يقول أحد النواب إنّه لا يعرف ما حصل خلال هاتين الساعتين بالتحديد كي تنقلب الأمور من التوجه لتكليف الرئيس نجيب ميقاتي لمصلحة القاضي نوّاف سلام، فيما يقول نائب لبناني آخر إن ما حصل “طعنة في الظهر” لا “بل انقلاب بأمر عمليات سعودي”، ويقول ثالث “إنها خديعة ومحاولة لاقصاء مكون أساسي في التركيبة السياسية”، ويعتبر أحد نواب فريق المعارضة أن العملية الديموقراطية أخذت مداها الدستوري وصولاً إلى تكليف سلام.
حقيقة الأمر، أن ما نشهده على الصعيد الداخلي ليس بعيداً عن نتائج العدوان “الإسرائيلي” والضربة القاسية التي تلقتها المقاومة اللبنانية وقيادتها وجمهورها من جهة، وسقوط النظام البعثي في سوريا لمصلحة تركيا وقطر من جهة ثانية، ولولا ذلك كان يمكن لحظوظ جوزاف عون الرئاسية أن تكون مساوية لحظوظ كل من المرشحين سمير عساف وجهاد أزعور، ولأمكن وصول نجيب ميقاتي بكل سلاسة إلى رئاسة الحكومة مجدداً.
بكل الأحوال، نحن اليوم (الأربعاء) على موعد مع استشارات التأليف غير الملزمة التي سيجريها الرئيس المكلف في مقر البرلمان اللبناني، على مدى يومين، وتشمل جميع الكتل والنواب المستقلين، في ظل توجه سياسي لكتلتي التحرير والتنمية برئاسة الرئيس نبيه بري والوفاء للمقاومة برئاسة محمد رعد، لعدم المشاركة في هذه المشاورات إحتجاجاً على “العيب الميثاقي” الذي شاب بيان تكليف نوّاف سلام برغم قرار جميع النواب الشيعة الـ27 بعدم تسمية أي مرشح لرئاسة الحكومة، وهذا يعني حسب مقدمة الدستور (الفقرة ياء): “لا شرعية لأي سلطة تناقض العيش المشترك”، كما قال الرئيس بري لرئيس الجمهورية، في ختام الإستشارات الملزمة.
إذاً، كيف سيتعامل الرئيس المكلف نوّاف سلام مع اللغم الذي انفجر بتكليفه؟
يعرف الرئيس المكلف نوّاف سلام أن أول مهمة له خارج المهمة الدستورية باجراء استشارات نيابية غير ملزمة لتشكيل حكومته العتيدة هي معالجة التداعيات السلبية للطريقة التي تمت فيها عملية تكليفه. وهنا بطبيعة الحال أن يكون توجهه إلى اللقاء مع قيادة كل من حركة أمل وحزب الله للاستماع إلى وجهة نظرهما في كيفية معالجة الأمر المشكو منه بطريقة لا تعطي الانطباع بأنه قادم لكسر فئة سياسية أو طائفية أو مذهبية أو اجتماعية لحساب فئات أخرى، كما عبّر في بيان التكليف، وبعدها يُبنى على الشيء مقتضاه.
وقبل الدخول في الاحتمالات التي يُمكن أن تُشكّل حلولاً، لا بد من قراءة ما حصل، لأنه في ضوء مثل هذه القراءة الدقيقة لهذا الأمر، يُمكن تلمس ملامح الآتي من تطورات سيكون لها تأثيرها على مستقبل البلاد في المرحلة المقبلة.
