

في توقيت سياسي مدروس بعناية فائقة، توغّلت في 10 سبتمبر/أيلول المنصرم، ما لا يقلّ عن 19 طائرة مسيّرة رخيصة الثمن، في المجال الجوي البولندي. وعلى الفور تحرّك حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في أول تدخّل عسكري منذ بدء الحرب الروسية ـ الأوكرانية، إذ تم نشر قوة من طائرات طراز إف-16 بولندية، وإف-35 هولندية، وأخرى أواكس إيطالية، إضافةً إلى طائرات نقل وقود متعددة الأدوار وصواريخ باتريوت ألمانية.
واللافت للانتباه أنّ الخطوة الروسية المخطط لها بدقة، جاءت في وقت تشاورت فيه الدول الأوروبية حول دعم أو التزام بالدفاع عن أوكرانيا، والأهم أنّها حملت عدة رسائل:
أولاً؛ اختبار ردة فعل الإدارة الأميركية الحالية، ومدى استعدادها للدفاع عن أعضاء الناتو فعليًّا، وقد تبين أن ردها كان باهتًا، فعندما سأل الصحافيون الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن القضية، بدا الأخير غير مبالٍ. وقال وهو يهز كتفيه: “ربما كان خطأً. لكن على أي حال، لستُ راضيًا عن أي شيء له علاقة بهذا الوضع برمّته”.
ثانياً؛ ترهيب واختبار دول الناتو الأوروبية التي تدعم أوكرانيا، وقياس التزام الأعضاء بمبدأ الدفاع الجماعي، وأيضًا معرفة سرعة رد الحلف، وحدود جاهزية قواته، والتسلسل القيادي، ومدى التناسق بين دوله.
الخاصرة الشرقية الرخوة للناتو
عمليًّا، لم يرقَ ردّ الناتو على الطائرات المسيّرة، إلى مستوى التهديد الروسي، انطلاقًا من أنّه يبدو غير مستدام ماليًّا وعديم الفعّالية عسكريًّا. فقد قال أحد المسؤولين الأوروبيين لراديو أوروبا الحرّة/راديو الحرية (تحفّظ على الكشف عن هويته): “الصواريخ جو–جو باهظة الثمن للغاية لاستخدامها ضد طائرات روسية مسيّرة رخيصة، وإذا جرى إرسال 800 دفعة واحدة — كما يحدث في أوكرانيا — فإن أوروبا ستستنزف كامل ترسانتها في غضون أسابيع فقط”.
وعليه، كان لافتًا للانتباه أنّ مجلس شمال الأطلسي طلب مراجعة لخطط الردع على الجناح الشرقي للتحالف بحثًا عن ثغرات محتملة، لا سيما أنّ ثمة سوابق تشير إلى حصول عدة اختراقات روسية واضحة.
من هنا، وخلال الأشهر الماضية، وقعت حوادث مع طائرات روسية مسيّرة في بلغاريا، لاتفيا، ليتوانيا، ورومانيا. وبحسب الجيش البولندي، تسللت في آب/أغسطس الفائت طائرة مسيّرة روسية واحدة، من دون أن تُكتشف قبل أن تنفجر على الأراضي البولندية.
أمّا الدلالة الأوضح على الثغرات الأمنية للناتو في جناحه الشرقي، فتمثلت في ما تحدّثت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في خطابها السنوي حول حالة الاتحاد الأوروبي الشهر الماضي، إذ أوضحت أنّ التكتل بحاجة إلى تعزيز دفاعاته ضد الطائرات المسيّرة، وأعلنت عن قرض قدره 6 مليارات يورو للانضمام إلى «تحالف الطائرات المسيّرة» مع أوكرانيا.
امتحان الدفاع المستدام
في الحقيقة، يتساءل كثيرون، عن سبب الحاجة إلى الاعتماد على طائرات أواكس باهظة الثمن وطائرات مقاتلة مثل إف-35 لمواجهة الخرق الروسي، بدلًا من استعمال نظام مضاد للطائرات بدون طيار أرخص بكثير، مثل “سكاي سي تي آر إل” الذي تستخدمه بولندا.
الجواب الذي اعتمده الاطلسي حينها، استند إلى النظرية التالية: سلاح الجو يتدخل تلقائيًا عندما يحلّق جسم متسلّل فوق ارتفاع معيّن.
