معضلة المعارضات اللبنانيّة.. ماذا عن انتخابات 2026؟

المعارضة عمرها من عمر هذا الكيان اللبناني. يتقدم حضورها أو يتراجع تبعاً لعوامل سياسية متحركة، ولا سيما ما يتصل بدينامية القرار، وكلما تراجع العامل الخارجي، صار العامل الداخلي أكثر حضوراً.. والعكس صحيح.

منذ ولادة اتفاق الطائف في العام 1989، تحكم العامل السوري باللعبة السياسية اللبنانية، من دون أن يخل بمصالح أطراف إقليمية ودولية أبرزها السعودية والولايات المتحدة.

مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، انقلب المشهد رأساً على عقب. خرج الجيش السوري من لبنان وصار لبنان أسير معادلة سياسية جديدة، تقدم فيها دور حزب الله، بوصفه أحد أبرز أذرعة إيران في الإقليم، مثلما تقدم دور القناصل الأجانب ولا سيما السفارة الأميركية في بيروت، في إطار التنافس الأميركي ـ الإيراني لملء الفراغ الناجم عن الخروج السوري من لبنان.

في أعقاب اغتيال رفيق الحريري، ولد مصطلحان جديدان: “قوى 8 آذار” (الحليفة لايران وسوريا بقيادة حزب الله)؛ “قوى 14 آذار” (الحليفة للسعودية والولايات المتحدة الأميركية بقيادة تيار المستقبل). تنافس هذان المعسكران في الساحات على مدى أشهر وسنوات، برغم أن انتخابات العام 2005 النيابية جمعتهما في لوائح موحدة بعنوان “التحالف الرباعي” الذي باركته الرياض وطهران، وكانت نتيجته حصول “14 آذار” على الأكثرية النيابية مقابل تعهدها بعدم المس بسلاح المقاومة (حزب الله).

ظل تعايش المعسكرين محكوماً بطلعات ونزلات محسوبة، إلى أن وقعت حرب تموز/يوليو 2006، ومن ثم أدى التصويب على سلاح حزب الله بعنوان “كاميرات منصوبة على مدرج مطار بيروت” أو “المحكمة الدولية الخاصة بلبنان”، إلى تراكمات أفرزت دينامية أحداث 7 أيّار/مايو 2008 التي تُوّجت باتفاق الدوحة وانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.

ولم تكد تمضي سنة ونيف من عمر حقبة “السين ـ سين”، أي شهر العسل السوري السعودي، والذي أدى إلى مصالحة كل من الزعيمين اللبنانيين سعد الحريري ووليد جنبلاط مع الرئيس السوري السابق بشار الأسد، حتى اندلعت أزمة سوريا في آذار/مارس 2011، الأمر الذي أدخل لبنان في دوامة لم يكن مستعداً لها، سواء بوجود كتلة مليونية من النزوح السوري على أرض لبنان أو بانخراط حزب الله المباشر في الحرب السورية، بكل تداعياتها على الواقع السياسي ولا سيما المذهبي في لبنان.

هذا الاهتزاز السياسي في شكل التحالفات والكتل، وهذه التعدديّة تحت سقف الديموقراطيّة تطرح اشكاليّة بدورها: هل هو خطأ في الممارسة السياسيّة وفهم معنى الديموقراطيّة؟ أم هو بشكل سطحي ومبسّط نتيجة السلوكيّات البراغماتيّة التي يمارسها الأقطاب لتحقيق المكاسب؟

وزادت الأزمة السورية الواقع اللبناني تأزماً، بانقسام اللبنانيين بين داعم لـ”الثورة السورية” حد القتال إلى جانبها (نموذج أحمد الأسير) وداعم للنظام السوري (حزب الله). ارتد هذا الواقع ليس على الداخل اللبناني بل على علاقات لبنان العربية والدولية، وصولاً إلى العام 2016 عندما قرّر الرئيس سعد الحريري ترشيح النائب ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة ورضوخ النائب وليد جنبلاط لهذا الترشيح تحت عنوان “تسوية الضرورة”.

