الحكومة اللبنانية الموعودة.. وقرار “العزل” من “التأليف” إلى “النيابية”

غداً (الأحد) ينطوي الشهر الأول من عهد العماد جوزاف عون. وبعد غدٍ الإثنين، يُدشن رئيس الحكومة المكلف تشكيل الحكومة الجديدة نوّاف سلام الأسبوع الخامس من عمر التأليف. أسابيع كانت حافلة بتطورات بلغت ذروتها مع زيارة الموفدة الأمريكية مورغان أورتاغوس إلى بيروت التي تبلغت إشارات دولية بأن "إسرائيل" تتجه إلى تمديد إحتلالها لعدد من القرى والتلال الأمامية في جنوب لبنان بعد الثامن عشر من الجاري.

كل شيء كان يوحي أن الحكومة الأولى في عهد الرئيس اللبناني جوزاف عون، ستُعلن فور انتهاء الإجتماع الثلاثي الذي عُقد في القصر الجمهوري اللبناني، بعد ظهر الخميس الماضي، وضم إلى عون، رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحكومة المكلف نوّاف سلام، لا سيما وأن المعنيين بالبروتوكول والمراسيم في القصر الجمهوري والسري الحكومي كانوا قد أصبحوا موجودين في بعبدا تمهيداً لاعلان الحكومة رسمياً.

فجأة خرج بري من الإجتماع الثلاثي للقول “ماشي الحال ومش ماشي الحال”.. وأعقبه خروج سلام متجهماً من دون أن يُدلي بأي تصريح بما يشير إلى أن الحال “مش ماشي” وأن لا حكومة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. ثم توالت التسريبات الاعلامية حول السبب الكامن وراء تأخير صدور مراسيم تأليف الحكومة، وتركزت بمعظمها على أن السبب هو رفض الرئيس بري تسمية السيدة لميا مبيض الوزيرة الشيعية الخامسة، بناء على اقتراح رئيس الحكومة المكلف. غير أن تصريحاً في اليوم التالي لنائبة المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط السيدة مورغان أورتاغوس من على المنبر الإعلامي للقصر الجمهوري بعد لقائها الرئيس عون أظهر أن جوهر الخلاف على تشكيل الحكومة ليس موضوع السيدة مبيض أو حقيبة من هنا أو من هناك بل هو أعمق بكثير من ذلك، إذ قالت أورتاغوس حرفياً: “إسرائيل هزمت حزب الله ونحن ممتنون لها بسبب ذلك ونؤكد على مسألة عدم مشاركة الحزب في الحكومة اللبنانية الجديدة بأي شكل من الأشكال”.

إن من يعرف جوزاف عون ونواف سلام يستنتج أن كلا الرجلين ليسا بوارد هكذا مواجهة مع شريحة لبنانية وازنة تحتاج في هذه المرحلة إلى الاحتضان لا سيما في ضوء التضحيات الكبيرة التي قدّمتها خلال الحرب “الإسرائيلية” الأخيرة على لبنان

وبين فشل اللقاء الثلاثي بين عون وبري وسلام وبين كلام أورتاغوس، شنّت الطائرات الحربية “الإسرائيلية” غارات واسعة النطاق في العمق اللبناني، في إشارة مباشرة إلى استخدام واشنطن كل أوراق القوة لديها للضغط من أجل منع مشاركة حزب الله في التشكيلة الحكومية المرتقبة، ناهيك بالتوترات المفاجئة التي لفّت منطقة الحدود اللبنانية السورية شرقاً.

أورتاغوس.. أورتاغوس!

بكلماتها القليلة كشفت السيدة أورتاغوس عن السبب الكامن وراء التأخير الحاصل في تشكيل الحكومة، فأمريكا التي كانت القوة الدافعة لانتخاب عون للرئاسة الأولى وتكليف سلام بالرئاسة الثالثة تريد استثمار نتائج الحرب “الإسرائيلية” على لبنان بضرب المقاومة داخلياً وعزلها واسقاط تمثيلها في السلطة التنفيذية مقدمة لاسقاط أية إشارة إلى المقاومة في البيان الوزاري الذي بموجبه تحصل الحكومة الجديدة على ثقة مجلس النواب، وصولاً إلى خوض معركة انتخابية نيابية قاسية جوهرها الأساس خلق تيار شيعي ثالث في مواجهة كل من حزب الله وحركة أمل.

 غير أن الرئيس سلام يُدرك جيداً أن لعبة التوازنات الداخلية في النظام الطائفي اللبناني تحول دون امكانية تحقيق هذه الأهداف الأمريكية لا سيما في ظل التحالف العميق بين حزب الله وحركة أمل من جهة وامتلاك الطرفين مجتمعين حصرية تمثيل الطائفة الشيعية (27 نائباً) في مجلس النواب حالياً عبر انتخابات ديموقراطية جرت في العام 2022 من جهة ثانية.