لقد أعطى ثنائي أمل – حزب الله أصواته النيابية في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية للرئيس جوزاف عون، في جلسة التاسع من هذا الشهر، بعد أن حصل، بحسب “الثنائي”، على “ضمانات وتطمينات” من كل من المبعوث السعودي يزيد بن فرحان خلال اللقاءات التي عقدها معه النائب علي حسن خليل قبيل جلسة الانتخاب (أحدها بحضور العماد عون) ولاحقاً من جوزاف عون شخصياً في الساعتين الفاصلتين بين الجولة الانتخابية الأولى التي حصل فيها عون على 71 صوتاً والجولة الثانية التي حصل فيها على 99 صوتاً (يعني ذلك أن نائبين من كتلتي أمل وحزب الله لم يُصوّتا للعماد عون وهذا أمر آخر)، وبالتالي أمكن له أن يتجاوز عتبة الثلثين (86 صوتاً) وما عدا ذلك، لكانت طويت صفحة ترشحه وفتحت الأبواب أمام المجهول الرئاسي والسياسي.
ووفقا لهذه “الضمانات والتطمينات”، كان يُفترض أن يتم تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بتشكيل حكومة العهد الأولى وان يتم تثبيت وزارة المال من ضمن حصة “الثنائي”، وأن يتم العمل على استكمال تطبيق القرار 1701 لجهة انسحاب جيش العدو “الإسرائيلي” من كل الأراضي التي احتلها مؤخراً وان يستثمر رئيس الجمهورية علاقاته الدولية والعربية لاعادة بناء ما دمّره العدوان “الإسرائيلي” ولا سيما في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، وهو ما أكده الرئيس عون في خطاب القسم. وشمل الاتفاق أن تكون مسؤولية “الثنائي” إدارة التمثيل السياسي للطائفة الشيعية في السلطة التنفيذية، على صعيد الوزراء وموظفي الفئة الأولى، فضلاً عن حصرية سلاح الدولة في منطقة جنوب نهر الليطاني وترك قضية السلاح في شمال النهر للحوار الوطني والإستراتيجية الدفاعية. كما طرحت أفكار تتعلق بقيادة الجيش اللبناني ومديرية المخابرات وبعض مواقع الفئة الأولى في الدولة اللبنانية.
غير أن “الانقلاب” الذي حصل وقاد إلى تكليف القاضي سلام، نسف أول ضمانة مفترضة من السعوديين لثنائي أمل وحزب الله وفتح الباب على مصراعيه أمام فرضية التنصل من باقي “الضمانات” في جو من النشوة التي تعيشها القوى الخارجية والداخلية التي نفذّت “الانقلاب”، وهذا ما يفتح الباب أمام تجدد الصراع السياسي في البلاد الأمر الذي لا مصلحة للرئيس عون بحصوله في أول أيام وخطوات عهده.
من حيث الشكل بالإمكان القول إنّ “الثنائي” كان الضحية الأولى للتنصل من “الضمانات والتطمينات”، ولكن العهد هو الضحية أيضاً كونه من أول المتضررين من هذا التنصل مثله مثل “الثنائي” بخاصة أنه كان شاهداً وشريكاً في صياغة “الضمانات والتطمينات”، مستنداً إلى الدعم الدولي والإقليمي الذي يحظى به، ولم يخف رئيس الجمهورية أمام سائليه عن صدمته مما حصل وخشيته على أن تكون انطلاقة العهد ناقصة، رافضاً ما يُشيعه البعض عن أنه من النوع الذي لا يفي بوعوده وأن جُلّ همه الوصول إلى السلطة.
أما الضحية الثالثة فهي الرئيس نجيب ميقاتي، الذي نام ليل الإثنين – الثلاثاء على حرير التكليف ليستيقظ صباح الثلاثاء على انقلاب دُبّر في ليل أسود أطاح به. وهنا لا بد من الإشارة إلى احتمال أن تكون زيارة ميقاتي إلى سوريا و”القمة” التي عقدها مع قائد الإدارة السياسية هناك أحمد الشرع من بين الأسباب المهمة وغير المعلنة التي أدّت إلى الاطاحة به. فكما هو معروف، تتوجس السعودية من دور التحالف القطري التركي في الإدارة السورية الجديدة ويشاركها توجسها هذا كل من الإمارات العربية المتحدة ومصر والأردن والعراق، لذلك فان استعجال ميقاتي القيام بزيارته تلك قبل تكليفه أعطى للسعودية اشارات غير مريحة حيال التوجه الذي سيعتمده رئيس حكومة لبنان في حال تكليفه لا سيما أنه كان قد زار تركيا والتقى الرئيس رجب طيب اردوغان بعد أيام قليلة من سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد. وقد كانت زيارة ميقاتي إلى دمشق سبباً أساسياً في عودة السعودية لتشغيل محركاتها اللبنانية وارسال مبعوثها الجديد يزيد بن محمد بن فهد آل فرحان الى بيروت في زيارتين متتاليتين في غضون أسبوع واحد.
