ولكنّني أؤمن حقّاً، بأنّ الشّعوب التي تريد أن تُحافظ على كرامتها، وأن تكتسب استقلالها، وأن تُمسك بمستقبلِها بأيديها: لا بُدّ وأن تُضحّي بشكل أو بآخر.
إنّ الذين يتهيّبون مناظر التّضحيات الجسام التي تحصل حاليّاً في لبنان لم يقرأوا جيّداً، برأيي، عن المعارك التي قادتها أغلب الأمم المتقدّمة حاليّاً.. في سبيل التّمسّك بكرامتها ونيل استقلالها وتحرير إرادتها والدّفاع عن هويّتها.
***
التّضحيات الحاليّة كبيرة بل وعظيمة جدّاً.. ولكن ليس هذا هو الذي يجعلني أطرح اليومَ سؤال: هل هناك من أمل حقّاً، في مستقبل هذا البلد.. الذي سُمّيَ “لبنان”؟
هل سنتمكّن من بناء وطن حقيقيّ سويّاً، مع ما يعنيه ذلك ليس فقط على مستوى بناء الدّولة والمواطنة والمؤسّسات.. بل أيضاً، على مستوى:
(١) الاتّفاق على الحدّ الأدنى من منسوب تقبّل بعضنا البعض برغم اختلافاتنا الكبيرة، وعلى مختلف الصّعد؛
(٢) الاتّفاق على الحدّ الأدنى من مُسلّمات الهويّة اللّبنانيّة وزوايا تأويلها؛
(٣) الاتّفاق على الحدّ الأدنى من مُسلّمات السّياسة الخارجيّة، لا سيّما في ما يخصّ مُسلّمات التّموضع أمام قضايا الإقليم، وعلى رأسها القضيّة الفلسطينيّة بمختلف جوانبها؟
نحن في بلد تكثر فيه الخلافات والاختلافات وتتشعّب. ليس في هذا من أمرٍ جديد. ولكن، عند انطلاق حرب غزّة أواخر العام الماضي، بدأت أشعر، مع تعمّق أكبر، بأنّنا حقّاً.. قد نكون، في هذا البلد، لا نزال نعيش على كواكب بعيدة عن بعضها البعض سنوات ضوئيّة. ولم يتوقّف هذا الشّعور عن التّنامي منذ أكتوبر ٢٠٢٣.. وصولاً إلى المرحلة الرّاهنة من الحرب.
***
حقًّا، لنسأل بعضنا البعض، وبشفافيّة وبصدق وبلا تهرّب: كيف يكون هناك أمل ببناء وطن حقيقيّ، أمام واقع لبنانيّ كهذا؟
أي أمام هذا الواقع “الحقيقيّ” لا المُتخيّل.. ولا المُتوهّم، طبعاً، من قِبل أهل السّلطة السّياسيّة الفاشلة، وأهل اللّغة الخشبيّة البائسة والتي مللنا منها ومن أصحابها أجمعين (من “وسطيّين” ومن غير “وسطيّين”)؟
من زاويتي الشّخصيّة، ومن زاوية الذين يشتركون معي في أكثر قناعاتي “الوطنيّة” الأساسيّة، إن صحّ التّعبير، فلنسألْ مثلاً، قبل الوصول إلى الصّورة الاجماليّة، وقبل تحكيم “العقل” بشكل كُلّيّ كما يقولون. أكرّر، لنسألْ ما يلي بشكل ابتدائيّ وبدائيّ، قبل العودة إلى الصّورة الاجماليّة:
كيف سنبني مثلاً مع الذين لا يزالون يعتقدون بأنّهم يعيشون في “موناكو الشّرق” أو في “سويسرا الشّرق“.. وهناك “مَن” خرّب لهم هذه الجزيرة المُتخيّلة؟ (تحدّثتُ عن هذا الموضوع أوّل حرب غزّة، ونبّهت إلى مخاطر هذه الأساطير اليمينيّة اللّبنانيّة، وقد اعتبر البعض أنّني ذهبت بعيداً في نقدي ربّما.. ولكن لا أظنّ أنّهم هم المُصيبون أبداً[1]).
ثمّ، كيف سنبني مع من يعيش في قلب الشّرق.. وهو لم ينفكّ عن الاصرار على أنّه جزءٌ لا يتجزّأ من الغرب (ولو ادّعى خلاف ذلك أحياناً)؟ أليس هناك شريحةٌ كبيرة من اللّبنانيّين ما فتئت تريد العيش على أنّها جزء من الغرب.. ليس فقط ثقافيّاً واجتماعيّاً، بل وبما هو أبعد من ذلك؟ علينا أن نكون صريحين مع بعضنا البعض، ونطرح المسائل كما هي.