لقد حاول الرئيس سلام المواءمة بين الطلب الأمريكي بعدم اشراك حزب الله في الحكومة وبين الدينامية الداخلية اللبنانية التي تتعارض إلى حد كبير مع هذا الأمر، فناور سياسياً بأشكال عدة في محاولة منه لإيجاد الصيغة الأفضل للمواءمة بين الأمرين، وخلال هذه المناورة برزت عقدة مسيحية حيناً وعقدة سنية حيناً آخر، وكلام عن “وحدة المعايير” في كل الأحيان، إلى أن جدّ الجد ووصلت الأمور إلى استنفاذ كل المناورات، فاصطدم سلام بعدم القدرة على مواءمة أمرين متناقضين. فالرئيس بري قالها من اليوم الأول: إما أن يكون وحزب الله في الحكومة معاً وإما أن يكون كلاهما خارجها، وذلك لأن كل من يعرف ألف باء السياسة في لبنان باستطاعته أن يرى أن بري لن يسمح باستفراد حزب الله، ولا سيما في ضوء الخسائر الكبيرة التي مُني بها الأخير خلال العدوان “الإسرائيلي” على لبنان، وذلك وفق نظرية “أُكلت حين أُكل الثور الأبيض”، فهو يعرف جيداً أن القرار الأمريكي بعزل حزب الله ليس إلا ترجمة سياسية داخلية لنتائج العدوان “الإسرائيلي” الأخير.

ومن نافل القول إن الخسائر الكبيرة التي مني بها حزب الله في الحرب لا تقتصر على خسارته لقياداته العسكرية والسياسية التي تعتبر من الرعيل المؤسس للحزب الصانع لانتصاراته على مدى العقود الثلاثة المنصرمة، وعلى رأس هؤلاء أيقونته الشهيد السيد حسن نصرالله، ولا تُقاس فقط بحجم الدمار الهائل الذي طال البنى التحتية والسكنية والصحية والاجتماعية للبيئة الشيعية الحاضنة له، بل ثمة خسارة أكثر استراتيجية وتتمثل بسقوط النظام السوري وبالتالي قطع الشريان الذي يمد حزب الله ومقاومته بالأوكسيجين منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي حتى الأمس القريب. من هنا فإن تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة سيُحدّد تموضع لبنان في الخريطة الجديدة للشرق الأوسط.

هُنا لا بد من الإشارة إلى أن الدستور اللبناني ينص على أن الحكومة تصبح مستقيلة في واحد من الحالات التالية: استقالة رئيسها أو موته، استقالة ثلث أعضائها، أو حجب غالبية أعضاء مجلس النواب الثقة عنها. من هنا، عمل سلام على وضع ضوابط تحول دون تشكيل ثلث يسمى “معطلاً” يجعل “الثنائي” قادراً على إسقاط الحكومة، وذلك من خلال إحراج “التيار الوطني الحر” لاخراجه، وذلك عبر عرض وزارتين عليه ليس بينهما أية وزارة “سيادية” أو “أساسية” في مقابل اعطاء حزب “القوات الللبنانية” المنافس له في الشارع المسيحي أربع وزارات بينها وزارة سيادية ووزارتان أساسيتان. وبالتالي فإن اخراج “التيار الوطني الحر” من التشكيلة الحكومية يقطع الطريق على أي احتمال لتحالف بينه وبين ثنائي حزب الله وحركة أمل وتيار المردة في الحكومة، أي قطع احتمال بناء ثلث معطل، أما تمسك سلام بتسمية وزير شيعي فهو لقطع الطريق أمام أي احتمال لسحب ميثاقية الحكومة في حال استقال منها ممثلو حزب الله وحركة أمل، اذ يبقى فيها الوزير الشيعي الذي يُفترض أن يسميه سلام بموافققة رئيس المجلس النيابي.

إقرأ على موقع 180  11 سبتمبر 2001.. يوم كان العالم كله أمريكياً

فلسطين وسوريا والتواريخ الآتية

هذا المشهد الداخلي ليس منفصلاً عما يرسم للمنطقة، فقد كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن نواياه حيال فلسطين ليس فقط شطبها من الخريطة وبعثرة شعبها في جهات الدنيا الأربع، بل أيضاً انهاء كل ما يمت إليها بصلة عبر تصريحين صادمين، الأول، من خلال تشبيهه خريطة الشرق الأوسط بطاولة مكتبه وتشبيهه خريطة “إسرائيل” برأس قلمه على هذه الطاولة واعتباره أن ذلك ليس عادلاً، وفي هذا تمهيد للموافقة على ضم “إسرائيل” للضفة الغربية. التصريح الثاني، شكّل صدمة لكل من سمعه بقوله إنه يعتزم ترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الأردن ومصر ويمكن أيضاً إلى أندونيسيا وألبانيا والصومال وتولي أمريكا ادارة القطاع من أجل تحويله إلى ريفييرا الشرق الأوسط. بمعنى آخر فإن مشروع ترامب هو انهاء وجود الشعب الفلسطيني على أرضه.

