نواف سلام.. هل يرتضي أن يكون فتيل تفجير أزمة داخلية كبرى؟

أنجزت القوى السياسية اللبنانية خلال شهر واحد ما عجزت عن انجازه خلال عامين ونيف، إذ استطاعت أن تنتخب قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهورية وأن تُكلّف القاضي نواف سلام بتشكيل حكومة بعد أن تخلى عن منصبه رئيساً لمحكمة العدل الدولية، معظم أعضاءها من غير الحزبيين المباشرين وإن كانوا يحظون بتأييد قوى حزبية.

البعض يقول إن كل هذه الانجازات لم تكن لتتحقق لولا العصا الخارجية الغليظة التي رُفعت في وجه الطبقة السياسية ولولا العدوان “الإسرائيلي” الذي فاقم الأزمة الاقتصادية والإجتماعية بحيث باتت عملية إعادة الاعمار تتطلب مليارات عدة. ولكن كل هذه الانجازات أبقت الحكومة الجديدة في صورة ضبابية قبل تبلور توجهها في إدارة البلاد على الأقل من الآن وحتى شهر مايو/أيار عام 2026 موعد اجراء الانتخابات البرلمانية، وقبل تبلور القوى التي ستتشكل منها المعارضة، وكيف ستُمارس هذه القوى معارضتها.

من الواضح أن الرئيس سلام يعمل بسرعة كبيرة لاطلاق عجلة حكومته، إذ أنه شكلها بسرعة قياسية ربطاً بتاريخ تشكيل الحكومات في لبنان في العقدين المنصرمين، كما أنه عمل على تظهير برنامج حكومته من خلال إطلالة تلفزيونية عبر تلفزيون لبنان الرسمي لمدة تجاوزت الساعتين وذلك بعد أيام قليلة من تشكيل حكومته.

وقبل الدخول في تفاصيل الصورة التي ستكون عليها الحكومة، لا بد من الاشارة إلى أن القاضي سلام نفسه هو من عائلة لها باع في الحياة السياسية اللبنانية منذ عقود، وأحد ابناء هذه العائلة هو من المُوقعين على العلم الأول للاستقلال (الرئيس صائب سلام)، لكن الرئيس نواف سلام ترعرع في صباه متمرداً على التقليد السياسي في العائلة وفي المجتمع السياسي اللبناني برمته، ورسم لنفسه منحى سياسياً مختلفاً بدأ بخلفية يسارية ثورية من خلال عمله مع منظمة العمل الشيوعي إبّان شبابه ومن ثم انضمامه إلى حركة “فتح” قبل أن ينتقل إلى العمل الأكاديمي أستاذاً في الجامعة الأمريكية في بيروت، لينتقل بعدها سفيراً للبنان في الأمم المتحدة لمدة عشرة أعوام، ومن ثم إلى محكمة العدل الدولية عضواً ثم رئيساً للمحكمة.

صحيح أن اعضاء الحكومة التي شكّلها سلام على شاكلته يتمتعون بكفاءات علمية وتخصصية عالية، لكن الصحيح أيضاً أن الكفاءة العلمية شيء والعمل السياسي في السلطة التنفيذية في لبنان شيء آخر. ومع غياب التمثيل الفاقع للقوى السياسية اللبنانية في الحكومة، حاول نواف سلام في أول إطلالة تلفزيونية له بلورة تصوره لإدارة السلطة التنفيذية وقوامه العمل على استكمال الانسحاب “الاسرائيلي” من جنوب لبنان وفقاً لاتفاق وقف اطلاق النار الذي تم التوصل اليه في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي والالتزام بالدستور الذي يستند إلى اتفاق الطائف، وبالتالي تطبيق ما لم يطبق من الاتفاق وتصحيح ما طبق خطأً وتعديل ما أمكن من ثغرات دستورية واستعادة علاقات لبنان مع أشقائه العرب وحصرية السلاح بالأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية، والالتزام بالقانون في كل أمور البلاد والعباد، ومعالجة مشكلة ودائع الناس لدى المصارف، واطلاق حركة اصلاح داخلية عمادها الأساس إعادة احياء مؤسسات الرقابة، وكان لافتا للانتباه أن سلام ذكر خلال مقابلته التلفزيونية اسم الرئيس الراحل فؤاد شهاب ثلاث مرات، ومن المعروف أن شهاب، الرئيس الثالث للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال عام 1943 (1958 – 1964) كان أول من أسّس أجهزة الرقابة في الدولة اللبنانية بعد الاستقلال وكان زاهداً في السلطة لدرجة أنه رفض كل مناشدات النواب لانتخابه رئيساً لولاية ثانية، كما أنه لم يتلوث بالفساد.

