بالنسبة لحزب الله وإيران، سوريا هي “رئة” التنفس الأصلية. وكما أطلق عليها يوماً “قلب العروبة النابض”، فهي كانت قلب محور المقاومة ونقطة الوصل والقطع منذ أن بدأت فكرة “المحور” بالتشكل في عام 1982. حينها كان الإجتياح الإسرائيلي للبنان قد وصل إلى العاصمة بيروت، بالتزامن مع انسحاب القوات العراقية من مدينة خرمشهر الإيرانية في خضم الحرب الإيرانية العراقية. وللمفارقة كانت تلك الحرب بين نظام يحكمه حزب البعث في العراق ونظام إسلامي يختلف في كل شيء مع فكرة البعث. والمفارقة الأكبر أن شقاق البعثين (العراقي والسوري) فتح فرصة أمام الجمهورية الإسلامية لتوطيد تحالف سيسمح لها بإرسال مجموعة من الحرس الثوري، بقيادة الضابط أحمد متوسليان، للمباشرة في بناء معسكرات تدريب في سوريا ولبنان. هكذا بدأت القصة: من معسكر في منطقة الزبداني في سوريا، واستمرت حتى سقوط نظام بشار الأسد بهروبه في منتصف ليل الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.
المشهد الثالث كان في دمشق في آب/أغسطس 2012. فبحسب رواية اللواء حسين همداني، قائد قوات الحرس الثوري السابق في سوريا (تم اغتياله في حلب في عام 2015) كان “الثوار” (المعارضة السورية) قد وصلوا إلى منطقة المزَّة. وكان الأسد يبحث عن مكان يهرب إليه- إلى روسيا تحديداً، خياره الأول. يتدخل قائد فيلق القدس آنذاك، الجنرال قاسم سليماني (اغتالته أميركا لاحقاً في العراق، في كانون الثاني/يناير 2020) ليقنع الأسد بالبقاء والقتال، حفاظاً على نظامه وعلى “نقطة الوصل للمحور”. الحرب السورية كلَّفت “المحور”، الذي تقوده إيران، ما يزيد عن الـ20 ألف مقاتل، من لبنان والعراق وسوريا وباكستان وأفغانستان وإيران. ورغم ذلك، أتت اللحظة التي لم يفكر بها قادة إيران أو حزب الله. لقد هرب الأسد، ولم يكن هناك من يمنعه عن القيام بذلك. حتى روسيا، الحليف الإستراتيجي الأول، قدمت مسألة سلامته الشخصية على أي اعتبار آخر. وإيران نفسها لم تستطع أن تفعل شيئاً لتنقذ نظامه مرة ثانية.
الأسد ينصاع لنصيحة الروس
قبل أيام من فراره، التقى الأسد بوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في دمشق. وكان الأسد قد عاد لتوّه من زيارة استمرت أربعة أيام إلى موسكو، حيث أودع زوجته وأولاده. في موسكو، حيث تنخفض درجات الحرارة في الشتاء إلى ما دون الصفر بعشرات الدرجات، خارت قوى الأسد وهو يتلقى الأخبار الواردة من بلاده: المعارضة تطلق هجوماً واسعاً، وتحتل المناطق والمدن واحدة تلو الأخرى من دون قتال يُذكر من قبل الجيش السوري.
سوريا كانت “رئة محور المقاومة”.. وسقوط نظام الأسد يعني كسر حلقة الوصل وتحول حزب الله إلى ما يشبه حال “حماس” في غزَّة.. بالنسبة للإيرانيين أن ما يحدث في سوريا سيعمّق أزمتهم بعد الحرب الإسرائيلية في لبنان، والتي تلقى فيها حزب الله
طلب الأسد من مضيفه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دعمه ومساعدته في صدّ هجمات المعارضة. فجاءه الرد الروسي بأن عليه أن يتكيّف مع واقع جديد يكون فيه للمعارضة اليد العُليا. نصيحة أخيرة أسداها بوتين لـ”الرئيس” الذي سيتم خلعه بعد أيام، وهي: أن يتلقف الحل السياسي، ويتجهز للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد ذلك.