سيكون يوم تشييع السيد نصرالله في الثالث والعشرين من فبراير/شباط الجاري الورقة الشعبية التي سيستخدمها “الثنائي” في وجه واشنطن، طبعاً إن لم يسبق هذا التاريخ أيضاً زحفٌ شعبيٌ جديدٌ نحو الجنوب مع انتهاء المهلة الممددة لوقف اطلاق النار

أما سوريا، فإن الإدارة الأمريكية لا تبدو مستعجلة في البت بأمرها بعد سقوط بشّار الأسد، طالما أن الأوضاع باتت بأيدي حليفيها التركي و”الإسرائيلي”، وباتت عملية إدارة الصراع الداخلي فيها تحت السيطرة فيما خلا توترات أمنية هنا أو هناك، البعض منها تقوم به مجموعات خارجة عن إرادة “هيئة تحرير الشام” التي حلّت نفسها بعد اعلان زعيمها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) رئيساً للبلاد، والبعض الآخر يحصل جراء عمليات تقوم بها أجهزة الشرع الأمنية لاعتقال بقايا مسؤولي النظام السابق، أو كما يحصل في منطقة الحدود اللبنانية السورية منذ أيام.

ولأن سوريا تعتبر الرئة البرية الوحيدة التي يتنفس لبنان من خلالها، فإن العلاقة بينه وبينها تُحدّد إلى مدى بعيد أين سيتموضع لبنان، فتركيا التي أصبحت الراعي الجديد للنظام في سوريا قد رأت في ذلك أملاً كبيراً في إحياء وإنعاش مشروع العثمانية الجديدة، وهنا لا بد أن يكون لبنان في صميم مخططات هذه العثمانية، وبخاصة أن تركيا ترتبط بحلف وثيق مع إمارة قطر المؤيدة لمشروع “الإخوان المسلمين”، وعبر هذا التحالف تستطيع تركيا إعادة اعمار سوريا من دون الحاجة لدعم باقي دول الخليج واماراته إلا وفق ما تراه مناسباً لها. من هنا كانت الزيارة الخارجية الأولى للشرع كرئيس غير منتخب لسوريا إلى السعودية عبارة عن زيارة مجاملة أما الزيارة الفعلية فهي لتركيا مباشرة بعد انتهاء زيارته إلى الرياض.

ولا تخفي السعودية ومعها مصر وباقي دول الخليج توجسهم من الدور التركي -القطري في سوريا واحتمال تمدد المشروع الإخواني فاستعجلوا العودة إلى لبنان عبر البوابة الأمريكية، فدعموا مرشح واشنطن للرئاسة جوزاف عون مثلما دعموا ترشيح نواف سلام لرئاسة الحكومة، ولأن بين هذه الدول وبين حزب الله عداوة تمتد لأكثر من عشرة أعوام (الحرب على اليمن)، فإن عزل حزب الله والقضاء عليه يشكل تقاطعاً عميقاً بين القرار الأمريكي والرغبة السعودية الخليجية.

إن مهمة عزل حزب الله تستوجب في الوقت نفسه عزل حركة أمل أو محاولة تفريقهما عن بعضهما البعض، ولكن عزلهما معاً سيضع عهد الرئيس عون في مواجهة معضلة كبيرة، فهل يتحمل العهد مشكلة من هذا النوع؟

إن من يعرف جوزاف عون ونواف سلام يستنتج أن كلا الرجلين ليسا بوارد هكذا مواجهة مع شريحة لبنانية وازنة تحتاج في هذه المرحلة إلى الاحتضان لا سيما في ضوء التضحيات الكبيرة التي قدّمتها خلال الحرب “الإسرائيلية” الأخيرة على لبنان. كما أن هذه الشريحة لم ولن تُسلّم بما قالته السيدة أورتاغوس عن “هزيمة حزب الله”، وهي تضع خاتماً يحمل نجمة داوود في أصبعها، وسيكون يوم تشييع السيد نصرالله في الثالث والعشرين من فبراير/شباط الجاري الورقة الشعبية التي سيستخدمها “الثنائي” في وجه واشنطن وقرارها، طبعاً إن لم يسبق هذا التاريخ أيضاً زحفٌ شعبيٌ جديدٌ نحو الجنوب مع انتهاء المهلة الممددة لوقف اطلاق النار في الثامن عشر من فبراير/شباط الجاري..

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إعادة إنتاج ليبيا الموحدة.. ألغام داخلية وحسابات خارجية