وبعده، كيف سنبني أيضاً مع من لا يرى في “إسرائيل” عدوّاً حقيقيّاً وجدّيّاً.. وبالأخصّ، عدوّاً ذا نوايا عُدوانيّة وتوسّعيّة (ولو ادّعى خلاف ذلك أيضاً.. وكفانا لغة خشبيّة هنا كذلك)؟
ثمّ كيف سنبني مع من لا يزال يُصدّق أنّ القانون الدّوليّ والمجتمع الدّوليّ والشّرعيّة الدّوليّة.. ستحميه، بشكل جوهريّ ولوحدها، من هذا العدوّ ومن مخطّطاته؟ هل يمازحنا هؤلاء؟ حقّاً: هل “يمزحون” معنا؟ أيّ قانون دوليّ وأيّ شرعيّة دوليّة.. أمام “إسرائيل” واللّوبيات الموالية لها؟
بعد حرب الإبادة في غزّة، أصبح هذا الخطاب من صنف المزاح الثّقيل.. والثّقيل جدّاً بصراحة.
هل يُمكن الوثوق بإمكانية بناء أيّ مشروع وطنيّ، ونحن نهرب من أيّ مجهود حقيقيّ في سبيل تطهير مؤسّساتنا ومواقعنا الوطنيّة من الفساد ومن سوء الإدارة ومن الفوضى بمختلف أوجهها؟ هل يُمكن الوثوق بإمكانية بناء أيّ مشروع وطنيّ، أو أيّ منافسة حقيقيّة للتّفوّق العلميّ والتّقنيّ لدى العدوّ.. ونحن نهرب من بناء مجتمعات صحّيّة وكوادر شبابيّة مُقتنعة ببلدها؟
أضف إلى ما سبق: كيف سنبني مع من يتعلّقون، ضمن جميع أطياف مجتمعنا، بزعامات بائدة (وفاشلة).. من دون قيد أو شرط؟ بالله عليكم: أيّ دولة سنبني مع أوساط واسعة من اللّبنانيّين ما فتئتْ تتعلّق بزعاماتها الطّائفيّة لحجج مُختلفة؟ ألا يسأل بعضنا نفسَه مثلاً: من أوصل هذا البلد إلى هذه الفوضى المؤسّساتيّة والإداريّة والإقتصاديّة غير المسبوقة ربّما. هل هذا فعل الأميركيّين والايرانيّين والسّوريّين والسّعوديّين.. إلى آخر القائمة المتخيّلة في أغلبها؟ حقّاً، نحن هنا أمام مشكلة حقيقيّة مع البعض من أهلنا، خصوصاً وأنّنا لا نزال نقرأ هنا وهناك لبعض “النّخب”.. من التي لا تتردّد بالقيام بحفلات الاطراء والمديح في حقّ بعض هذه الزّعامات (ولحجج مختلفة، لا يُعوّل عليها طبعاً).
أضف إلى ما سبق أيضاً: كيف سنبني مع من يؤوّلون “العروبة”.. على أنّها ربّما اتّباع كلّ ذي لسان عربيّ ومقال، وكلّ ذي أصول وأموال، ولو ذهب إلى حدّ التّحالف العلنيّ مع العدوّ ذي الاحتِلال؟
هل هذه هي العروبة؟ “ما شاء الله” على عروبة كهذه.. وندعو لها بالتّوفيق “إن شاء الله” في معاركها الخاسرة أمام المدّ الفارسيّ المُتوهّم، وأمام الاجتياح التّركيّ الخياليّ (ألم يسمع هؤلاء بالاحتلال الصّهيونيّ الحقيقيّ والملموس.. لأرض فلسطين العربيّة مثلاً)؟ هذه أيضاً “مزحة” أصبحت ثقيلة وثقيلة جدّاً.