غادر الأسد موسكو، تاركاً خلفه عائلته. وصل قبل ساعات قليلة من وصول عراقجي. يقول مصدر دبلوماسي رفيع إن طهران اكتشفت زيارة الأسد السرّية إلى موسكو، وإن أكثر ما جعلها تشعر بالقلق ليس سرّية الزيارة بل مدتها (الأسد مكث أربعة أيام هناك). هذه الإشارات بدت سيئة جداً بالنسبة لطهران، التي استثمرت الكثير من أجل أن تبقي حكم نظام الأسد ثابتاً على مدى أكثر من عقد ونيف من الزمن. فإذا كان لبنان هو خط الدفاع الأول عن “المحور”، فإن سوريا هي “الرئة” التي يتنفس بها “المحور” منذ تأسيسه في الثمانينات من القرن الماضي. وسقوط نظام الأسد في دمشق سيعني حكماً كسر حلقة الوصل الرئيسية في محور المقاومة، وتحول حزب الله في لبنان إلى ما يشبه حال حركة حماس في قطاع غزَّة المحاصر من كل الجهات. كان واضحاً بالنسبة للإيرانيين أن ما يحدث في سوريا سيعمّق أزمتهم، خصوصاً بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، وتلقي حزب الله ضربات متتالية، أهمها اغتيال أمينه العام السيّد حسن نصر الله ومجموعة كبيرة من كبار قيادي حزبه.
وبينما استمر زحف المعارضة دون توقف، بدأ الأسد خطة محصورة بدائرة ضيقة جداً لتأمين خروجه بسلام نحو منفاه الاختياري: روسيا.
أوراق مخفية بين الحلفاء
للمرة الثانية خلال أسبوع يخفي الأسد عن حلفائه الإيرانيين خط سيره. ومع ذلك لم يتردد عن مطالبتهم بمده بيد المساعدة وبشكل عاجل (في ظرف ساعات)، لكن المسؤولين الإيرانيين كانوا قد وصلوا إلى قناعة مفادها أن هناك ما يشبه الاستحالة في مساعدة رئيس لم يعد لديه جيش يقاتل. تواصل الإيرانيون مع الروس والأتراك بهدف الإتفاق على تسوية تمنع سقوط حليفهم المشترك. لكن القطار كان قد فات.
في العاصمة القطرية، الدوحة، وقبل ساعات على هروب الأسد، تداول وزراء خارجية روسيا وإيران وتركيا على حدا في مسألة حل سياسي يضمن تسليماً سلمياً للسلطة. وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بدا معترضاً على الحوار مع “هيئة تحرير الشام” باعتبارها منظمة إرهابية، بحسب التصنيف الروسي. لكن نظيره الإيراني، عراقجي، نصحه بأن يقبل الحوار “لأنهم ربما يكونون غدا في دمشق، ويكون الأسد خارج السلطة”.
لم يكن الأمر خافياً على لافروف الذي كان بدوره يخفي عن عراقجي ترتيبات إخراج الأسد.
لطالما حضرت سوريا في لقاءات المسؤولين الروس والإيرانيين على مدى السنوات الـ13 الماضية. كلا الطرفان كان يرى في سوريا امتداداً لأمنه الإقليمي ومساحة عمل لتعزيز النفوذ- كل منهما في مجاله الحيوي-ز لكن المجالين كانا متناقضين في الأهداف، المتوسطة والبعيدة.
