوود، وكان آخر ذكر لهم في أيام حزقيا الذي طارد دخولهم من جبل سعير ـ شرق وادي عربة”.
ما الذي ينص عليه سفرا “التثنية” و”صموئيل” اللذان استشهد بهما نتنياهو؟
أـ في “سفر التثنية”، يُنقل عن “الرب” قوله للعبرانيين: “اذكروا ما فعل بكم بنو عماليق في الطريق عند خروجكم من مصر، كيف هاجموكم في الطريق وتعدوا على كل متخلف وراءكم وأنتم تعبون موجعون، وما خافوا الله، فإذا أراحكم الله من جميع أعدائكم الذين حواليكم في الأرض التي يعطيكم ميراثا لتمتلكوها، فلا تنسوا أن تمحوا ذكر بني عماليق من تحت السماء”.
ب ـ في “صموئيل الأول”، “قال ـ النبي ـ صموئيل لشاوول: أنا الذي ارسلني الرب لأمسحك ملكا على شعبه بني إسرائيل، فاسمع قول الرب، هذا ما يقوله الرب القدير: تذكرتُ ما فعل بنو عماليق ببني اسرائيل حين خرجوا من مصر، وكيف هاجموهم في الطريق، إذهب الآن واضرب بني عماليق واهلك جميع ما لهم ولا تعف عنهم، بل اقتل الرجال والنساء والأطفال والرضّع والبقر والغنم والجمال والحمير، فنادى شاوول رجاله وقادهم إلى مدينة العماليق، وضرب شاوول بني عماليق وأسر أجاج ملك بني عماليق حيا، وقتل شعبه جميعا بحد السيف”.
لا ينتهي مشهد القتل بـ”إفناء” العماليق، فـ”الرب” غضب من شاوول لأنه أبقى أجاج ملك العماليق حيا ولم يفن قطعان المواشي كلها، وإنما اغتنمها، فقال له صموئيل “كنتَ حقيرا فصرت رئيسا لأسباط بني اسرائيل، مسحك الرب ملكا عليهم، وأرسلك إلى بني عماليق وقال لك إذهب وقاتل أولئك الأثمة حتى يفنوا، فلم تسمع لصوت الرب وفضلت الغنيمة وفعلت الشر في عينيه (…) وقال صموئيل لشاوول جئني بأجاج ملك بني عماليق، وقطع صموئيل أجاج أمام الرب”.
أخيراً؛ عن غزة ونزار قباني، فقد كتب الشاعر الدمشقي فقال:
يا تلاميذ غزة
علّمونا بعض ما عندكم
فنحن نسينا
علّمونا بأن نكون رجالا
فلدينا الرجال صاروا عجينا.
(*) راجع الجزء الأول: التوراة والفينيقيون.. التكفير لتبرير الإبادة