عناصر القوة الفلسطينية.. وضرورة استثمارها

تتوافر للقضية الفلسطينية اليوم فرصة ذهبية باتجاه تثبيت موقعيتها وعدالتها وأولويتها على جدول الأعمال العالمي. فرصة تستدعي تجميع أوراق القوة الفلسطينية من جهة والبناء على بداية ترهل الكيان الإسرائيلي داخلياً وخارجياً من جهة ثانية.

عطفاً على المقال السابق (فتح وحماس أسيرتا لغة الماضي) الذي أشرنا فيه إلى عناصر قوة اكتسبتها القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة، فإنّ هذا المقال وظيفته تعداد هذه العناصر على الشكل الآتي:

أولاً؛ ازدادت قوة المقاومة الفلسطينية وبالأخص حركتي حماس والجهاد الإسلامي اللتين طورتا أسلحة أغلبها محلية الصنع وجرى تطويرها بالاستفادة من تراكم خبرات وتعاون عسكري وأمني ولوجستي مع أطراف فاعلة في محور المقاومة. بالطبع، تبقى قدرات المقاومة – ومهما كبرت – لا تقاس بقوة الجيش الإسرائيلي وكثافة نيرانه والتفوق الجوي الذي يمتلكه، الا أنّ الثغرات التي يعاني منها هذا الجيش كانت محط دراسة من قبل المعنيين في المقاومة الفلسطينية، وهذا ما دفعها لأن تطلق معركة “طوفان الأقصى” الاستراتيجية اذ للمرة الأولى في تاريخ المقاومات الشعبية، تنتقل المقاومة الفلسطينية من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم. من دون أدنى شك، استطاعت المقاومة الفلسطينية تثبيت انتصارات عدّة في السنوات الأخيرة لعلّ أبرزها صفقة “جلعاد شاليط” التي حرّرت أكثر من ألف معتقل فلسطيني هذا إضافة إلى دفاعها عن قطاع غزّة في كل الحروب التي شنّت على القطاع، منذ عام ٢٠٠٨ ولغاية عام ٢٠٢٣ وتالياً افشالها العديد من مخططات العدو.

أدّت الحملات المتزايدة على فروع الشركات الدولية في إسرائيل إلى فسخ عقودها وتعاملاتها مع الدولة الإسرائيلية. شركة Veolia واحدة من هذه الشركات اذ أقدمت على بيع علامتها في إسرائيل وألغت دورها في تأمين وصيانة البنى التحتية في المستوطنات وخسرت الشركة بموجب ضغوطات الحملة، عقوداً قُدّرت بنحو عشرين مليار دولار

ثانياً؛ برزت في السنوات العشر الماضية أشكال مختلفة من المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي على شكل هبّات شعبية لم تكن الفصائل الفلسطينية على دراية كاملة بظروفها انما رفدتها بالقدرات والموارد الضرورية عندما دعت الحاجة. شكلّت معركة “الشيخ جرّاح” (٢٠٢١) أبرز نموذج لهذا الشكل من المقاومة اذ انطلقت المظاهرات فيما يشبه الانتفاضة الشعبية في القدس لتنتقل من بعدها إلى الضفة الغربية وغزة ومناطق عرب العام ١٩٤٨. كانت المرة الأولى التي يهبّ فيها الشعب الفلسطيني هبة واحدة في جميع مناطق تواجده في فلسطين.

ثالثاً؛ تنامي قوة وتأثير حركة مقاطعة إسرائيل، فهذا الحراك العالمي المناهض لإسرائيل استطاع منذ تأسيسه عام ٢٠٠٥ من تحقيق إنجازات نوعية في حقول ثلاثة يتحرك ضمنها هي المقاطعة الاقتصادية والثقافية والأكاديمية. وتشير الاحصائيات الصادرة عن الحركة إلى أنّ المقاطعة الاقتصادية كانت السبب الرئيس في انخفاض قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في عام ٢٠١٤ بنسبة ٤٦٪ مقارنة عمّا كانت عليه عام ٢٠١٣. إضافة إلى ذلك، أدّت الحملات المتزايدة على فروع الشركات الدولية في إسرائيل إلى فسخ عقودها وتعاملاتها مع الدولة الإسرائيلية. شركة (Veolia) واحدة من هذه الشركات اذ أقدمت على بيع علامتها في إسرائيل وألغت دورها في تأمين وصيانة البنى التحتية في المستوطنات وخسرت الشركة بموجب ضغوطات الحملة، عقوداً قُدّرت بنحو عشرين مليار دولار.

