بعد التضامن العابر الذي أظهره معظم المسؤولين الإسرائيليين مع نتنياهو عقب طلب المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية كريم خان اصدار مذكرات توقيف بحقه وبحق غالانت، بتهمة تجويع الفلسطينيين في قطاع غزة، طفت على السطح مجدداً الخلافات المستحكمة داخل مجلس الحرب، لتُثار معها عاصفة من الأسئلة حول مدى قدرة بيني غانتس على اطاحة نتنياهو في حال قرّر الخروج من الحكومة وخوض غمار حملة من أجل الانتخابات المبكرة، وهل قرّرت واشنطن أن تستخدم ما يُمكن أن يتوفر لها من أوراق في الداخل الإسرائيلي للضغط على نتنياهو؟
الهجوم العنيف الذي شنّه، يوم الخميس الماضي، غادي آيزنكوت الوزير غير الأساسي في مجلس الحرب عن حزب الوحدة الوطنية الذي يتزعمه غانتس، على نتنياهو، يُنذر باقتراب ترجمة الانقسام في المواقف بين الوزراء إلى قرار بترك الحكومة. آيزنكوت اتهم رئيس الوزراء “بزرع أوهام كاذبة” عندما يتحدث عن “النصر المطلق” أو القضاء المبرم على “حماس” لأن الحركة هي “إيديولوجية دينية” وأنه لو أجريت انتخابات في غزة اليوم “لفازت فيها”، وفق ما قال.
وتبع ذلك تقديم رئيسة كتلة حزب الوحدة الوطنية بنينا تمانو مشروع قانون لحل الكنيست تمهيداً لانتخابات مبكرة. سبق هذه الخطوة، الاعلان عن تشكيل جبهة تضم زعيم حزب “هناك مستقبل” يائير لابيد ورئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان ورئيس حزب “أمل جديد” جدعون ساعر، بهدف الدفع نحو إجراء انتخابات مبكرة.
ومع ذلك، يبقى غانتس الأوفر حظاً لمواجهة نتنياهو، وفق ما تظهره استطلاعات الرأي، على الرغم من تدني نسبة التأييد لحزبه من 41 مقعداً قبل أشهر إلى 25 مقعداً اليوم، بحسب استطلاع أجرته قبل أيام القناة الثانية عشرة في التلفزيون الإسرائيلي. واستطاع حزب الليكود تقليص الفارق مع حزب الوحدة الوطنية ليحصل على 21 مقعداً بعدما كان قبل أشهر عند رصيد 17 مقعداً فقط.
على افتراض أتى غانتس رئيساً للوزراء، فإن فرص حصول تغيير كبير في سياسات التعامل مع غزة مستبعدة إلى حد كبير. فهو على غرار نتنياهو، يؤمن بأن الجيش الإسرائيلي يجب أن يمتلك حرية الحركة في في غزة عندما يكون ذلك ضرورياً. وهو ليس مستعداً للحديث عن دولة فلسطينية مستقلة، لكنه يتحدث فقط عن ما يسميه “كيان فلسطيني منفصل”
في 18 أيار/مايو الماضي، عقد غانتس، مؤتمره الصحافي الذي لوّح فيه بمغادرة الحكومة إذا لم يضع نتنياهو خطة واضحة لما صار متعارفاً عليه بـ”اليوم التالي” للحرب في غزة. ومن بين النقاط التي طرحها ضرورة منح الأولوية لإعادة ما تبقى من الأسرى في أيدي “حماس” والعمل لتشكيل ادارة مدعومة دولياً تتولى المسؤولية المدنية في القطاع، والقبول بالتطبيع مع السعودية في سياق العرض المقدم من واشنطن ويشمل قضايا أخرى أبرزها الاتفاق الدفاعي بين المملكة والولايات المتحدة.
غانتس، الذي يُقدّم نفسه وسطياً، عيّنه نتنياهو رئيساً للأركان عام 2011. وقرّر عام 2018 الانخراط في السياسة، وتواجه مع نتنياهو في ثلاث انتخابات انتهت إلى طريق مسدود. وفي أيار/مايو 2020، تراجع غانتس عن تعهده بألا يشارك في حكومة برئاسة نتنياهو. وبرّر قراره وقتذاك بضرورة توحيد الجهود لمكافحة وباء كورونا. لكن سرعان ما انهارت تلك الحكومة بعد أشهر قليلة، بعد فشلها في تقديم الموازنة إلى الكنيست. وانضم غانتس إلى مجلس الحرب عقب هجوم “حماس” على غلاف غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مُبرّراً ذلك أيضاً بأن المصلحة الوطنية تقتضي ذلك في زمن الحرب، وأنه لم يكن بدافع انتهاز الفرصة للقفز من حزب صغير إلى المشاركة في أهم منتدى لصنع القرار في الحكومة، وفق ما ترى صحيفة “تايمز” البريطانية. ومثلاً، رفض يائير لابيد الانضمام إلى الحكومة بسبب مشاركة الأحزاب اليمينية المتطرفة فيها على غرار “الصهيونية الدينية” برئاسة بتسلئيل سموتريتش وحزب “القوة اليهودية” بزعامة إيتامار بن غفير.
