“رفعت القيادة (اللبنانية) الجديدة شعار الدفع بالإصلاحات قدماً وإعادة بناء الاقتصاد والبنى التحتية، إلى جانب تعزيز سيادة لبنان من خلال القضاء على ظاهرة الميليشيات المستقلة، وفي مقدمتها حزب الله. وفيما يتعلق بإسرائيل، شملت مبادئ الحكومة التزام التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن، حسبما ورد في اتفاق الهدنة بين الدولتين في آذار/مارس 1949، وكذلك تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، مع ضمان سلامة الأراضي اللبنانية وسيادتها واستقلالها السياسي ضمن حدودها المعترف بها.
خلافاً للحكومات السابقة، لم تتبنَّ الحكومة الجديدة رواية “المقاومة” الخاصة بحزب الله. وتعكس تشكيلتها، بوضوح، تغيُّر مكانة الحزب وتراجُع تأثيره. فبعد أن كان يتحكم سابقاً في مسار اتخاذ القرار في لبنان، يشارك الآن خمسة وزراء فقط من “الكتلة الشيعية” في الحكومة المؤلفة من 24 وزيراً (اثنان محسوبان على حزب الله، واثنان من حركة أمل، ووزير خامس غير تابع لهذين الطرفين). وفي ظل هذا الوضع، فشل حزب الله في منع القرار المصيري الذي اتخذته الحكومة في جلسة 5 آب/أغسطس 2025 بشأن “جمع السلاح” من جميع الميليشيات في البلد وتسليمه للجيش اللبناني (أي نزع سلاح حزب الله)، واكتفى بالاحتجاج من خلال مقاطعة الوزراء الشيعة للتصويت.
مع ذلك، فشلت الحكومة، حتى الآن، في تنفيذ القرار، نظراً إلى المعارضة الشديدة من حزب الله، الذي لا يزال يردع القيادة وخصومه السياسيين بما تبقى من قوته العسكرية، ولا يتردد في التلويح بتهديد اندلاع حرب أهلية جديدة، إذا جرى نزع سلاحه بالقوة. ويُضاف إلى قوة ردعه ضُعف الجيش اللبناني غير القادر على تنفيذ المهمة الصعبة الموكلة إليه – بسبب النسبة العالية من الجنود الشيعة في صفوفه، وبعضهم متعاطف مع حزب الله. وفي هذه الظروف، تتجنب القيادة اللبنانية (وكذلك الجيش اللبناني) الدخول في مواجهة عنيفة مع الحزب، وتكتفي بمحاولات “دبلوماسية” لا تقود إلى تحقيق النتائج المطلوبة.
يواجه حزب الله تداعيات الحرب، ويتعرض لضربات يومية من الجيش الإسرائيلي ضد عناصره ومعداته وبناه التحتية، وخصوصاً في الجنوب اللبناني، وكذلك في بيروت والبقاع. واختار في المرحلة الحالية تركيز جهوده على إعادة التنظيم وإعادة بناء قدراته العسكرية والاقتصادية، بدعم من إيران. وتشمل استراتيجيته الجديدة، إلى جانب الامتناع من الرد على الهجمات الإسرائيلية حالياً، تحميل الحكومة مسؤولية معالجة المواجهة مع إسرائيل، مطالباً إياها بالسعي لوقف الهجمات وانسحاب إسرائيل من كامل الأراضي اللبنانية. ويتجنب الحزب أيضاً الدخول في مواجهة عنيفة، لا مع الحكومة اللبنانية، ولا مع الجيش اللبناني، لكنه يحافظ على قدرة الردع تجاه خصومه في الداخل.
وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجهها الحكومة اللبنانية مع حزب الله، فإنها اتخذت مؤخراً خطوة إضافية مهمة بالنسبة إلى إسرائيل، خلافاً لموقف الحزب، عبر تعيين الدبلوماسي سيمون كرم لتمثيلها في الحوار مع طرف مدني إسرائيلي بشأن التعاون الاقتصادي خلال اجتماعٍ (3 كانون الأول/ديسمبر) للّجنة الخماسية لتطبيق وقف إطلاق النار (الولايات المتحدة، فرنسا، إسرائيل، لبنان، اليونيفيل). وعلى الرغم من أن الخطوة تبدو صغيرة، فإنها ذات دلالة كبيرة، نظراً إلى معارضة حزب الله الشديدة لأي اتصال مباشر بين لبنانيين وإسرائيليين، وهو موقف شبيه بموقفه من مفاوضات ترسيم الحدود البحرية في سنة 2022، حين وافق على التفاوض، بشرط عدم عقد لقاءات مباشرة. واليوم، يشترط الحوار مع إسرائيل بأن توقف الأخيرة عملياتها العسكرية وتنسحب من كل لبنان. وانتقد الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم القرار (5 كانون الأول/ديسمبر)، معتبراً أنه تنازُل لبناني كبير لإسرائيل بلا مقابل، وشبّهه بالثقب في سفينة تحمل كل اللبنانيين.
يبدو كأن ما دفع الحكومة اللبنانية إلى هذه الخطوة خشيتها من توسُّع المواجهة مع إسرائيل التي، بحسب رأيها، تهدد بجولة قتال جديدة لأن وتيرة إعادة بناء حزب الله أسرع من قدرة الجيش الإسرائيلي على الحفاظ على إبقاء الحزب ضعيفاً، وساهم في ذلك أيضاً الضغط الأميركي الكبير، مع تحديد مهلة لتفكيك سلاح حزب الله، واغتيال هيثم علي الطبطبائي، رئيس أركان حزب الله بالإنابة (23 تشرين الثاني/نوفمبر)، والذي شكّل ضربة قاسية كادت تدفع الحزب إلى الرد. كذلك ساهمت زيارة البابا لاوون الرابع عشر للبنان (30 تشرين الثاني/نوفمبر) في تشجيع الشارع المسيحي ودعم الأمل بمستقبل جديد للبنان، أمور كلها دفعت الحكومة إلى المخاطرة بخطوة الحوار المباشر مع إسرائيل. وصرّح الرئيس جوزاف عون (5 كانون الأول/ديسمبر) بأن الخطوة لا تهدف إلى إرضاء المجتمع الدولي، بل إلى حماية لبنان ومنع جولة عنف جديدة، مؤكداً أنه لا تراجُع عنها. ويُفهم من كلامه أن القيادة اللبنانية تريد مواصلة التقدم في مسار التفاوض مع إسرائيل، على الرغم من أن قدرتها على ذلك تعتمد على تطورات المواجهة العسكرية، سواء من الجانب الإسرائيلي، أو من موقف حزب الله، وخصوصاً إذا توقف الحزب عن سياسة ضبط النفس.
تعكس هذه الخطوة الحكومية تراجعاً إضافياً في مكانة الحزب داخل النظام السياسي اللبناني، وتعمُّق المعضلة التي يواجهها، إذ لا يزال يحتفظ بقدرة الردع ضد القيادة اللبنانية ومخاوفها من استهدافه لها، ولا يزال قادراً على إشعال مواجهة جديدة مع إسرائيل، لكن اللجوء إلى ذلك ربما يؤدي إلى تدهوُر وضعه أكثر. وفي المقابل، فإن امتناعه من الرد يمكن أن يشجع القيادة اللبنانية على المضيّ في التفاوض مع إسرائيل وتقليص النفوذ الإيراني وتشديد الرقابة على تهريب أسلحة الحزب، بينما يستمر الجيش الإسرائيلي في ضربه. ومن المتوقع أن تتأثر قرارات الحزب أيضاً بالموقف الإيراني، الداعم الأساسي له (بحسب وزارة الخزانة الأميركية، ضخّت إيران نحو مليار دولار للحزب منذ وقف إطلاق النار)، ولها اليوم تأثير أكبر فيه مما كان في عهد نصر الله.
يواجه حزب الله أيضاً قيوداً إضافية تتمثل في:
- فقدان ميزان الردع مع إسرائيل التي تهاجمه يومياً. صحيح أنه يحقق تقدماً في إعادة ترميم قواه، ويحافظ على وجوده في الجنوب، لكن ليس بالوتيرة التي يريدها. لقد هاجمته إسرائيل نحو 700 مرة خلال العام الأخير، وقتلت أكثر من 350 من عناصره.
