لبنان بين جنوب لا يستكين وداخل سياسي بمنازل كثيرة!

أن تتحدث عن آثار الحرب "الإسرائيلية" على لبنان، وأنت جالس في مكتبك الوثير شيء وأن تقوم بجولة ميدانية في القرى الجنوبية شيء آخر.. جولةٌ تُوفر صورة بصرية وصوتية وعاطفية يعجز أي شيء آخر عن ايصالها ومعها يتجدد سؤال الدولة اللبنانية وأي دور ينتظرها في مواجهة واقع مؤلم ومليء بالتحديات.

من بلدة “الخيام” في القطاع الشرقي، تبدأ الجولة الجنوبية. هناك حيث دارت أعنف المعارك الميدانية بين المقاومة وقوات الاحتلال، يروي أهل البلدة بكثير من الفخر روايات أشبه بأساطير المحاربين الإغريق؛ رواياتٌ سطّرها أبناؤهم الذين استشهد الآلاف منهم وهم يتصدون على مدى 66 يوماً لكل محاولات احتلال البلدة من قبل جيش الإحتلال. في مكان كان يوماً ساحة رئيسية لـ”الخيام” وتحوّل إلى أطلال من الدمار، استحدث أحد السكان مقهى هو عبارة عن مستوعب معدني صغير وبضعة كراسٍ وطاولات بلاستيكية، يُقدم فيه الماء والقهوة والشاي والمرطبات وتزين بقايا جدران الأبنية المدمرة المجاورة له صور عشرات الشهداء. خمسة رجال من أبناء البلدة يجلسون حول طاولة صغيرة يحتسون القهوة ويتداولون شتى المواضيع وأبرزها كيفية دعم عودة الناس إلى ما تبقى من منازلهم ودعمهم لاعادة ترميم ما يمكن ترميمه.

اقتربنا منهم وسألناهم إن كان بالامكان أن يتحدثوا إلى الصحافة، فرحبوا بنا وقال أحدهم: “المشهد أمامكم هو أبلغ من أي كلام”. وإذ بصاحب المقهى يأتينا بفنجاني قهوة ويقول والابتسامة على وجهه “أهلا بالصحافة”.. لتنطلق مع هذا الترحيب أسئلتنا، ولكنه قبل أن يبدأ بالإجابة قال لنا “أنا أب لثلاثة أبناء وأربع بنات. أنعم الله عليّ باصطفائه شهيدين، الأول هو ابني الأكبر الذي عثرنا على رفاته هنا على بعد خمسين متراً من المقهى.. والثاني هو شهيد حي، خضع حتى الآن لـ 19 عملية جراحية وبات يستطيع السير وحده”.

يضيف: “تدمّر جزءٌ كبيرٌ من بيتي، ولكنني أغبط ابني الشهيد على السعادة التي منحني إياها والفخر الكبير الذي أشعرني به، فلولاه هو ورفاقه لما كان بامكاننا العودة إلى قريتنا، هؤلاء كسروا جبروت أعتى جيوش العالم على أبواب الخيام، فأي سعادة يُمكن أن أشعر بها بعد ذلك”؟