إذا ما وُضع نواف سلام أمام امتحان الخيار بين بقائه رئيساً للحكومة وبين المواجهة في الشارع مع المكون الشيعي، من المؤكد أنه لن يرتضي لنفسه أن يكون رئيس حكومة أشعلت نار فتنة داخلية في البلاد

ويُمكن القول إن كل عنوان من العناوين التي طرحها نواف سلام كفيلٌ بفتح نار جهنم بوجهه، لأن لكل منها خصومة مع طبقة سياسية تجذّرت وتمدّدت في إدارات الدولة كالأخطبوط خلال الفترة المنصرمة، وهكذا لم تكد تمر أيام قليلة على التأليف الحكومي حتى أخذت القوى السياسية تتموضع تبعاً لنصيبها الوزاري، وأولها حزب “القوات اللبنانية” الذي سارع إلى استدعاء الوزراء الأربعة المحسوبين من حصته في الحكومة إلى لقاء مع رئيس الحزب سمير جعجع في مقر إقامة الأخير في معراب، وذلك لأخذ الصورة معه حتى قبل التقاط الصورة الرسمية للحكومة في القصر الجمهوري مع الرؤساء عون ونبيه بري وسلام، وذلك في رسالة غير مباشرة لمن يهمه الامر بأن لحزب “القوات” كلمته التي لا يمكن تجاوزها في الحكومة. أما حزب “التيار الوطني الحر” الذي يترأسه النائب جبران باسيل فقد أعلن انتهاجه المعارضة “البنّاءة” بعد أن أبعد عن المشاركة في الحكومة على طريقة الإحراج فالإخراج، فيما ارتضى “حزب الكتائب” أن يكون خلف العهد مكتفياً بحصته في الحكومة بوزير واحد يُشكّل تقاطعاً بينه وبين رئيس الجمهورية (وزير العدل عادل نصار). وأخيراً وفي الجانب المسيحي ينطبق على “تيار المردة” المثل الشعبي اللبناني بأنه “خرج من المولد بلا حمص” إذ بعد أن كان أعلن رئيس التيار النائب السابق سليمان فرنجية سحب ترشحه للرئاسة وتأييده لترشيح قائد الجيش جوزاف عون كما سمى القاضي نواف سلام لرئاسة الحكومة، فإنه لم يحظَ بأي حصة في الحكومة، لا بل ثمة من يقول إنه لم تعرض عليه أية حقيبة وزارية حتى يرفضها.

إقرأ على موقع 180  العراق: التكليف الأخير.. تحت وابل الأزمات

هذا في جانب المكون المسيحي للسلطة، أما في جانب المكون الإسلامي فإن الصورة أعقد بكثير، وكان التمثيل الدرزي فيها هو الأسهل كونه جاء محسوباً على الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، وفي ظل غياب أي امكانية لتشكيل ثلث معطل في الحكومة، فإن التمثيل الدرزي فقد دور بيضة القبان الذي اعتاد أن يلعبه في الحكومات السابقة.

أما التمثيل السني، فإن الرئيس سلام استغل فرصة غياب قوة سنية برلمانية وازنة كان “تيار المستقبل” عادة ما يحتكر العدد الأكبر منها قبل اعتكافه عن العمل السياسي منذ ثلاث سنوات، ما أدى إلى تشتت نواب الطائفة في كتل صغيرة، ما أتاح لسلام أن يُسمي وزراء السنة الأربعة في حكومته (وهو الوزير الخامس)، لكن العودة المدوية لرئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري في مهرجان جماهيري حاشد في قلب العاصمة بيروت لإحياء الذكرى العشرين لاغتيال والده الرئيس رفيق الحريري أظهرت أن الثقل الشعبي السني الوازن ما يزال للحريري بالرغم من كل التقلبات التي شهدتها الظروف السياسية في البلاد، وقد أعلن الحريري في كلمته في المهرجان أنه يقف خلف الرئيسين عون وسلام. هذا الاعلان، وإن كان يُشكّل رافعة كبيرة لحكومة سلام، فإنه من جهة أخرى، حوّل سلام إلى وديعة في رئاسة الحكومة (للرؤساء سعد الحريري ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة حصة فيها) بانتظار الانتخابات البرلمانية في العام المقبل.