- غياب الحرس القديم من قادته السياسيين والعسكريين الذين قُتلوا خلال الحرب وبعدها، وبشكل خاص (السيد حسن) نصرالله.
- صعوبة تلبية حاجات جمهوره الشيعي المتضرر من الحرب، وهو ما يقلل نسبة الدعم له داخل الطائفة.
- ازدياد الانتقادات الشعبية له بسبب مسؤوليته عن الوضع الكارثي في لبنان.
- الضغط الخارجي لتهدئة الأوضاع ومنع تجدُّد المواجهة (مؤخراً، انضمت مصر وقطر إلى ذلك).
- الضغوط الموازية على الحكومة اللبنانية، وخصوصاً الأميركية، لتنفيذ وعودها بنزع سلاح الحزب.
الخلاصة: بعد عام على دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، يبدو كأن هناك تغيّراً سياسياً في ميزان القوى اللبناني بين “المعسكر السيادي”، بقيادة القيادة الجديدة، و”معسكر المقاومة”، بقيادة حزب الله، لكن هذا لا يرقى بعد إلى تغيير جوهري في الوضع اللبناني؛ فما زال الجيش اللبناني الحلقة الأضعف وغير قادر على تنفيذ مهمة نزع سلاح الحزب والميليشيات؛ وما تزال الدولة عاجزة عن الخروج من أزمتها الاقتصادية العميقة بسبب فشلها في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة – من البنية الطائفية، إلى النظام المصرفي الفاشل والفاسد، إلى مؤسسات الدولة المتداعية، والبنية التحتية المتضررة.
أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فأفرزت الحرب فرصاً لإضعاف حزب الله وتحسين العلاقة بلبنان، لكن مرور عام يكشف أن قدرة القيادة اللبنانية على فرض إرادتها على الحزب ما تزال محدودة، وما يزال خطر اندلاع جولة قتال جديدة قائماً. وفي هذه الظروف، ولاغتنام نافذة الفرصة الضيقة لتحقيق التغيير، على إسرائيل تبنّي سياسة تجمع بين العمل العسكري المستمر وخطوات سياسية تهدف إلى إضعاف حزب الله وتعزيز الدولة اللبنانية، وبالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة.
وفي هذا الإطار، يبرز ما يلي:
-مواصلة ضرب أهداف حزب الله لإضعافه ومنع إعادة ترميم قواه، ويُفضّل – إن أمكن – بالتنسيق مع القيادة اللبنانية، مع تجنّب شن عمليات واسعة، ربما تؤدي إلى إصابات بين المدنيين، وتُضعف الشرعية السياسية والعسكرية؛
-المطالبة بتعزيز الجيش اللبناني، في مقابل إصلاحات بنيوية داخلية تشمل “تنظيف المؤسسة العسكرية” من الضباط والجنود المحسوبين على حزب الله؛
-الموافقة على أي مبادرة تؤدي إلى تقدّم مسار المفاوضات مع لبنان والتعاون السياسي والاقتصادي، بما في ذلك طرح تعديل القانون اللبناني الذي يحظر الاتصال بالإسرائيليين؛
-بلورة موقف بشأن التنازلات المحتملة من جانب إسرائيل لدعم القيادة اللبنانية، مثل: الإفراج عن أسرى لبنانيين، تقليص انتشار القوات الإسرائيلية على الحدود؛
-دعم خطة ترامب للتنمية الاقتصادية في الجانب اللبناني؛ المساهمة في مشاريع اقتصادية (مطار إضافي، إعادة تشغيل سكة الحديد)؛
-توسيع الجهد الدولي لقطع مصادر التمويل عن حزب الله؛
-المشاركة في النقاش الذي بدأ في لبنان بشأن إمكان استبدال قوة اليونيفيل بقوة دولية جديدة على الحدود، نظراً إلى انتهاء تفويض اليونيفيل في نهاية 2026″.
(*) المصدر: ترجمة مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