هنا يتدخل أحد الرجال الحاضرين ليشرح لنا سير المعارك في الخيام فيقول: “تعرّضت الخيام خلال العدوان لهجومين رئيسيين. كان الهجوم الثاني هو الأعنف وشارك فيه قرابة 15 ألف جندي “إسرائيلي” و150 دبابة ميركافا، مُدعّمين بالطيران الحربي والمسير والمدفعية البعيدة والقصيرة المدى، لكن إخوتنا المقاومين رسموا معادلة واضحة: إما النصر بدحر العدوان وإما النصر بالشهادة. وقد أنعم الله عل العديد منهم بالنصرين فيما نحن أهالي البلدة حصدنا ثمار بطولاتهم بالعودة إلى قريتنا مرفوعي الرأس”. قدم رجل آخر نتحفظ على ذكر اسمه شرحاً عسكرياً تفصيلياً للمعركة وكيفية تقدم الجيش “الإسرائيلي” وأساليب المقاومة في مواجهته ليخلص إلى القول إن المقاومين كانوا أشبه بـ”الكاميكاز” في قتالهم ضده. ولعبت الصواريخ التي تدعمهم من بعيد دوراً كبيراً في صد العدوان وأوقعت خسائر كبيرة في صفوفهم، وقال: “كُنا نسمع صراخ جنود الاحتلال إلى مسافات بعيدة، وكان فشل هجومهم الأخير على البلدة هو السبب الرئيسي في قبول القيادة السياسية للعدو بوقف اطلاق النار، ولولا فشلهم الذريع لما وافقوا، ولو قُدّر لهم أن يحتلوا الخيام لما كانوا توقفوا قبل أن يصلوا إلى أقصى شمال شرق لبنان”.

ننتقل إلى منزل مؤلف من طابقين، الطابق الأعلى منه نصف مدمر، فيما هناك أضرار كبيرة في الطابق الأرضي، ومع ذلك تقول لنا ربة المنزل “زوجي عامل مياوم بالبناء وقد استطاع عبر إلمامه بهذه المهنة أن يُرمّم الأضرار في هذا الطابق وأن نعود إليه”. ابنها شاب في الثلاثين من عمره أبى أن يتحدث إلينا وعندما كانت تستفسر والدته منه عن أمرٍ ما كان يجيب بـ”لا أعرف”. تضيف السيدة التي يُشير لباسها إلى أنها ليست مقربة من حزب الله (لا تلبس التشادور) “ليس لدينا ماء وكهرباء ولكن البلدية تكرمت بتزويدنا بالماء من خلال ارسال صهريج ماء كلما دعت الحاجة. الكهرباء تصلنا عبر مولد كهربائي قريب من المنزل. أما حاجاتنا من مواد غذائية فنشتريها من المحال القليلة التي أعادت فتح أبوابها في البلدة”. وعند سؤالها عما إذا كانت العائلة قد حصلت على تعويضات من أي جهة تقول “حتى الآن لم نحصل على شيء. نعمل باللحم الحي لنعيش كل يوم بيومه. يكفينا أننا عدنا إلى تراب بلدتنا نشمه كل يوم ونتمتع بهوائها وكل ذلك بفضل أبنائنا الشهداء الذين حفظوا كرامتنا ومنعوا العدو من احتلال البلدة”.

وعلى مقربة من منزل هذه المرأة، إلتقينا بمهندس من مؤسسة “جهاد البناء” التابعة لحزب الله وقد رحب بالحديث معنا وقال: “لقد عاد أكثر من 300 من مواطني الخيام حتى الآن ونتوقع أن يكون العدد أكبر بكثير بعد انتهاء العام الدراسي لأن الأهالي الذي نزحوا إلى القرى المجاورة سجّلوا أولادهم في مدارس تلك القرى. ننسق أعمالنا مع مجلس الجنوب ممثلاً الحكومة اللبنانية، ونحن نجري تخميناً للأضرار ونقاطع نتائجه مع التخمينات التي يجريها المجلس أيضاً. وقد انطلق عملنا من قرى الخطوط الخلفية باتجاه الحافة الحدودية، وأنجزنا جزءاً كبيراً من عملنا في الخطوط الخلفية ووزعنا نسبة كبيرة من التعويضات على المتضررين هناك. وأؤكد لكم أن كل صاحب حق سيأخذ حقه ما أن ننتهي من عملنا. وبذلك نعطي الوقت الكافي للدولة اللبنانية لتلعب دورها في إعادة الإعمار إن شاءت ذلك وإلا فنحن لا نترك شعبنا في العراء”.

