

امتلأت الأجندة بمواعيد لقاءات استنزفت دبلوماسيين باتوا معها يستحقون صفة العراقة. علّمتهم مفاوضات تخصيب اليورانيوم فنون التفاوض، والتلاعب، وحدود الاستجداء، ومدى فعالية التهديد. ثلاثة أمناء عامين للأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأربعة رؤساء أميركيين وثمانية وزراء خارجية، وخمسة رؤساء إيرانيين وستة وزراء خارجية. بعض هؤلاء خطّ المؤلفات عن عمره فيما أفناه، وقد أفناه الملف النووي بأبعاده التي تصل إلى رغيف الخبز والصاروخ البالستي والمقبولية في العالم.
صمود، وقوة، واستراتيجية، وقنوات خلفية، وخسارة عدو، وجرأة غير موصوفة لضعاف القلوب. استعير من عناوين ما كُتب. كاتب هذا المقال حتّى، أعدَّ رسالة الماجستير في العلاقات الدولية وكان موضوعها مرتبطًأ بالنووي الإيراني. أما المدن، فمن نيويورك إلى فيينا، ومن لندن إلى باريس، وجنيف، وروما، واسطنبول، وبغداد، والدوحة، ومسقط، مرورا بألماتي وموسكو. مدن رأت حلم التسوية، وسال لعاب ساستها على إنجاز تاريخي من هذا النوع. عاشت أضواء الأمل بأن يربطها التاريخ باستضافة اتفاق لا يحتاج العالم بعده إلى اتفاق.
لكل مدينة قصتها، اسم شارع يبث الغموض، أو مبنى أساساته متفجرة، أو جبال تحيط بفندق كما لو أنها تحميه من الحسد السياسي وما أقساه، أو قصور بغرف متجاورة لمفاوضات غير مباشرة، أو حدائق غناء معزولة لنزهات دبلوماسية بعيدة عن شغف الصحافة.
***
وجوه وأوراق تتبدل على مذبح قضيّة واحدة لا تتبدّل: الملف النوويّ الإيرانيّ. مفتاح الصراع ومفتاح الحل. هكذا يقول البعض، لكنه ادعاء باطل. فالنووي لم يكن يومًا مفتاحًا، بل قفلًا يخفي خلفه ملفات أكثر اشكالية وأخطر. إنه مرآة لعلاقة إيران والغرب بمعيارها الأساسي: أمن إسرائيل. هم لا يخفون ذلك في مطالعاتهم الدقيقة، لكنهم يرتاحون لشماعة النوويّ الواسعة. ولعله سبب من أسباب امتناع إيران حتى اللحظة عن سلوك طريق القنبلة، برغم المطالبات الداخلية بذلك.
وبرغم محورية الملف النووي في خطابها، تسعى طهران في كل مناسبة لتأكيد سلمية برنامجها. حتى عندما أغارت طائرات أميركا وإسرائيل فجر 22 حزيران/يونيو على المفاعلات الثلاثة، أصفهان، نطنز، وفوردو، امتنعت عن أي فعل عملي يضعها في مساحة المبادر لإجراءات قد تقطع شعرة التعاون لاحقًا. لم تنسحب من اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية (NPT)، ولم تعلن تعديل عقيدتها النووية برغم التحذيرات السابقة بهذا الشأن. لم تفعل ذلك حتى كتابة هذه السطور. لكن ثمّة شيطان من شياطين التفاصيل يبرز هنا. اختفت كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60%. نحو نصف طن (400 كيلوغرام) ليس معلومًا مكانها. غموض نووي لجهة كمية قد تصنع عدة قنابل، والدول الغربية وإسرائيل الآن في حالة استنفار أمني قصوى لمعرفة مآل هذه الكمية، وماذا تريد إيران أن تصنع منها.
فهل تصنع إيران القنبلة وتنهي بذلك قصة التفاوض الطويلة وتريح مفاوضيها من عناء التفاوض مع أقطاب العالم؟ ربما هذا هو السؤال الذي يتمنى كثر لو أنّ الزمن يختصر نفسه ليوصلهم لإجابته، لأنه بناء على ما سيكون عليه الحال، فبالإمكان فهم المآل.
