منذ سقوط النظام السوري في كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعت إسرائيل إلى توسيع حضورها العسكري والأمني في الجنوب السوري، وصولًا إلى تخوم جبل الشيخ. ومع الوقت، بات لها تأثير مباشر في القرار الأمني في تلك المنطقة، عبر تفاهمات غير معلنة، وعبر دعمها لقوى ومجموعات محلية متنوّعة.
وفي هذا السياق، لا يبدو الاهتمام الإسرائيلي ببعض المكوّنات المحلية في سوريا – من دروز وأكراد وغيرهم – محصورًا في «حماية الأقليات»، بقدر ما يرتبط برسم خرائط نفوذ جديدة تُضعِف دمشق المركزية، وتفتح الباب أمام ترتيبات حدودية – أمنية جديدة، تكون فيها إسرائيل الطرف الأقوى والأكثر حضورًا.
لبنان وفلسطين وحدة جغرافيا وتاريخ
تاريخيًا، لم يكن ما نسمّيه اليوم «لبنان» و«فلسطين» كيانين منفصلين كما نعرفهما الآن. فهما شكّلا عبر قرون طويلة جزءًا واحدًا متداخلًا من الدول والإمبراطوريات التي تعاقبت على المشرق، من العصور الفينيقية إلى الفتح الإسلامي، مرورًا بالعهدين المملوكي والعثماني.
ومع تشكيل ولاية بيروت في أواخر العهد العثماني عام 1888، ظلّ التداخل الاجتماعي والاقتصادي قائمًا بين الساحل اللبناني والجليل الأعلى وصفد وعكّا، وكانت الحركة بين صور وصيدا وبيروت من جهة، وحيفا وعكّا والناصرة من جهة أخرى، حركة طبيعية كأنها تجري ضمن البلد الواحد.
جاءت الصدمة بعد الحرب العالمية الأولى، وتقسيم المنطقة بين النفوذين الفرنسي والإنكليزي، وفق اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، ثم الانتدابين الفرنسي على سوريا ولبنان، والبريطاني على فلسطين عام 1920. بعد ذلك، تحوّلت خطوط الإدارة إلى حدود دولية، وقُطِّعت الأواصر بين عائلات وقرى ومصالح اقتصادية كانت متشابكة بطبيعتها.
ومع ذلك، استمر التواصل الاجتماعي والاقتصادي بين الجنوب اللبناني والجليل، وكان الكثير من أبناء الجليل يقصدون قرى وبلدات الجنوب والأسواق اللبنانية القريبة، لا سيما صور وصيدا، لتلبية حاجاتهم التجارية والخدمية، نظرًا للقرب الجغرافي وصلات القرابة.. والعكس صحيح بالنسبة لأبناء الأقضية الجنوبية اللبنانية الحدودية الذين تعاملوا مع الأسواق الفلسطينية في الجليل الأعلى بوصفها أسواقهم.
من سايكس بيكو إلى وثيقة وايزمن
لم يكن قيام كيانين منفصلين تحت الانتداب (لبنان وسوريا من جهة، وفلسطين من جهة أخرى) هو التحوّل الأخطر؛ بل دخول المشروع الصهيوني إلى قلب المعادلة. بعد «وعد بلفور» عام 1917، الذي أعطى الحركة الصهيونية وعدًا بإنشاء «وطن قومي» لليهود في فلسطين، بدأ التفكير الصهيوني يوسّع نظرته إلى ما هو أبعد من حدود فلسطين الانتدابية نفسها.
في الثالث من شباط/فبراير 1919، قدّم حاييم وايزمن، رئيس المنظمة الصهيونية آنذاك، إلى مؤتمر الصلح في باريس مذكرة بعنوان:
“Zionist Organization Statement on Palestine at the Peace Conference”
تضمّنت هذه المذكرة مطالبة صريحة بضمّ جزء من جنوب لبنان إلى فلسطين المنتدبة، بحيث تُنقل السيادة على مساحة واسعة من الجنوب اللبناني – بما فيها منابع ومجرى نهر الليطاني – من فرنسا إلى بريطانيا، لتصبح ضمن نطاق المشروع الصهيوني تحت الانتداب البريطاني. كذلك شملت مناطق من سوريا الجنوبية تمتد من جبل الشيخ إلى بيت جِن، وصولًا إلى سكة حديد الحجاز.
لم تكن المسألة مجرّد تعديل بسيط للحدود، بل رؤية استراتيجية تعتبر أن «فلسطين اليهودية المستقبلية» تحتاج إلى موارد مائية وجغرافية إضافية لضمان قيام دولة قادرة على الاستمرار. ولذلك ركّزت الوثيقة على حاجة «فلسطين» إلى مصادر مياه أساسية، يوفّرها نهر الليطاني، إلى جانب روافد نهر الأردن وحوض الحاصباني والوزاني وبانياس (الجولان).