كيف يمكن عدم جعل لبنان كله يدفع ثمن هذا “الانقلاب”؟
يعتمد الأمر على حكمة الرئيس المكلف نوّاف سلام بالتكافل والتضامن مع الرئيس جوزاف عون لمعالجة الأمر قبل أن يتفاقم، والعلاج هنا يكمن في استيعاب غضب “الثنائي” من جهة وتثبيت اتفاقات جديدة معه تضمن انطلاق عجلة العهد الجديد بقوة من اجل اعادة بناء الدولة من جهة ثانية.
إنّ من يعرف الرئيس الملكف نوّاف سلام يُدرك جيداً قناعاته العروبية وموقفه القاطع حيال العدو “الإسرائيلي”، وهذا أمر أساسي جداً لحزب الله، كما يعرف أن سلام من أصحاب الكف النظيف وغير متورط في أي نوع من أنواع الفساد، ولا مشكلة بين “الثنائي” وسلام وثمة فرصة للتوافق قاعدتها معالجة التداعيات السلبية لطريقة تكليفه، لأن “الثنائي” حريصٌ على اعادة تشغيل حركة الدولة ومؤسساتها وبالتأكيد سيُلاقي سلام في منتصف الطريق إذا تمكن الأخير من التملص من الضغوط الدولية والاقليمية التي تترجمها قوى محلية بتصريحاتها الداعية إلى مواصلة الضغط على “الثنائي” واحراجه من أجل اخراجه من المعادلة الحكومية.
إن عملية تأليف الحكومة الأولى للعهد الجديد تُشكّل منعطفاً جدياً يُحدّد بموجبه مستقبل البلاد وليس فقط مستقبل عهد الرئيس جوزاف عون. ثمة سيناريوهات متعددة، لكن أخطرها أن تتواصل عملية الإطباق على ثنائي أمل وحزب الله التي بلغت ذروتها مع العدوان “الاسرائيلي” الأخير ونتائجه، لتستكمل بالانقلاب على “الضمانات والتطمينات” من خلال تكليف رئيس حكومة غير متفق عليه، وهذا يعني أننا نتجه نحو مرحلة من المواجهات السياسية التي لن تكون حركة الشارع بعيدة عنها، فتجربة عملية عزل حزب الكتائب في مطلع الحرب الأهلية عام 1975 ما تزال حيّة في الذاكرة، وحينها لم يكن حزب الكتائب ممثلاً لكل البيئة المسيحية كما هي حالة “ثنائي” أمل وحزب الله اليوم، كما لا يمكن أن ننسى التجربة المريرة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد خروج ممثلي “الثنائي” منها في مطلع العام 2007، لذا من غير المرجح أن ينجر إليها الرئيس جوزاف عون أو الرئيس المكلف نوّاف سلام. ومع ذلك لا بد من الانتظار لبضعة أيام من أجل معرفة التوجه الذي سيعتمده الرئيس المكلف كي يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ فإما يمضي بالتكليف ومن ثم التأليف من دون معالجة إشكالية “الثنائي” وعندها تكون الأمور مفتوحة على شتى الاحتمالات أو يمضي بالتكليف بعد معالجة “الخلل الميثاقي” الذي يتحدث عنه “الثنائي”.. ولو كان الثمن الإعتذار وصولاً إلى إعادة تكليف سلام مجدداً لكن هذه المرة بأصوات أكثر من 120 نائباً؟