***
في أحد مقاهي لندن اجتمعت وأستاذي البريطاني الإيراني الذي أشرف على رسالتي في الماجستير حول المفاوضات النووية. لا أكشف سرًّا بأنّ محور الحديث كان إيران والحرب والمتوقع في ذلك. قاطعنا بشكل مفاجئ رجل يجلس إلى يميننا. سأل عن سبب اهتمامنا بإيران. تعرفنا عليه. ضابط متقاعد في الجيش الباكستاني ومستشار لرئيس وزراء سابق. انطلق في تقييم سياسة إيران النووية، وأشار إلى أن بلاده لم تستسلم أمام الضغوطات التي واجهتها، وقررت صناعة القنبلة، بينما لم تجرؤ إيران على ذلك. وبلغةٍ فيها من الثقة الكثير، قال لنا: “إنّ الثمن الذي كانت إيران ستدفعه لو أنها صنعت قنبلة نووية، لم يكن ليقارن بما دفعته وستدفعه اليوم لأنّها لم تصنعها”.
في داخل كلّ مهاجر إيرانيّ حسٌّ يطفو على السطح في النقاشات التي تطال بلادهم، بمعزل عن موقفهم من النظام الحاكم، إيجابًا أو سلبًا. تحرّك هذا الحسّ في قلب أستاذي، وبدأ يشرح بأن ذهاب باكستان إلى القنبلة النووية يختلف عن حالة إيران. فالقرار الباكستاني كان سياديًا عسكريًا بامتياز، بينما في إيران، الدولة الثيوقراطية المحكومة بمرجع ديني، فإن القرار النووي ليس شأنًا عسكريًا بحتًا، بل قضية تمسّ جوهر الشرعية الدينية والسياسية للنظام. ولذلك، امتلاك سلاح نووي في دولة يُقدَّم فيها الوليّ الفقيه بصفته مرجعًا أخلاقيًا قبل أن يكون قائدًا سياسيًا، يطرح معضلة فقهية تتجاوز الحسابات الاستراتيجية. ومن هنا، فإنّ أي خطوة نحو التسلّح النووي لا تُناقش فقط داخل مؤسسات القرار، بل تمرّ عبر منظومة دينية قيمية وسياسية استراتيجية، تُوازنُ بين مبدأ الردع ومبدأ تحريم السلاح المدمّر. أما باكستان، فقد كان قرارها نتاج صدمة الهزيمة أمام الهند عام 1971، ونتيجة غياب العمق الاستراتيجي والشعور بتهديد وجودي مباشر. هناك، اتخذ الجيش القرار بسرعة وحسم، وجرى تعبئة المجتمع حول فكرة «القنبلة الإسلامية» كرمز للكرامة الوطنية. في المقابل، لم تواجه إيران منذ الثورة تهديدًا وجوديًا مماثلًا، بل بنت منظومة ردع بديلة عبر شبكة حلفائها الإقليميين وصواريخها البالستية، وهو ما جعل خيار السلاح النووي مكلفًا سياسيًا، واقتصاديًا، ودينيًا، أكثر مما هو ضرورة أمنية.
أثبتت الأحداث أن النظام الإيراني، برغم لغته الثورية العالية السقف، يتصرّف بعقلانية استراتيجية تشبه ما توقعه والتز قبل أكثر من عقد، لكن بدون قنبلة، وهذا ما يجعل طهران تحت خطر حرب إسرائيلية أخرى في أي وقت. هذه العقلانية التي عكستها طهران منذ حادثة اغتيال الولايات المتحدة لقائد قوة القدس قاسم سليماني في بغداد مطلع عام 2020، وتمددت بشكل مكثف لتصبح حبلًا يخنق المبادرة الإيرانية
ما لم يُذكر في النقاش، أن البيئة الأمنية التي تتحرك فيها إيران تختلف جوهريًا عن تلك التي دفعت باكستان إلى حافة الخطر النووي. فالهند بالنسبة لإسلام آباد كانت خطرًا مباشرًا على الحدود، في حين أن خصوم إيران، إسرائيل والولايات المتحدة، بعيدين جغرافيًا وقابلين للاحتواء عبر أدوات الردع غير التقليدي. وبفضل عمقها الجغرافي وتعدد جبهات نفوذها، اعتمدت طهران ما يمكن تسميته “الردع بالوكالة” بدل الردع النووي، عبر حلفائها في لبنان والعراق واليمن وسوريا، وهي بذلك بنت شبكة توازن قوى إقليمية تحقّق لها أمنًا مرنًا، دون تجاوز الخط النووي الأحمر بالنسبة للعالم.