لذلك كانت الجغرافيا السورية نقطة إلتقاء وافتراق في آن: التقاء على بقاء نظام الأسد وافتراق على دوره في محيطه، وهو ما ساهم أكثر في انقسام الولاءات على مختلف مستويات النظام وجيشه. يذكّر هذا بمقطع تاريخي من بدايات القرن الماضي، عندما دخلت بريطانيا وروسيا معاً لحماية مصالحهما وسلالة القجّار الحاكمة في إيران. تنازعت لندن وموسكو قالب الجبنة الإيراني لسنوات حتى سقطت المملكة وتولى رضا خان الحكم بعد إطاحة شاه القجّار الأخيرة. ولعل المفارقة أن روسيا وبريطانيا عادتا خلال الحرب العالمية الثانية لاحتلال إيران واجبار الشاه رضا على التنحي عن العرش لصالح ابنه.
صفعات متتالية
في المحصلة، أضحى جيش الأسد مضعضعاً وغير قادر ولا مستعد للقتال. وحلفاء دمشق منقسمين، ولديهم من تضاد المصالح ما يكفي ليكونوا مرتابين من بعضهم البعض. كما أن ما حدث في لبنان قبل أيام قليلة فقط، من وقف إطلاق نار بطعم السُمّ تجرعه حزب الله، والخسائر التي تلقاها في الحرب الإسرائيلية من القدرة إلى القيادة والجغرافيا، كلها كانت تقول مسبقاً إن شرقاً أوسطياً جديداً في طوّر التشكّل. فحزب الله ليس مجرد فصيل آخر تدعمه إيران، بل رأس حربتها الإقليمية وخط دفاعها الأول. أو بعبارة أخرى حزب الله هو “قنبلة” إيران النووية في المنطقة، والتي كانت بها تفرض معادلات الإقليم. صبّت إسرائيل وزنها النوعي لتدمير قدرة الحزب، ويحسب للأخير بأنه رغم كل ما حدث بقي قادراً على المواجهة.. لكن إلى حين.
الإيرانيون توصلوا إلى قناعة مفادها أن هناك استحالة في مساعدة رئيس (الأسد) لم يعد لديه جيش يقاتل. تواصلوا مع الروس والأتراك بهدف الإتفاق على تسوية تمنع سقوط حليفهم المشترك. لكن القطار كان قد فات
كانت تلك صفعة جديدة تتلقاها إيران بعد سلسلة من الإنتكاسات، بدأت منذ تشرين الأول/اكتوبر 2023، عندما قرّر زعيم “حماس” في قطاع غزّة يحيى السنّوار شنّ هجوم غير مسبوق على إسرائيل، تلاه دخول حزب الله وفصائل عراقية وجماعة أنصار الله في اليمن (الحوثيون) واحدة بعد أخرى فيما جرى الإصطلاح على تسميته “حرب الإسناد” للفلسطينيين. ومنذ الإسناد تحول قادة المحور إلى أهداف لإسرائيل تغتالهم واحداً تلو الآخر في ظلّ أضطراب ردع غير مسبوق من طهران إلى شواطئ البحر المتوسط، وغياب شبه كامل للجبهة السورية التي كان من المتوقع أن تلعب دوراً في مثل هكذا معركة. بدأت المقتلة الكبرى باغتيال صالح العاروري، ليليه اغتيال قادة ميدانيون في حزب الله والحرس الثوري، وقائد الحرس الثوري في لبنان وسوريا محمد رضا زاهدي، وفي ليلة واحدة قائد غرفة العمليات في حزب الله فؤاد شكر ورئيس المكتب السياسي في “حماس” إسماعيل هنية الذي تم اغتياله في طهران. بعد ذلك بدا جلياً أن إسرائيل قد بدأت حربها الشاملة والمفتوحة، وإن كان “المحور” لم يكن يتعامل بعد معها على أنها حرب، حاصراً نفسه في تصوّر غير واقعي جعله يدفع لاحقاً الثمن غالياً: اغتيال السيّد نصر الله، وقبله عملية تفجير البيجر وأجهزة اللاسلكي، وبينهما اغتيال كبار قادة حزب الله.