معارضاتٌ عدّة ولدتْ وأضاعت القضيّة أو القضايا التي كانت الجماهير تتلقف مبادئها وتردّدها، حتّى باتت الجماهير اللبنانيّة تشهد انقسامات فيما بينها خصوصًا مع بدء حَرَاك 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 واعلان الأمين العام الأسبق لحزب الله السيّد حسن نصرالله لاءاته الثلاثة: لا لاسقاط رئيس الجمهوريّة ميشال عون، لا لإسقاط رئيس الحكومة سعد الحريري، لا لإنتخابات نيابية مبكرة.

من حكومة حسان دياب إلى زمن الكورونا فانفجار مرفأ بيروت.. وصولاً إلى انتخابات العام 2022، مسار اختلطت فيه الأوراق كثيراً، وشهدنا خلاله ظاهرة انكفاء سعد الحريري عن الحياة السياسية، فكانت النتيجة تولد إحباط غير مسبوق في الشارع السني وصولاً إلى يومنا هذا.

ثمة إشكاليّة يمكن طرحها بصيغة السؤال: هل نحن أمام معارضة حقيقيّة في لبنان خصوصًا بعد خلط الأوراق في الشرق الأوسط بدءًا من 23 أيلول/سبتمبر 2024 (بدء الحرب الإسرائيلية على لبنان) مرورًا بـ8 كانون الأول/ديسمبر 2024 (تاريخ سقوط النظام السوري) وصولًا إلى انتخاب رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون وتشكيل الحكومة اللبنانيّة الجديدة برئاسة نوّاف سلام؟

الديموقراطيّة التعدديّة وتعدد المعارضات

في كتابه “نماذج الديموقراطيّة” الصادر حديثًا بطبعته الثالثة المترجمة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قسّم الباحث البريطاني ديفيد هِلْد الديموقراطيّات إلى نموذجين: كلاسيكيّة (ديموقراطيّة أثينا، النزعة الجمهوريّة، الليبراليّة والماركسيّة) وحديثة أو ديموقراطيّات القرن العشرين (القانونيّة، التعدديّة، التشاركيّة، التداوليّة والتنافسيّة)، وإذا ما افترضنا أن لبنان ينضوي علميًّا تحت نمط الديموقراطيّة الليبراليّة (ممثلو الشعب يحكمون باسمه)، فإنّ الواقع السياسي أعطى قوة دفع لقوى المجتمع المدني التي فازت في الإنتخابات النيابيّة عام 2022 مستفيدة من عوامل عديدة أبرزها غياب تيّار المستقبل عن المشهد السياسي بأسره.

وانبثقت من تيّار التغيير الذي فاز في انتخابات 2022 التشريعيّة كتلة نيابيّة تتألّف من النوّاب ميشال الدويهي، وضّاح الصادق ومارك ضو سميت “تحالف التغيير”، وفي المقابل، أفرزت الخلافات الحزبيّة في التيّار الوطني الحرّ كتلة “اللقاء التشاوري” التي تضمّ النوّاب إلياس بو صعب، آلان عون، ابراهيم كنعان وسيمون أبي رميا.. هذا الاهتزاز السياسي في شكل التحالفات والكتل، وهذه التعدديّة تحت سقف الديموقراطيّة تطرح اشكاليّة بدورها: هل هو خطأ في الممارسة السياسيّة وفهم معنى الديموقراطيّة؟ أم هو بشكل سطحي ومبسّط نتيجة السلوكيّات البراغماتيّة التي يمارسها الأقطاب لتحقيق المكاسب؟

إقرأ على موقع 180  الحوار العراقي.. إرادة سياسية ومجلس سياسات

ينعكس اليوم تعدد المعارضات سواء في المعسكرات والأحزاب التقليديّة، أو في الأحزاب والكتل المستحدثة سلبًا على العمليّة الديموقراطيّة، وما التغيير الذي حصل في رأس السلطة التنفيذيّة إلا نتاج تغير المعادلات الاقليميّة، وهذا ما سيجعل المراقبين يتابعون بكثب ما ستنتجه الحكومة الجديدة بشراكتها مع رئاسة الجمهورية ثم مع مجلس النوّاب ولا سيما لجهة وضع قانون انتخابي يُعيد التعدديّة في لبنان إلى معناها الحقيقي.