رفضت فرنسا التنازل عن الجنوب اللبناني، وكذلك عن الجنوب السوري، لكن آثار هذه المطالبة بقيت حاضرة في الخرائط الذهنية والسياسية للقادة الصهاينة. وقد رافق مذكرة وايزمن خرائط تُظهر حدودًا مقترحة تمتد أحيانًا حتى مصبّ نهر الزهراني أو جسر القرعون، صعودًا إلى وادي التيم وحاصبيا ومرجعيون، في محاولة دائمة للاقتراب من منابع المياه والسيطرة على عقدة الاتصال بين لبنان وسوريا وفلسطين.
لاحقًا، كرّست المعاهدات الحدودية بين فرنسا وبريطانيا عام 1920، ثم معاهدة بوليه – نيوكامب عام 1923، تقسيم الحدود بين لبنان وفلسطين وسوريا، مع تثبيت ما يُعرف بـ”القرى السبع” على الجانب الفلسطيني، الأمر الذي أغلق ظاهريًا ملف الضم، لكنه لم يُنهِ الأطماع الكامنة في العقل الاستراتيجي الصهيوني.
طريق الليطاني المعبَّد بالدم
لم تُبقِ إسرائيل أطماعها في حدود الأوراق والوثائق. ومنذ قيام الكيان عام 1948، بدأت سياسة ممنهجة لدفع الحدود عمليًا نحو الشمال، سواء من خلال عمليات تسلّل وضمّ تدفقي للأراضي، أو عبر مشاريع للسيطرة على الموارد المائية، أو من خلال فرض واقع أمني جديد على طول الحدود اللبنانية – الفلسطينية.
وينقل عدد من الباحثين أن دافيد بن غوريون وموشيه دايان كانا من أشدّ المؤيدين لفكرة احتلال المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني وضمّها إلى إسرائيل، أو – في الحدّ الأدنى – ضمان السيطرة على مياه الليطاني عبر اتفاقيات استئجار أو مشاريع مشتركة إذا تعذّر الضمّ المباشر.
تجسّدت هذه الرؤية عمليًا في سلسلة من الحروب والعمليات العسكرية:
- قامت إسرائيل بعدّة خروقات لاتفاقية الهدنة عام 1949، برغم أن لبنان التزم بالاتفاقية ولم يشارك في الحروب العربية – الإسرائيلية. برغم ذلك، ظلّت العيون الإسرائيلية شاخصة باتجاه المنطقة الجنوبية في لبنان. وقد أشارت إلى ذلك مذكرات موشي شاريت، رئيس وزراء إسرائيل عام 1950، إذ بيّنت أن هاجس الاستحواذ على جنوب نهر الليطاني ظلّ يحرّك القادة الصهاينة، وينقل فيها أن موشيه دايان وبن غوريون كانا من أشدّ المؤيدين لاحتلال المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني. وبعد حرب عام 1967، وبرغم المكاسب الكبيرة التي حققتها إسرائيل، كرّر دايان رغبته في ضمّ جنوب نهر الليطاني، ما يفسّر مسارعة إسرائيل إلى الانسحاب من اتفاقية الهدنة عام 1967 من طرف واحد، برغم حياد الدولة اللبنانية وعدم مشاركتها في تلك الحرب. وبعد دخول المقاومة الفلسطينية إلى لبنان عام 1968، أصبح التهديد الإسرائيلي لا يقتصر على السيطرة على المياه والأرض، بل تحوّل إلى عمليات عسكرية هجومية شبه يومية زعزعت الاستقرار في لبنان وهدّدت وحدته. ويتجلّى ذلك في عملية الكوماندوس التي نفّذتها إسرائيل على مطار بيروت في 28 كانون الأول/ديسمبر 1968 بقيادة رافائيل إيتان، حيث دمّرت ما بين 12 و13 طائرة لشركة طيران الشرق الأوسط (ميدل ايست) كانت موجودة في المطار، ردًا على عملية فدائية قام بها فلسطينيان ضد شركة «العال» الإسرائيلية في مطار أثينا، ما يؤكّد حجم الاستخفاف الإسرائيلي بوحدة لبنان وأمنه.
- في شتاء العام 1978: شنّت إسرائيل «عملية الليطاني» واجتاحت المنطقة الواقعة جنوب النهر، تحت شعار إبعاد منظمات المقاومة الفلسطينية وصواريخها عن الحدود. ومنذ ذلك التاريخ، صار اسم الليطاني ملازمًا لهواجس الأمن والمياه لدى القيادة الإسرائيلية.
- في صيف العام 1982: قامت إسرائيل بأكبر اجتياح، فاحتلّت الجنوب والجبل والبقاع الغربي، ووصلت إلى ضواحي بيروت ثم إلى العاصمة نفسها، وأنشأت ما عُرف بـ«الحزام الأمني» بعمق يقارب 9 أميال (نحو 14 كلم) داخل الأراضي اللبنانية، وقد اندحر الاحتلال على مراحل عدة في ثمانينيات القرن الماضي، إلى أن نفذ انسحابه التاريخي الأخير في أيار/مايو 2000.