وخلافًا لباكستان في سبعينيات القرن الماضي، خضعت إيران لنظام رقابة صارم من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولعقوبات متشابكة من مجلس الأمن والدول الغربية. إنّ أي تحوّل نحو التسلّح النووي سيعني عمليًا انتحارًا اقتصاديًا وسياسيًا للنظام، وإغلاقًا لبوابات التفاوض التي شكّلت أحد أعمدة بقائه وشرعيته الدولية.
وفوق ذلك، تحكمُ المشهد فتوى القائد الأعلى علي خامنئي التي تُحرِّم إنتاج أو استخدام السلاح النووي بوصفه مخالفًا للشريعة الإسلامية. وبرغم الجدل حول ما إذا كانت الفتوى سياسية أم دينية صِرفة، إلا أنها تحوّلت إلى قيد رمزي وأخلاقي على المؤسسة الحاكمة، وجزء من هوية الجمهورية الإسلامية أمام جمهورها في الداخل والخارج.
لذلك، فإن المقارنة بين باكستان وإيران تُظهر أن الأولى ذهبت إلى القنبلة لتنجو، بينما الثانية تلوّح بإمكانها لتتفاوض وتبقى. بل إن هناك من يعتقد أن إيران، إذا ما ذهبت إلى خيار القنبلة، فإنها تخاطر جديًا بتحويل نفسها إلى كوريا شمالية ثانية. دولة نووية لكن محاصَرة ومُعزولة، ومحكومة بمنطق البقاء لا التطور.
هذا الرأي جدليٌّ أيضًا. ففكرة “التحول إلى كوريا الشمالية ثانية” تشغل بال الإيرانيين منذ سنوات، وكانت حاضرة في النقاشات الفكرية داخل البلاد بين تيارين: تيارٌ تحذيري يرى أن السلاح النووي سيقود إيران إلى عزلة خانقة، وتيارٍ اندفاعي، يعتبر امتلاك القنبلة بمثابة الضمانة الأخيرة لاستقلال القرار الوطني، في عالم لا يحترم إلا من يملك القوة القصوى.
غير أن رأيًا وازنًا يرفض كليًا تشبيه إيران بكوريا الشمالية، انطلاقًا من أن إيران ليست دولة مغلقة على نفسها. فهي صاحبة العمقين التاريخي والثقافي، والموقع الجغرافي الذي يتوسط قلب العالم، والسياسة الخارجية التي، برغم طابعها الأيديولوجي، ما زالت حريصة على إبقاء خيوط التواصل الدبلوماسي مفتوحة مع العالم.
بين هذين الحدّين، تبدو طهران عالقة في ما يمكن تسميته “الردع المعلّق”. تمتلك القدرة على الاقتراب من القنبلة من دون أن تصنعها، وتستخدم هذا الاقتراب كورقة سياسية تضمن بقاء النظام وتمنع الحرب عليه. غير أن هذا التوازن الهشّ، الذي كان مصدرًا للمناورة، بدأ يتحول إلى عبء استراتيجي على الدولة الإيرانية نفسها.
***
الحرب الإسرائيلية الأخيرة على إيران كسرت التوازن الهش القائم إلى غير رجعة على الأرجح. اثنا عشر يومًا انتهت بتوجيه ضربة جوية مدمّرة للمفاعلات النووية في نطنز وأصفهان وفوردو. في تلك الحرب، اكتشفت إيران أن استراتيجيتها القائمة على الغموض النووي لم تمنحها الحصانة، بل جعلتها عرضة للضرب من دون أن تمتلك وسيلة ردع مقابلة. فامتلاك “إمكان” السلاح النووي من دون تحقيقه فعليًا، جعلها تقع في المنطقة الرمادية: ليست دولة نووية تُهاب، ولا دولة عادية تُستثنى من الهجوم، بل أكثر من ذلك، هي متّهمة دائمًا بأنها تسعى لصنع سلاح نووي، وهذه تهمة وضعتها مجددًا الآن تحت البند السابع من عقوبات مجلس الأمن الدولي.