ولا تتردّد أيضاً بإضافة أَن: كيف سنبني مع من لا يؤمنون أصلاً بمفهوم الدّولة أو يكادون. وبالتّحديد: كيف سنبني مع من لا يؤمنون بمفهوم دولة المواطنة الحديثة.. ومع من يؤمنون ربّما بأنّه يُمكن التّفكير، ولو للحظة، بأنّ هذا الموضوع ليس أولويّةً في عصرٍ كعصرنا (أي ٤٠٠ عام تقريباً بعد انطلاق عصر الأنوار الأوروبيّ مثلاً)؟
علينا أن نكون صريحين على جميع الجبهات ومع جميع الجهات: هل يُمكن الوثوق بإمكانية بناء أيّ مشروع وطنيّ، ونحن نهرب من أيّ مجهود حقيقيّ في سبيل تطهير مؤسّساتنا ومواقعنا الوطنيّة من الفساد ومن سوء الإدارة ومن الفوضى بمختلف أوجهها؟ هل يُمكن الوثوق بإمكانية بناء أيّ مشروع وطنيّ، أو أيّ منافسة حقيقيّة للتّفوّق العلميّ والتّقنيّ لدى العدوّ.. ونحن نهرب من بناء مجتمعات صحّيّة، وكوادر شبابيّة – وغير شبابيّة – سليمة ومُقتنعة ببلدها.. ولو في الحدّ الأدنى لذلك؟ هذا مُزاح أصبح ثقيلاً جدّاً أيضاً.. وقد غدا عميق التّأثير جدّاً وجدّاً.
أضف إليه، كذلك، وبلا خوفٍ أو وَجل: كيف سنبني مع استمرار وجود أغلب وجوه هذه الطّبقة السّياسيّة.. والذين يُجدّد لهم بعد كلّ مُصيبةٍ تحصل في هذا البلد، كما يُجدِّدُ الجسدُ المريضُ بعضَ الخلايا شبه الميتة، ليستمرّ ولو على شيء من الحياة (أو شبه الحياة)؟
يتمّ التّجديد أو إعادة الاحياء بحجج مُختلفة طبعاً، داخليّة واقليميّة ودوليّة. نفس “الخبريّة” دائماً. لكنّ الثّابت هو تجدّد هذه الطّبقة السّياسيّة العجيب من خلال نفس الوجوه تقريباً، ولا تغيير في الأفق. لا تغيير: برغم كلّ الفشل وسوء الإدارة.. وأبعد من ذلك ربّما. هل يُمكن البناء مع قومٍ أغلبهم هدّامون؟ هل من العقلانيّ الاعتقاد أنّ هؤلاء أنفسهم.. سيُعيدون بناء هذا المشروع الوطنيّ؟ على أيّ كوكب نعيش؟ (نكتفي بهذا المقدار هنا أيضاً).
***
عوامل كثيرة تجعلك تتساءل أحياناً، وبعمق: كيف سنتمكّن من بناء مشروع “وطن” حقيقيّ في بلد كهذا؟
قد يُضيف آخرون من أهلنا في هذا البلد عوامل أخرى، أو ينتقدون بعض مقارباتنا لبعض العوامل التي ذكرناها. ولكنّ الفكرة المركزيّة هي نفسها. بالعامّيّة: قد تشعر، أحياناً كثيرةً، بأنّك وسط “عصفوريّة” بكلّ ما للكلمة من معنى.
ولكن، كما رأينا في مقالٍ سابق حول مناقشة فكر أنطون سعادة بالتّحديد: الجغرافيا – اللّعينة – قد تكون أقوى من أغلب العوامل الأخرى. الجغرافيا، نعم: لأنّها هي التي تُجبرنا عمليّاً، في لبنان وفي المنطقة، على العيش سويّاً.. ورغماً عن أنوفنا (وقلوبنا وعقولنا). إنّه الواقع الجغرافيّ.
قد نستطيع الهروب من بعض المعتقدات، ومن بعض المفاهيم، ومن بعض الأيديولوجيّات، وحتّى من بعض الوقائع السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وما إلى ذلك. ولكن، حتّى الآن.. لا شيء يدلّ على أنّه يُمكن لنا الهروب من كوننا نعيش على الأرض ذاتها، وضمن “البيئة الطّبيعيّة” ذاتها (كما يُعبّر إخواننا ضمن الفكر القوميّ الاجتماعيّ بالتّحديد).
الخلاصة: إنّنا نعيش في ما يشبه “مشفى المجانين الكوميديّ” بلا شكّ. ولكن، لا مفرّ من البحث عن مخارج وحلول، برغم هول الفوضى المستمرّة في هذا “المشفى” المُرعب.
وفي ذلك، حقّاً، وإلى جانب ميدان المواجهة العسكريّة الحاليّة مع العدوّ الاسرائيليّ: فليتنافس منّا الوطنيّون؛ أو لا بُدّ وأن يتنافسوا فيه.. ولو على قاعدة أَنْ “مرغمٌ أخاكَ، لا بطل”!
نعم: ربّما نحن، بامتياز، في بلد.. “مرغمٌ أخوكَ، لا بطلُ”!
[1] راجع مقال “إلى البعض من أحبتي اللبنانيين.. لسنا في موناكو“!