من حكومة حسان دياب إلى زمن الكورونا فانفجار مرفأ بيروت.. وصولاً إلى انتخابات العام 2022، مسار اختلطت فيه الأوراق كثيراً، وشهدنا خلاله ظاهرة انكفاء سعد الحريري عن الحياة السياسية، فكانت النتيجة تولد إحباط غير مسبوق في الشارع السني وصولاً إلى يومنا هذا

فرص الائتلاف ومعارضات الطوائف

في ندوة عقدت في “منتدى صور الثقافي” حول التغيير على الساحة اللبنانيّة، أشار النائب التغييري ابراهيم منيمنة إلى أنّ التدخل الخارجي “قد يكون لصالحنا اليوم، لكنّ المتغيّرات الدوليّة والاقليميّة قد لا تخدمنا عند كلّ مسار”. يُشكّل كلام منيمنة مدخلًا لفهم طبيعة القوى المعارضة التي تنقسم اليوم بين معارضة سياديّة (القوّات اللبنانيّة، الكتائب، بعض التغييرين والمستقليّن) ومعارضة تغييريّة تريد الخروج الجزئي من صراعات ما بعد الطائف.

طالت الطوائف اللبنانيّة معضلة المعارضات، بدءًا من السنّة الذين انشقوّا بعد خطاب الرئيس سعد الحريري “التسووي” عام 2016 والمفارقة أنّهم لم يتكتّلوا ضمن جبهة واحدة لمعارضة الحريريّة السياسيّة بل صرنا أمام تأويل للحريريّة وسعي غير مسبوق لحكم الطائفة السنيّة انطلاقًا من السعي للترشح إلى منصب الرئاسة الثالثة، والحال نفسه تشكّل عند الشيعة حين بدأت حركة أمل تتمايز ولو بشكل عابر عن حزب الله بمواقفها السياسية خصوصًا بعد حرب 23 أيلول/سبتمبر 2024 سواء من ناحية اعتبار المعاون السياسي للرئيس نبيه بري النائب علي حسن خليل أن انتخاب الرئيسين جوزاف عون ونوّاف سلام هو عمليّة ديموقراطيّة، أو من ناحية التنصل من حادثة الدراجات الناريّة في الجميزة وعين الرمانة وساقية الجنزير قبل أن يتنصل منها في وقت لاحق أيضاً الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم.

مارونيًّا، تبقى خطوة رئيس التيّار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل القاضية بعدم انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية ثم تسمية نوّاف سلام لتشكيل حكومة العهد الأولى وتنصله من التحالفات السابقة وموالاته للعهد الجديد، إلى حد القول إن “التيار الحر” هو حزب العهد، رهن ما ستفرزه الشهور المقبلة من معطيات ولا سيما مدى قدرة جبران باسيل على المضي في براغماتيّته التي جعلته الموالي الأول للعهد وبالتالي هل يُمكن أن يتحالف في الانتخابات النيابية المقبلة مع أحزاب مارونيّة مثل القوات اللبنانية والكتائب والمردة؟.

يسري ذلك على القوات اللبنانية التي تأخرت في تبني ترشيح العماد جوزاف عون ثم خيار تسمية نواف سلام، فهل تستشعر أنها خُدعت من الراعي الإقليمي وهل هناك من نصب لها فخاً محكماً وكيف بمقدورها الخروج منه وهل حصولها على حصة الأسد في الحكومة الجديدة من شأنه أن يساعدها في الانتخابات المقبلة أم العكس؟

الأسئلة كثيرة وفي كل البيئات اللبنانية.. وحتماً نحن على عتبة سنة ونيف من انتخابات نيابية ستفرز وقائع سياسية جديدة.

Print Friendly, PDF & Email
نبيل مملوك

ناقد وباحث لبناني

Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الإنتفاضة اللبنانية.. الإصغاء للناس لا للخارج