منذ تولي منصبه كرئيس لحكومة العراق في تشرين الأول/أكتوبر 2022، بعد سنة سياسية عصيبة ودموية في صراع قوى أعقب الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ثمة تكهنات وأحياناً آمال تعقد، بأن موعداً لمحمد شياع السوداني سيأتي، من أجل لقاء عتيد مع بايدن في العاصمة الأميركية، لكن ذلك لم يحصل.
جال السوداني شرقاً وغرباً، وحطّ ضيفاً عند أقرب حلفاء واشنطن، في ألمانيا وفرنسا وتركيا والسعودية والكويت والأردن ومصر، بل إنه ذهب إلى نيويورك في أيلول/سبتمبر 2023، بل واجتمع بممثلي كبرى الشركات الأميركية، فارتفعت الرهانات بأن لقاءً سيحدث على هامشها، أو ستتم دعوته إلى العاصمة واشنطن لاحقاً، إلا أن الآمال كلها تبدّدت.
والآن، فقط الآن، بعد مضي أكثر من شهر على “التهدئة العراقية” بين “فصائل المقاومة” العراقية، وبين القوات الأميركية، يُعلن البيت الأبيض أن موعداً تحدّد للسوداني في 15 نيسان/أبريل المقبل، حيث سيؤكد الجانبان “التزامهما باتفاقية الإطار الإستراتيجي، وسيعملان على تعميق رؤيتهما المشتركة لعراق آمن وذي سيادة ومزدهر ومندمج بالكامل في المنطقة الأوسع”، بالإضافة إلى “الالتزام المشترك بالهزيمة الدائمة لداعش وتطور المهمة العسكرية بعد ما يقرب من 10 سنوات من تشكيل التحالف العالمي الناجح لهزيمة داعش”، وذلك إلى جانب مناقشة “الإصلاحات المالية العراقية الجارية لتعزيز التنمية الإقتصادية والتقدم نحو استقلال العراق في مجال الطاقة وتحديثه”.
“الدفرسوار العراقي” أتى في لحظة لا مثيل لها سابقاً للاحتدام الإقليمي. وهناك خشية بالفعل من أن يكون الأميركيون والإسرائيليون من خلفهم، قد فهموا من إشارة “التهدئة” هذه، أنهم نجحوا في تشتيت صفوف ووحدة الجبهات والساحات، في وقت كان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو يدفع باتجاه مخططات عمليته الدموية الأكبر في رفح
قاآاني.. والسوداني والهدنة!
ليس خافياً أن “التهدئة العراقية” تمت برعاية إيرانية، بل وبمبادرة من طهران، من خلال أكثر من زيارة مهمة قام بها قائد “قوة القدس” في الحرس الثوري الإيراني الجنرال اسماعيل قآاني إلى بغداد، حيث اجتمع بقادة “الفصائل العراقية”، وخصوصاً المنضوية في إطار “المقاومة الإسلامية في العراق” التي شنّت أول هجوم لها باسم مناصرة غزة في 17 تشرين الأول/أكتوبر، أي بعد عشرة أيام على بدء “طوفان الأقصى”.
اجتماع الجنرال قآاني مع “الفصائل العراقية” تم في 29 كانون الثاني/يناير، أي بعد نحو 24 ساعة من اتهام واشنطن لـ”الفصائل”، وتحديداً “كتائب حزب الله” بالضلوع في هجوم “البرج 22”. وترافق هذا الإجتماع، وهذه الاتهامات، مع 4 تطورات مهمة:
أولاً؛ عُقدت جلسة محادثات أولى بين الأميركيين والعراقيين في بغداد في 27 من الشهر نفسه (أي قبل هجوم “البرج 22” بيوم واحد) للبحث في مصير “التحالف الدولي” بقيادة واشنطن.
ثانياً؛ سوّقت الولايات المتحدة لحملة تهديدات واسعة تطال كبار قادة “الفصائل” انتقاماً لهجوم “البرج 22”.
ثالثاً؛ مشاركة محمد شياع السوداني بشكل أساسي في جهود التهدئة، واعلانه قبل أيام، أن مهمة قوات التحالف الدولي، لم تعد قابلة للإستمرار ويجب البدء بالتباحث بشأن مآلاتها.
رابعاً؛ تكاثرت في مراكز الأبحاث وتقارير الصحف الأميركية فكرة طرح استخدام أموال مبيعات النفط العراقي “المحفوظة” في الفيدرالي الأميركي، تارة لمنع بغداد من المطالبة بانسحاب القوات الأميركية، وتارة أخرى من أجل الضغط على السوداني للتناغم مع التوقعات الأميركية التي صارت أولويتها الآن، وقف هجمات “الفصائل” وفق مبدأ أنهم يعملون هناك بصفة مستشارين وبحماية الدولة العراقية.
إحصائيات أميركية.. وعراقية!