رابعاً؛ عام ٢٠١٢، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار بجعل فلسطين دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة بعد تأييد ١٣٨ دولة مقابل اعتراض ٩ دول وامتناع ٤١ دولة عن التصويت. لقد شكّل هذا التاريخ علامة فارقة في النضال لتثبيت وضعية فلسطين القانونية في الأمم المتحدة ويُعدُ هذا الأمر تتويجاً لمسار طويل من العمل السياسي والديبلوماسي الشاق، والذي بدأ باعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي، بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. صحيح أن فلسطين لم تصبح بعد دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، الا أن حصولها على هذه المكانة، أهلّها للانضمام إلى اتفاقات ومواثيق دولية تستطيع من خلالها أن تقاضي إسرائيل أمام المحافل الدولية وشكّل هذا الأمر انجازاً نوعياً يؤمل الاستفادة منه والبناء عليه في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني.

وإذا كانت هذه العناصر موجودة ما قبل الحرب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزة، فإنها تأثيرها ازداد وأضيفت إليها عناصر جديدة في خضمّ الحرب الجارية لعلّ أبرزها الآتي:

  • ازدياد حجم التعاطف والتأييد الدولي مع القضية الفلسطينية: عمّت التظاهرات الرافضة لحرب الإبادة الجماعية والداعية لوقف إطلاق النار أكثر من مائة دولة في العالم. هذه المظاهرات وضعت الدول الأوروبية والغربية في حرج شديد أمام شعوبها اذ تؤيد معظم الحكومات الغربية، الدولة الإسرائيلية ما أثر على سمعتها الأخلاقية والسياسية وليس بأمر تفصيلي أن تحدث نقاشات وخلافات داخلية على خلفية الحرب على غزة، في أكثر من حزب حاكم سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو في الدول الأوروبية.
  • رأي عام عربي يرفض التطبيع الرسمي مع الكيان: على الرغم من تطبيع بعض الدول العربية والإسلامية مع دولة الاحتلال، الا أنّ الرفض الشعبي العربي لإسرائيل لا يزال راسخاً في الوجدان العام وهذا ما تؤكده التظاهرات التي سارت في عدد من العواصم العربية. إضافة إلى ذلك، فإنّ استطلاعات الرأي تشير إلى ذلك أيضاً. على سبيل المثال لا الحصر، أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مطلع هذا العام، رفض ٨٩٪ من المستطلعين العرب أن تعترف بلدانهم بإسرائيل. الجدير ذكره أنّ نسبة الذين يرفضون الاعتراف بإسرائيل في استطلاع عام ٢٠٢٢، كانت ٨٤٪.
  • مثول إسرائيل للمرة الأولى أمام محكمة العدل الدولية: أصدرت محكمة العدل في كانون الثاني/يناير الماضي، قراراً تطلب فيه من إسرائيل اتخاذ كل ما بوسعها لمنع جميع الأعمال التي تتضمنها المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، فيما يتعلق بالفلسطينيين في غزة. ويشمل ذلك على وجه الخصوص الأعمال المتعلقة بقتل أعضاء من جماعة أو إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بهم أو إخضاع الجماعة – عمداً – لظروف معيشية يراد بها تدميرها كلياً أو جزئياً. صحيح أنّ قرار المحكمة لم يدعُ إلى وقف صريح لإطلاق النار ولا وقف الحرب الا أنّ محاكمة إسرائيل وللمرة الأولى في التاريخ المعاصر، عرّت الكيان سياسياً وقانونياً ووّفرت للفلسطينيين نصراً ولو معنوياً، ينبغي أن يستفاد منه في تراكم النضالات السياسية والقانونية ضد دولة “الأبارتيد” الصهيونية.
  • ازدياد الوعي العربي والعالمي بأحقية القضية الفلسطينية: إزداد منسوب هذا الوعي بنسبة كبيرة بعد أن شاهد العالم أجمع، فظائع إسرائيل وجرائمها. لقد وفرّت وسائل الاعلام الجديد تدفق هائل للمعلومات والصور والحقائق على الرغم من التمييز ضدّ المنشورات المؤيدة للحق الفلسطيني على شبكة الانترنت. وأسهم ما يسمى بجيل Z، في ثورة المعلومات هذه، وأضحى لاعباً أساسياً في عملية تغيير الحقائق والسرديات التي كانت مسيطرة على أغلب وسائل الاعلام التقليدية في الغرب، كما المؤسسات والنخب السياسية الحاكمة.