الحرب نفسها أبرزت أيضًا أن البرنامج الباليستي الإيراني المكتمل تقريبًا مكّن طهران من تثبيت توازن موضعي، وردع تكتيكي محدود. فالصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية نجحت في فرض كلفة عالية على إسرائيل، وأثبتت أن لدى إيران قدرة على الرد والمناورة برغم التفوق الجوي الإسرائيلي. ومع ذلك، يرى كثيرون أن هذا الردع الباليستي كان سيكتمل لو أنّ إيران امتلكت السلاح النووي نفسه، لا مجرد أدواته التمهيدية.
في هذا السياق، جاءت تصريحات الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني ووزير الدفاع الأسبق علي شمخاني، الذي قال: «كنت أتمنى أن نسعى لامتلاك قنبلة نووية عندما عُينت وزيرًا للدفاع في عهد محمد خاتمي، ولو عدت إلى تلك الفترة لسعيت بالتأكيد وراء القنبلة الذرية»، مشيرًا إلى أن العقوبات منعت أي دولة من التعاون الجاد مع إيران في مجال التسليح. وقد عبّر هذا التصريح عن خيبة أمل متجذّرة في أوساطٍ داخل النظام، ترى أن إيران دفعت ثمن الالتزام من دون أن تنال الاعتراف أو الردع المطلوب. بل ربما هو نوع من التحسّر على ضياع فرصة الذهاب نحو القنبلة في الفترة التي شهدت ذروة قوة إيران الإقليمية واكتمالها، وحضور ردعها عبر الدفاع المتقدم، وهو ما لم يعد كما كان بعد حرب إسرائيل على حزب الله في لبنان، وسقوط نظام بشار الأسد في دمشق.
هل ستكتفي إيران بما تبقى من ردعٍ رمزيّ تحت سقف الأمر الواقع والعقوبات، أم ستختار انتهاج طريق مختلف يصنع لها مظلة ردع كاملة يضعها في موقع الندّ النوويّ لإسرائيل، ويحوّل الشرق الأوسط من “توازن خوف” إلى “توازن بقاء”؟
***
انطلاقًا مما سبق، يبرز تيار داخل المشهد السياسي الإيراني، خلاصته أن الردع لن يتحقق، وأن شبح الخطر الوجودي لن ينتهي، إلا بالردع النووي. لهذا الطرح أنصاره الكثر داخل النظام، بل وحتى بين المعارضين الذين يصطفون مع إيران ضد أي عدوٍّ خارجي. يعتقد هؤلاء أن الحفاظ على الجغرافيا الإيرانية كما هي يتطلب مظلّة ردعية تمنع أي قوة، أياً كانت، من التفكير في الحرب. ويستند هؤلاء إلى نظرية الردع النووي الكلاسيكية التي ترى أن امتلاك القدرة على الإبادة المتبادلة، وحده، يضمن السلم القسري ويمنع العدوان.
مناهضو السلاح النووي في المقابل يعارضون هذا الإتجاه، مستندين إلى قاعدة سياسية-أخلاقية مختلفة. هؤلاء المؤيدون لفتوى القائد الأعلى يؤكدون أن أصل الصراع ليس حول البرنامج النووي، بل حول موقف إيران المناهض لإسرائيل، ولما تسميه أدبيات النظام “الاستكبار العالمي”. يجادلون بأن حل القضية النووية، سواء بصنع القنبلة أم عبر الاتفاق، لن يُنهي النزاع مع الغرب وإسرائيل، لأن جوهره أعمق ويتعلق بموقع إيران الإقليمي، وبالقضية الفلسطينية التي يعتبرونها العنوان المركزي في معادلة الصراع. من وجهة نظرهم، امتلاك السلاح النووي قد يجرّ البلاد إلى عزلةٍ تُضعف قدرتها على نصرة هذه القضايا، وتحوّلها من دولة “ثورية” إلى دولة “محاصرة”.