وينتقد كثيرون غانتس بسبب تردده، ويعتبرونه ليس رجل مواجهة، وأنه يميل في معظم الأحيان إلى عدم الحسم. ويقول عنه أحد منافسيه السياسيين إن غانتس “عمل حثيثاً ليحافظ على صورته كوسطي، مما يعني أنه يحاول دائماً أن يكون في الوسط، وبأنه لا يثير غضب أحد. وهذا ما صبّ في مصلحته في الاستطلاعات، لأن الإسرائيليين يتوقون إلى الوحدة في زمن الحرب، لكن ذلك يعني أيضاً أنه لا يمكنه فعل ذلك إلى الأبد”.
غير أن تردُد غانتس في اتخاذ موقف حاسم من سياسة نتنياهو قبل الآن، هو السبب في تراجع نسبة التأييد لحزبه. مثلاً، لم يعقد غانتس مؤتمره الصحافي الذي أعلن فيه توجهاته، إلا بعد ثلاثة أيام من مؤتمر صحافي مماثل عقده غالانت، ولوّح فيه بالخروج من الحكومة إذا لم يضع نتنياهو استراتيجية في غزة لما بعد الحرب، لا تتضمن سيطرة “لا عسكرية ولا مدنية” إسرائيلية على القطاع على المدى البعيد.
والخروج المحتمل لغانتس من الحكومة لا يُسقطها، لأن ائتلاف نتنياهو سيبقى محتفظاً بغالبية من 64 مقعداً في الحكومة. بيد أن الضغوط الداخلية على الحكومة ستتصاعد أكثر، بدليل تلويح وزير المالية بتسلئيل سموتريتيش وايتامار بن غفير الليلة الماضية بالاستقالة من الحكومة إذا وافق نتنياهو على خطة الرئيس الأميركي لوقف النار وتبادل الأسرى والانسحاب من غزة. وقد يتكرر مشهد ألفته إسرائيل قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر مع خروج مئات الآلاف إلى الشوارع ضد التعديلات القضائية التي اقترحها نتنياهو. وقد تُشجّع استقالة غانتس، بصفته جنرالاً سابقاً، جنود الاحتياط العائدين من الجبهة في غزة على المشاركة في الاحتجاجات والدعوة إلى انتخابات مبكرة. وكان لافتاً للانتباه الاستطلاع الذي أجرته “يديعوت أحرونوت” للجيش الإسرائيلي وتبين فيه أن 42% من الضباط فقط يرغبون في مواصلة الخدمة بعد انتهاء الحرب، فيما تضاعفت أرقام طلبات التقاعد التي يُقدمها الضباط في الجيش، ووصفت الصحيفة نتائج الاستطلاع بأنها “مذهلة” و”مقلقة”!
وعلى افتراض تَبّدلَ المشهد في إسرائيل، وأتى غانتس رئيساً للوزراء، فإن فرص حصول تغيير كبير في سياسات التعامل مع غزة مستبعدة إلى حد كبير. فهو على غرار نتنياهو، يؤمن بأن الجيش الإسرائيلي يجب أن يمتلك حرية الحركة في في غزة عندما يكون ذلك ضرورياً. وهو ليس مستعداً للحديث عن دولة فلسطينية مستقلة، لكنه يتحدث فقط عن ما يسميه “كيان فلسطيني منفصل”.
وتربط صحيفة “الغارديان” البريطانية بين “الإنجراف الاستراتيجي” للحرب وتراجع مكانة إسرائيل في العالم، وعن تصاعد حدة الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي لتصل إلى الجيش، وتُورد مثلاً على ذلك، التسجيل المصوّر الذي ظهر فيه جندي ملثم على أحد المباني في غزة، وهو يُهدّد بالتمرد في حال أصدر غالانت قراراً بوقف الحرب. وبالمقابل، يتصاعد يوماً بعد يوم حراك أمهات الجنود الإسرائيليين المشاركين في الحرب، متقاطعاً في معظم شعاراته مع تلك التي يرفعها ذوو الأسرى الإسرائيليين الذين زخموا تحركهم في الشارع ضد الحكومة على وقع إعلان البيت الأبيض عن خطة وقف النار.
وبينما أظهرت استطلاعات الرأي في تشرين الأول/أكتوبر، أن 70 في المئة من الإسرائيليين يعتقدون أن إسرائيل يجب أن تُقاتل حتى يتم “القضاء على حماس”، أظهر استطلاع أجراه معهد “ميدغام” الإسرائيلي في أيار/مايو المنصرم أن 62 في المئة يعتقدون الآن، أن تحقيق “النصر الكامل” في غزة أمرٌ مستحيلٌ.
وعلى خلفية هذا الانقسام الداخلي وزيادة حدة الجدل حول “اليوم التالي” للحرب، هل يُنفذ غانتس تهديده بالخروج من الحكومة؟ وهل فعلاً هو الشخص القادر على اسقاط نتنياهو؟ هكذا تتساءل “تايمز” البريطانية.
حتماً ستحمل الأيام المقبلة تطورات حافلة إسرائيلياً، إلا إذا اختار نتنياهو الخيار الأسهل برفض الخطة الأميركية والمضي في قرار الحرب، فيحافظ بذلك على الإئتلاف الحكومي من جهة ويستمر بسياسة الحد من الخسائر التي يتبعها منذ ثمانية أشهر من جهة أخرى.