وإلى ما قبل “التهدئة العراقية”، كانت “الفصائل العراقية”، بحسب البنتاغون الأميركي، قد شنّت 180 هجوماً، ضد مواقع القوات الأميركية سواء المتمركزة على الأراضي العراقية أو على الأراضي السورية، ومن غير الواضح ما إذا كانت هذه “الإحصائية” الأميركية، تتضمن عدد الهجمات التي نفّذتها هذه “الفصائل”، باتجاه الكيان الإسرائيلي نفسه سواء على مواقعه في غور الأردن أو الجولان السوري المحتل أو حيفا وأم الرشراش (إيلات) ومطار بن غوريون، كما أوردت “الفصائل” في بياناتها المتتالية.
لكن المهم أن العراق كان في لحظة مفصلية خطيرة. وقد تمكن الأميركيون، وهم يتباهون بمدى التزامهم بـ”سيادة” العراق، من قتل القيادي البارز في “كتائب حزب الله” أبو باقر الساعدي والقيادي في “حركة النجباء” مشتاق السعيدي، في قلب العاصمة بغداد، واستدعوا قاذفات “بي -52” من الولايات المتحدة للمشاركة في شنّ سلسلة غارات على مواقع داخل العراق وسوريا.
رُبّ قائل إن محمد شياع السوداني، لم يكن يملك ترف الاختيار، وأن الدفع باتجاه التهدئة كان حتمياً من جانبه. هذا التقدير ربما يكون صحيحاً، إلا أن المهم هنا أيضاً أن حصيلة هذه التطورات، خلقت ما هو بمثابة “ثغرة الدفرسوار العراقية” على جبهة “وحدة الساحات”، المتكاتفة، والمناصرة منذ أكثر من خمسة شهور لغزة وأهلها، وتحديداً في كل من البحر الأحمر ولبنان وسوريا والعراق.
هل سيظل “الدفرسوار العراقي” قائماً الآن فيما لو مضى الإجرام الإسرائيلي مدعوماً بتواطؤ أميركي، في بدء تنفيذ مخططات نتنياهو المعدة لرفح تحديداً، وما يعنيه ذلك من إبادة إضافية وتهجير كامل؟ هل سيكون لموعد انتهاء شهر رمضان، قبل أيام من اللقاء العتيد بين بايدن والسوداني، تداعيات أخطر في لحظة إقليمية أكثر سوداوية؟
“دفرسوار” البيت الأبيض!
قبل 50 سنة، أدت “ثغرة الدفرسوار”، إلى جانب أسباب أخرى عديدة، بما فيها تدخل أنور السادات، إلى قلب مسار حرب أكتوبر/تشرين العام 1973، بعدما لاحت ملامح الهزيمة قوات الإحتلال الإسرائيلي في سيناء المصرية، والتي عادت وتمكنت من تطويق الجيش المصري الثالث.
“الدفرسوار العراقي” أتى في لحظة لا مثيل لها سابقاً للاحتدام الإقليمي. وهناك خشية بالفعل من أن يكون الأميركيون والإسرائيليون من خلفهم، قد فهموا من إشارة “التهدئة” هذه، أنهم نجحوا في تشتيت صفوف ووحدة الجبهات والساحات، في وقت كان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو يدفع باتجاه مخططات عمليته الدموية الأكبر في رفح، ويُراهن كثيرون (بينهم جو بايدن نفسه، وقادة دول عربية منخرطة بمحادثات التهدئة في حرب غزة) بأن حلول شهر رمضان سيجلب هدنة تُجمّد توغل الجيش الإسرائيلي في الدم الفلسطيني، لكن ذلك لم يحصل حتى الآن.
ويمكن القول أيضاً إنه من ملامح هذه “الثغرة” في مدى صلابة جبهات “محور المقاومة”، إن الأميركيين ذهبوا في ذلك الوقت أيضاً إلى سلطنة عمان للالتقاء بالإيرانيين، مراهنين، كما كشفت صحيفتا “الفايننشال تايمز” و”نيويورك تايمز”، على اقناع طهران بأن يتم توسيع فكرة “التهدئة العراقية” نحو جبهات أخرى، وتحديداً نحو اليمن، الذي مثلما هو واضح، يُسبّب إرباكاً ملاحياً كبيراً، وهو رهان (بحسب ما قالت الصحيفتان، وبحسب قرار “أنصار الله” توسيع نطاق هجماتهم إلى المحيط الهندي)، لم ينجح.
هل سيظل “الدفرسوار العراقي” قائماً الآن فيما لو مضى الإجرام الإسرائيلي مدعوماً بتواطؤ أميركي، في بدء تنفيذ مخططات نتنياهو المعدة لرفح تحديداً، وما يعنيه ذلك من إبادة إضافية وتهجير كامل؟ هل سيكون لموعد انتهاء شهر رمضان، قبل أيام من اللقاء العتيد بين بايدن والسوداني، تداعيات أخطر في لحظة إقليمية أكثر سوداوية؟ هل يُعدّل قادة جبهات الإسناد، من حساباتهم الإقليمية، لسد هذا “الدفرسوار” في هذه المعركة المصيرية؟ .. سنرى.