ومن بلدة الخيام إلى جارتها بلدة كفركلا لجهة الغرب. هناك يشعر المرء وكأنه دخل إلى قطاع غزة، فنسبة الدمار الشامل بحسب ما يقول رئيس البلدية تتجاوز الـ85%، الجزء الأكبر منه تم من خلال عمليات تفجير قام بها جنود الاحتلال بعد وقف اطلاق النار وما لم يفجّروه قاموا بإحراقه، كما أنهم فخّخوا الأبنية المدمرة من أجل ايقاع أكبر عدد من الإصابات في رجال الدفاع المدني عند القيام برفع الأنقاض.

إقرأ على موقع 180  القمةُ العربيةُ الاستثنائية المقبلة.. قمةُ مصيرٍ

في كفركلا، من الصعب تلمس معالم البلدة وطرقاتها حتى لمن يعرفها معرفة دقيقة. الطريقان اللذان يقودان إلى البلدة من جهة الشمال أقفلهما جنود الجيش اللبناني حرصاً على حياة المدنيين، لأن جنود الاحتلال لا يتورعون عن اطلاق النار على كل ما يتحرك من حولهم. لذلك كان الدخول إليها من جهة الشمال الغربي عبر بلدة دير ميماس المجاورة لها. وفي مكان كان يوماً ما محطة محروقات التقينا بعشرة رجال يتحلقون حول بضعة طاولات بلاستيكية صغيرة ويتجاذبون أطراف الحديث الذي تناول بمعظمه نتائج الانتخابات البلدية والإختيارية التي جرت نهاية الأسبوع الماضي.

وجّه العديد من هؤلاء الرجال نقداً لاذعاً للدولة اللبنانية وتحديداً لما وصفوه “تقاعسها عن الاهتمام بعودتنا إلى قريتنا”، كما رحّبوا بعودة أهالي القرى المجاورة، ولم يستثنوا من النقد حزب الله الذي أعطى الكثير من الوقت للدولة حتى تتحمل مسؤولياتها ن دون أن يبادر إلى تقديم بدائل. وفي ردهم على سؤال عن سبب قدومهم إلى البلدة طالما أنه خسروا منازلهم وأرزاقهم فيها، قال رئيس البلدية الذي أُعيد انتخابه “نحن نأتي إلى هنا كل يوم من الصبح إلى المساء لتأكيد حقنا بأرضنا، وعندنا ملء الثقة أننا سنُعيد بناء بلدتنا مهما طال الوقت، فقد قدم أبناؤنا أرواحهم دفاعاً عنها وعنا ومن واجبنا الآن أن نكون على مستوى تضحياتهم”.

من المشهد الميداني إلى المشهد السياسي وطنياً، يشعر المرء كأن الحكومة اللبنانية تعيش في عالم آخر، فحتى الآن لا مؤشر على وجود الدولة في هذه المنطقة إلا من خلال الحضور المُرحّب به للجيش اللبناني من جميع الأهالي، أما في كلام السياسة فكل ما يسمعه المواطن الجنوبي أو يقرأه يشير إلى وجود خطين متعارضين داخل السلطة السياسية. الخط الذي يُعبّر عنه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون مدعوماً من رئيس مجلس النواب نبيه بري ومُرحّباً به من حزب الله، والذي يقول إن موضوع سلاح المقاومة لا يُعالج إلا بحوار هادىء بعيداً عن الأضواء وبتواصل مع دول القرار إقليمياً ودولياً لفرض الانسحاب “الإسرائيلي” والإفراج عن الأسرى اللبنانيين ووقف الإعتداءات الإسرائيلية واطلاق ورشة اعادة الإعمار، وخط آخر يُعبّر عنه رئيس الحكومة نواف سلام ويتماهى مع “القوات اللبنانية” ويضع في رأس سلم أولوياته نزع سلاح المقاومة، متذرعاً بموضوع حصرية السلاح الذي ورد في خطاب القسم الذي تلاه الرئيس عون عند انتخابه، ولكن مع اجتزاء لهذا الموضوع من سياقه العام، وذلك كمن يجتزىء الآية القرآنية بالقول فقط “لا إله” ولا يستتبعها بـ”إلا الله” فتتحول الآية من ايمان مطلق إلى كفر مطلق.