وليس بعيدا عن ذلك، اكد الأمين العام للناتو، مارك روتّه، أنّ “ردّ التحالف كان ناجحًا للغاية وأظهر أنّنا قادرون على الدفاع عن كل شبر من أراضي الناتو، بما في ذلك، بالطبع، مجاله الجوي”.
لكن مهلاً، على المستوى العسكري، أثارت الحادثة جدلًا واسعًا في أوساط الناتو الذي وجد نفسه أمام معضلة أمنية حقيقية، لا يملك الحلف حتى الآن أجوبة عملية لها: في حال واصل الكرملين اختبار دول الناتو بطريقة مشابهة في المستقبل، كيف سيكون شكل الرد وحجمه؟ زد على ذلك أنّ الخطوة الروسية تلك كشفت عن ثغرات في كيفية استعداد التحالف — أو عدم استعداده — لعصر جديد من الحروب تُستخدم فيه الطائرات المسيّرة (زهيدة الكلفة) على نطاق واسع.
الناتو وجدار المسيّرات
في الواقع، دفع الهجوم الروسي حلف الناتو إلى التفكير بمبادرات دفاعية مشتركة، لتعزيز الدفاع الجوي وتقليل الفجوات التي استغلتها موسكو في بولندا.
ولهذا، طرحت أورسولا فون دير لاين بعض التدابير الدفاعية، وفي مقدّمتها “مراقبة الجناح الشرقي للناتو” لتتبّع جميع التحركات الجوية من بحر البلطيق إلى البحر الأسود.
كما التزمت ببناء “جدار الطائرات المسيّرة” — وهو أمر كانت رفضت لجنتها تمويله في البداية عندما طلبت إستونيا ولاتفيا وليتوانيا تمويلًا أوروبيًا في وقت سابق من هذا العام للمشروع.
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الجدار المزعوم حاز على اهتمام الشركات الألمانية بالاستثمار، كذلك رغبت كلٌّ من: النرويج وفنلندا وبولندا بالانضمام إلى هذه المبادرة أيضًا.
وحتى الآن، لا توجد ميزانية محددة ولا تفاصيل كثيرة حول هذا “الجدار”، فضلًا عن أنّه لم يتم تحديد نطاق جغرافي دقيق لهذه الطروحات الدفاعية، أو وضع جدول زمني لها، سوى ما قدّمته المفوضية الأوروبية أمس (الأربعاء) من خارطة طريق أولية للمشروع.
مشاريع الدفاعات الجوية
يُسجَّل للناتو أنّه لم ينم على الحرير في مواجهة التهديدات التي كانت وما زالت تُطلقها موسكو ضد أوروبا منذ بدء الحرب الأوكرانية. ولهذا أقدم حلف الأطلسي العام الماضي على البدء بمشروعين متشابهين للدفاع الجوي: الأول “خط دفاع البلطيق” التابع لثلاثي بحر البلطيق (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا)، والثاني “الدرع الشرقي” وهو يعود لبولندا.
ما تجدر معرفته أنّ كلا المشروعين سيستغرق إنجازهما ما يصل إلى عقد كامل، وهما مصممان لـ«تحصين» الحدود مع بيلاروسيا وروسيا، بما في ذلك جيب كالينينغراد. وقد خُصّصت بالفعل مليارات الدولارات لهذه الغاية.
علاوة على ذلك، سيتم تخصيص استثمارات مالية كبيرة لإنشاء بنية تحتية للحماية، مثل: مئات الملاجئ، والأسوار، والخنادق، هذا عدا عن الجانب التكنولوجي لهذه الخطوط الدفاعية، والذي يشمل استخدام صور الاستخبارات، وإشارات الاتصالات، والمراقبة الصوتية لأغراض الرصد. كما ستتولى محطات أساسية موزّعة على طول خط الدفاع، فضلًا عن أبراج إلكترونية، معالجة البيانات وربطها بأنظمة الأسلحة الهجومية — ولا سيما المسيّرات المصممة لإسقاط طائرات الدرونز المعادية.
هذه المشاريع، ستُدمج مستقبلًا ضمن مشروع “جدار المُسيّرات” في حال وضع على سكة التنفيذ في المستقبل المنظور.. غير أن الأخطر من ذلك كله هو استشعار جميع اللاعبين في المسرح الأوراسي أن الحرب الروسية الأوكرانية ما زالت مرشحة للاحتدام وبالتالي لا يبدو أن اللاعبين من الجانبين قد تعبوا حتى الآن.