أي انزلاق رسمي لبناني للإملاءات “الإسرائيلية” والأمريكية من شأنه أن يدفع الأمور إلى حال من عدم الاستقرار لا تُهدّد وجود الحكومة فقط بل أيضاً السلم الأهلي

يبقى أن مشكلة المشكلات هي كيفية التعامل مع المكون الشيعي، حيث أن تحالف حركة امل وحزب الله يحتكر تمثيل هذه الطائفة في البرلمان (27 نائباً) وبالتالي فان هذا التحالف يمتلك الورقة الميثاقية في مجلس النواب نفسه، لذا، فإن التعامل معه يُشكّل معضلة المعضلات بالنسبة لحكومة سلام، فمن جهة يحاول سلام أن يقف باستمرار على خاطر طائفة “جريحة”، بحسب ما نقل عنه بسبب الخسائر الجسيمة التي أصابتها جراء العدوان “الإسرائيلي” ليس فقط في قياداتها بل أيضا في شيبها وشبابها وممتلكاتها وأرزاقها ومؤسساتها وبيوتها، ومن جهة ثانية، فإن سلام وحكومته يتعرضون لضغوط أمريكية “إسرائيلية” تدفع باتجاه التعامل مع “الثنائي” بوصفه خسر الحرب ويجب أن يُسلّم بهذه النتيجة ليس فقط على الحدود من خلال تمسك الإحتلال بخمس نقاط حاكمة داخل الأراضي اللبنانية خلافاً لاتفاق وقق اطلاق النار، بل أيضاً من خلال حشره في اللعبة السياسية الداخلية وبالتالي دفعه إلى المواجهة في الشارع مع الحكومة، وما موضوع منع الطائرات المدنية الإيرانية من الهبوط في مطار بيروت، بناء لقرار “إسرائيلي” والتحركات الشعبية التي تلت هذا القرار إلا خير مثال على ذلك. وقد تسببت هذه الاحتجاجات بحرق آلية تابعة لقوات الطوارىء الدولية العاملة في لبنان (اليونيفيل) على طريق المطار وإصابة نائب قائد “اليونيفيل” بجروح جراء الحادث.

وفيما تعمل حكومة سلام على معالجة موضوع هبوط الطائرات المدنية الايرانية في مطار بيروت، فإنها تحاول جاهدة ألا تكون المعالجة نوعاً من الخضوع للإملاءات “الاسرائيلية” في تنفيذ حصار غير معلن على مطار بيروت، ولكن هذا الموضوع ما هو إلا مثال صغير على ما ينتظر حكومة سلام من احتمالات لدفعها إلى المواجهة مع “الثنائي”. وسيكون الامتحان الكبير لها يوم الثالث والعشرين من فبراير/شباط الجاري حين سيقيم حزب الله مراسم دفن الأمينين العامين الشهيدين السيدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، وقد أرسل حزب الله وفوداً إلى مختلف القيادات الرسمية والحزبية والدينية اللبنانية لدعوتها إلى المشاركة في هذه المناسبة التي ستكون الحشود فيها مليونية، كما يُقدّر المراقبون. وسيكون ما بعد هذه المناسبة ليس كما قبلها لأن حزب الله يُريد أن يُبرز أنه ما زال وحليفته حركة أمل يمتلكان ورقة الشرعية الشعبية التي حصلا عليها في الانتخابات النيابية عام 2022. وبالتالي فإن أي انزلاق رسمي لبناني للإملاءات “الإسرائيلية” والأمريكية من شأنه أن يدفع الأمور إلى حال من عدم الاستقرار لا تُهدّد وجود الحكومة فقط بل أيضاً السلم الأهلي، وإذا ما وُضع نواف سلام أمام امتحان الإختيار بين بقائه رئيساً للحكومة وبين المواجهة في الشارع مع المكون الشيعي، من المؤكد أنه لن يرتضي لنفسه أن يكون رئيس حكومة أشعلت نار فتنة داخلية في البلاد.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  العراق: التكليف الأخير.. تحت وابل الأزمات