وعند قراءة هذه الجدالات في ضوء الفكر الواقعي، تبرز أهمية أطروحة المفكر الأمريكي كينيث والتز في مقاله الشهير عام 2012 بعنوان: “لماذا ينبغي لإيران أن تحصل على القنبلة النووية: التوازن النووي يعني الاستقرار”. يرى والتز أن امتلاك إيران هذا السلاح سيكون النتيجة الأنسب لإعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط، لأن القوة تحتاج إلى توازن، وأن احتكار إسرائيل للسلاح النووي هو ما غذّى حالة الاضطراب في المنطقة. ويضيف أنه في كل مرة انضمت فيها دولة جديدة إلى النادي النووي “أدى ذلك إلى تعزيز الاستقرار لا الفوضى”، وأنّ العقوبات “لن تُغيّر حسابات الأمن الإيراني بل ستزيد من تصميمه على امتلاك الردع النهائي”.
***
في المقابل، تبقى المدرسة الدبلوماسية التي مثّلها خافيير سولانا على النقيض تمامًا. فقد رأى سولانا بعد الإتفاق النووي في مقالة نشرها على موقع “الجزيرة نت” أنّ “كل قنبلة إضافية في الشرق الأوسط هي قنبلة موقوتة تحت النظام الدولي”، داعيًا إلى دمج إيران في النظام العالمي عبر اتفاقات التخصيب والضمانات، لا عبر التوازن بالقوة.
وبين منطق والتز الواقعي ومنطق سولانا التوافقي، تتحرك إيران اليوم في منطقة رمادية تجمع بين الاثنين: ترفض الانصياع الكامل، لكنها لا تعلن القطيعة النهائية. تتبنى إيران ما يمكن تسميته “الردع الكامن”، أي امتلاك القدرة على العبور النووي من دون أن تعبر فعليًا. والتز افترض أن إيران، كغيرها من الدول العقلانية، لن تسعى لتدمير نفسها بل لضمان بقائها، وأن امتلاك القنبلة سيجعلها أكثر حذرًا لا أكثر عدوانية. وبعد تجربة الحرب الأخيرة، يبدو أن الواقع قد اقترب من منطقه: فإيران واجهت ضربة قاسية لمفاعلاتها، لكنها لم ترد بطريقة شاملة، بل اكتفت بردود محسوبة تؤكد إدراكها لقواعد اللعبة النووية.
بهذا المعنى، أثبتت الأحداث أن النظام الإيراني، برغم لغته الثورية العالية السقف، يتصرّف بعقلانية استراتيجية تشبه ما توقعه والتز قبل أكثر من عقد، لكن بدون قنبلة، وهذا ما يجعل طهران تحت خطر حرب إسرائيلية أخرى في أي وقت. هذه العقلانية التي عكستها طهران منذ حادثة اغتيال الولايات المتحدة لقائد قوة القدس قاسم سليماني في بغداد مطلع عام 2020، وتمددت بشكل مكثف لتصبح حبلًا يخنق المبادرة الإيرانية مع الأحداث التي تلت، وتجلت في فترة حرب السنتين الأخيرتين (ما بعد 7 أكتوبر). باتت خطوات رد الفعل المنتهجة من إيران متوقعة جدًا لخصومها، وبالتالي ما من مفاجآت يمكن توقعها، على الأقل في ما هو ظاهر.
لذا فإن أطروحة والتز تبدو اليوم أكثر واقعية من أي وقت مضى. فقد أثبتت الأحداث أن الردع الرمزي لا يكفي، وأن “توازن الخوف” الذي تحدث عنه ما زال يحكم الشرق الأوسط، لكنه توازن غير متكافئ تميل كفته لمصلحة إسرائيل.
فهل ستكتفي إيران بما تبقى من ردعٍ رمزيّ تحت سقف الأمر الواقع والعقوبات، أم ستختار انتهاج طريق مختلف يصنع لها مظلة ردع كاملة يضعها في موقع الندّ النوويّ لإسرائيل، ويحوّل الشرق الأوسط من “توازن خوف” إلى “توازن بقاء”؟
إن الإجابة على هذا السؤال ستحدّد ليس مستقبل إيران فحسب، بل شكل الاستقرار في المنطقة لعقود قادمة، وليس في الوقت متسّع كبير قبل الوصول إلى نقطة التحوّل هذه. لن تبلغ المفاوضات يوبيلها الذهبي.