ومن يُراجع تصريحات وخطب الرئيس نواف سلام مؤخراً (وفي موازاتها تصريحات وزير الخارجية اللبناني يوسف رجي) في الخارج والداخل يستشعر وجود قوة دفع لا تبشر بالخير للبلاد، فأين هي مصلحة لبنان في تقديم ملف حصرية السلاح على ملف الانسحاب “الإسرائيلي”؟

ثمة مزايا يتمتع بها الرئيس عون، وبينها خلفيته العسكرية من جهة ومنابته الجنوبية (بلدة العيشية) من جهة ثانية، فمن خلال الأولى يعرف عون جيداً أن التفاوض يتم وفقاً لميزان القوى وأن وجود سلاح المقاومة، هو ورقة قوة في المفاوضات لفرض الانسحاب “الإسرائيلي” وأن السلاح قابل للأخذ والرد تبعاً للأساليب العسكرية التي يُمكن أن تعتمدها المقاومة وفقاً لظروفها، وهذه النقطة أثارها مع وفد كتلة الوفاء للمقاومة الذي زاره مؤخراً برئاسة النائب محمد رعد، لمناسبة اليوبيل الفضي للتحرير. ومن خلال ميزته الثانية (الجنوبية)، فإن عون يعرف جيداً أن أهالي الجنوب لم يتخلوا عن خيار المقاومة، وقد أثبتوا ذلك عبر الانتخابات البلدية التي حصلت في الأسبوع الماضي حيث تجاوز عدد البلديات الفائزة بالتزكية المائة بلدية، وبالتالي فإن الرئيس عون يعرف جيداً أن الدفع باتجاه الصدام مع المقاومة من شأنه أن يُطيح بعهده الذي انطلق قبل قرابة الستة أشهر، فضلاً عن أن البيئة التي يسبح فيها حزب الله لن تسمح له أصلاً بمناقشة موضوع السلاح في ضوء ما تستشعره من خطر وجودي جنوبا وشرقاً، وهذه النقطة أثارها أيضاً رئيس كتلة الوفاء للمقاومة خلال اللقاء مع رئيس الجمهورية.

أما الرئيس سلام، الذي يحمل على أكتافه تاريخاً نضالياً مشرفاً عندما كان في ريعان شبابه، ويفترض أن يبقى رئيساً للحكومة حتى اجراء الانتخابات النيابية في مايو/أيار من العام 2026، فإنه يتصرف كمن يُقدّم أوراق اعتماده للقوى الإقليمية والدولية المتمسكة بنزع السلاح، من دون الأخذ في الاعتبار المصلحة الوطنية وكأن مرحلة النضال هي شهادة بكالوريا يحملها المرء كل العمر.

إن مشهد التباعد بين ما يقوله ويقوم به الرئيس عون وما يقوله ويقوم به الرئيس سلام يوحي وكأن السلطة اللبنانية تسير باتجاهين متعاكسين، وهذا ليس في مصلحة لبنان؛ الأول يُركّز على أهمية الحفاظ على الوحدة الوطنية والتلاحم بين مكونات البلاد، الثاني يدفع باتجاه الصدام بين المكونات اللبنانية.. وحبذا لو أن الرئيس سلام يُركّز جهده إلى جانب الجهود التي يبذلها الرئيس عون من اجل اخراج المحتل من الجنوب واطلاق عملية إعادة البناء (أو أقله آلية اعادة البناء والاعمار) قبل الكلام عن حصرية السلاح.. وإلا فإنه سيتحول إلى دونكيشوت محارباً طواحين الهواء.

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  كأنّه الغزو الصليبي.. مُموهاً بـ"فن الدبلوماسية"!