علينا توظيف عناصر القوة الفلسطينية والعربية وأن تكون هذه المهمة موضوعة على “أجندة” صنّاع القرار الفلسطيني كي يتم الارتقاء بمستوى التحديات المفروضة على عاتق الفلسطينيين في هذه اللحظة الحاسمة والمصيرية التي تمرّ فيها القضية الفلسطينية

استعرض هذا المقال نقاط قوة القضية الفلسطينية ولكن المشكلة تكمن في عدم تأطير هذه النجاحات ضمن برنامج واستراتيجية وطنية فلسطينية. لقد أدّى الانقسام السياسي الفلسطيني إضافة إلى عمالة السلطة الفلسطينية في تبعثر هذه النجاحات وعدم استثمارها سياسياً. انّ هذه العناصر مجتمعةً يجب أن تشكّل العامود الفقري لبرنامج النضال الوطني الفلسطيني، ويجب أن تشكّل ركيزة أساسية ضمن ركائز الوحدة الفلسطينية الداخلية، ضمن أطر منظمة التحرير الفلسطينية (بعد إصلاحها والاتفاق على مشروعها السياسي). لا يجب أن تلغي هذه العناصر بعضها البعض، فالقيادة السياسية ينبغي لها أن توفر الأدوات والعناصر الضرورية، في سياق درس كل مرحلة، وتطويع هذه العناصر تبعاً للظروف والسياقات، والاستفادة من الخبرات والموارد، وتوظيف الطاقات الفلسطينية في عملية تحشيد النضال الوطنيّ الفلسطيني. إن تكامل الأدوات وتنوع المقاومات لا ينبغي له أن يكون في موقع متعارض. القيادة السياسية الحكيمة يجب أن تُوفّر البيئة المناسبة لتكامل المقاومات بأشكالها العسكرية والشعبية والديبلوماسية والسياسية.

إقرأ على موقع 180  تجليات عشوائية لنجمة زرقاء.. وعقول بيضاء!

أخيراً؛ علينا توظيف عناصر القوة الفلسطينية والعربية وأن تكون هذه المهمة موضوعة على “أجندة” صنّاع القرار الفلسطيني كي يتم الارتقاء بمستوى التحديات المفروضة على عاتق الفلسطينيين في هذه اللحظة الحاسمة والمصيرية التي تمرّ فيها القضية الفلسطينية.

إن الخطوط العامة الآنفة الذكر تُشكّل اطاراً لاستراتيجية متكاملة يحب أن توضع نصب عينيها مهمة الكفاح المسلّح، من أجل استعادة الأرض الفلسطينية وعودة اللاجئين إليها وإقامة دولة الحرية والعدالة والاستقلال، على أنقاض دولة الاحتلال والاجرام والقتل.

(*) راجع مقالة سابقة للكاتب بعنوان “فتح وحماس أسيرتا لغة الماضي“.

 

Print Friendly, PDF & Email
عطالله السليم

كاتب وباحث سياسي

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  المنازلة الإيرانية الإسرائيلية.. غير مسبوقة في التاريخ العسكري!