أخطاء إستراتيجية جسيمة
هذه الخُلاصة لم تكن لتكون لولا الأخطاء الإستراتيجية الجسيمة التي تم أُرتكبت على مدى عقد ونصف، وما يتأكد يوماً بعد يوم من أزمة قيادة وتقديرات خاطئة في منظومة محور المقاومة، التي قدمت لإسرائيل فرصة كانت تنتظرها منذ زمن لإعادة تشكيل البيئة الإستراتيجية للمنطقة بأسرها ولفرض تحوّل على الدور الذي كانت الفصائل والأحزاب المنضوية تحت مظلة محور المقاومة تقوم به.
المعضلة الأصل التي كانت تواجه “المحور” لم تكن التحالفات ولا الجغرافيا ولا العتاد ولا العديد. فكل ما سبق كان متوفراً بشكل متفاوت، لكن بما يناسب التحديات. المشكلة كانت في الإنكشاف الأمني والتردد في أخذ المبادرة، وهو ما جعل من الترسانة الهجومية الحاضرة للاستخدام صيداً للطائرات الإسرائيلية ولاحقاً خلال العملية البرّية غنائم جمعها جيش الإحتلال وهي لا تزال بأغلفتها. المشكلة الثانية الأكثر تعقيداً، كانت في الترجمة السياسية المُستدامة لأي تقدم يُحرز، وتدعيم التقدم في أي ساحة بتحولات تناسب التقدم عينه. ففي سوريا على سبيل المثال، وبينما يتحدث اليوم المسؤولون الإيرانيون عن عناد الأسد وتعنته ورفضه للحلول السياسية، يطرح سؤال في المقابل عن الجهد الذي بذلته طهران ومحورها للدفع نحو حل سياسي حقيقي في سوريا ولتغيير سلوك النظام في الفترة التي أصبح فيها بقاءه أمراً واقعاً غير قابل للنقاش في ظل تطبيع عربي للعلاقات معه.
المشكلة هنا أن الاستثمار لم يأخذ اتجاها مُستداماً ليحفظ ما حققته طهران لنفسها ومحورها، وهو ما يمكن الاستدلال عليه في التجربة العراقية والحالة اللبنانية. ولعلَّ ذلك مرده في الأصل إلى غياب المشروع المرحلي لدى إيران، برغم كل ما يُقال عن مشروع إيراني في المنطقة. فحركة المحور لطالما ارتبطت بالحاجة العملياتية الميدانية دون أن تستند إلى خارطة طريق يمكنها في النهاية أن تتكامل وتتخادم. وهذا ما جعلها عرضة للاهتزاز في لحظة. فمنذ الثورة الإسلامية تمركز جهد إيران وحلفائها على افشال مشاريع خصومها، وهي بالتالي احترفت دور التعطيل، ونجحت في غير معركة حتى بات معيار الانتصار لديها إفشال أهداف الأعداء. هكذا كانت تطبق اكثر فأكثر على إسرائيل من غير جهة لكن دون أن تصنع جذوراً عميقة في مساحة الأنظمة الحاكمة والعملية الاقتصادية وطبقات المجتمع المختلفة.
دبلوماسي عربي التقيته قبل أيام، قال لي إن “إيران نسجت سجادتها على مدى أكثر من أربعين سنة بشكل يجعلها تحيط بإسرائيل من كل جانب، تمهيداً لتكبيلها بها”. وأضاف: “لكن إسرائيل كانت تحمل مشرطاً ساعدها في تمزيق السجادة وتحرير نفسها منها”.
ما لم يقله الدبلوماسي وأصبح واضحاً من كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو أن محطتي لبنان وسوريا مجرد بداية. وأن الخطاب المستمر الموجه للداخل الإيراني يؤكد على أن المحطة الأخيرة للقطار الذي انطلق ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 هدفه الوصول إلى طهران.
– بالتزامن مع موقع “الجادة“.