حرب الـ66 يومًا.. وتجديد المشروع
بعد التحرير عام 2000، جاءت حرب تموز (يوليو) 2006 التي استمرّت 33 يومًا، وانتهت بصدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي، الذي ثبّت وقف إطلاق النار، ونصّ على انتشار الجيش اللبناني في منطقة جنوب نهر الليطاني، إلى جانب قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل). وقد شكّل ذلك مرحلة من الاستقرار النسبي في الجنوب، استمرّت لسبع عشرة سنة، وإن كانت مشحونة بتوترات جزئية وخروق جوية وبحرية وبرية إسرائيلية.
مع عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما تلاها من حرب مدمّرة على غزة، تمدّدت المواجهة إلى الجبهة اللبنانية – الفلسطينية بفعل قرار فتح “جبهة الإسناد” من جنوب لبنان. وبعد أشهر من المناوشات على الحدود، نفّذت إسرائيل عملية عسكرية واسعة استمرّت 66 يومًا، أي ضعف مدة حرب 2006 تقريبًا، حاولت خلالها فرض وقائع جديدة تتجاوز ما نصّ عليه القرار 1701.
ولا يمكن النظر إلى هذه الحرب على أنّها «ردّ فعل» على صواريخ أو عمليات محدودة نفذتها المقاومة إسناداً لغزة، بقدر ما هي جزء من محاولة أوسع لإعادة صياغة الوضع في جنوب لبنان وجنوب سوريا، ودفع المقاومة بعيدًا عن الحدود، وربما خلق منطقة عازلة بحكم الأمر الواقع تمتدّ حتى نهر الليطاني في لبنان، وحتى سكة حديد الحجاز في الجنوب السوري، مع الضغط السياسي والدبلوماسي على الدولتين اللبنانية والسورية لفرض ترتيبات أمنية جديدة تمنح إسرائيل ما عجزت عن انتزاعه بالحرب المباشرة.
جبل الشيخ و«بيت جِن» عقدة الجغرافيا والسياسة
في هذا السياق، تبرز «بيت جِن» كحلقة حسّاسة في سلسلة أطول. فالبلدة تقع في منطقة تشكّل عقدة ثلاثية بين لبنان وسوريا والجولان المحتل، وعلى تخوم جبل الشيخ، الذي يُعدّ واحدًا من أهم المرتفعات الاستراتيجية في المشرق.
من يسيطر على هذه المنطقة يملك أفضلية إشراف عسكري وأمني على:
• جزء من حوران وجنوب سوريا؛
• مداخل البقاع اللبناني وجنوب البقاع الغربي؛
• بعض محاور الجولان المحتل.
لذلك، لا يمكن فصل الاشتباكات في «بيت جِن» والتوغلات في درعا وغيرها عن الترتيبات الأوسع المتعلقة بمستقبل الجنوب السوري، وبمحاولات إسرائيل المتكرّرة لتأمين «حزام آمن» على حدودها الشمالية، سواء داخل الأراضي السورية أو اللبنانية.
لا تكتفي إسرائيل باعتداءاتها شبه اليومية على الأراضي السورية، ولا بانتهاكاتها اليومية للسيادة اللبنانية، بل تستغلّ اختلال موازين القوى، وضعف الموقف العربي والإسلامي، والدعم الأميركي المفتوح، لإعادة إحياء مشروعها القديم – المتجدّد لتوسيع جغرافيتها على حساب الدول المجاورة، أو على الأقل فرض وقائع ميدانية تجعل أي تسوية مستقبلية أقرب إلى «إملاء» منها إلى اتفاق متكافئ.
ماذا يعني ذلك للبنان؟
الخطر هنا لا يقتصر على بضعة كيلومترات مربّعة في الجنوب اللبناني أو على تلال جبل الشيخ السورية، بل يطال أصل وجود لبنان كما تكوّن تاريخيًا: بلد تعدّد طوائف وثقافات، وتعايش نسبي بين مكوّنات مختلفة، وحدود دقيقة بين البحر والجبل والسهل، جعلته نقيضًا لدولة قائمة على توحيد القومية والدين في إطار سياسي واحد، مثل إسرائيل.
أيُّ تغيير جوهري في خرائط الجنوب اللبناني أو في وضع جبل الشيخ والجولان السوري لن يكون تقنيًا أو حدوديًا فقط، بل قد يفتح الباب أمام تحوّلات ديموغرافية وسياسية تضع لبنان أمام تهديد وجودي حقيقي، يطال وحدته الداخلية ومعنى كيانه.
لكن السؤال المطروح: هل تستطيع المقاومة اللبنانية والسورية (إذا استمرت وتطورت) أن تكون «الصخرة في طريق الجبروت الإسرائيلي – الأميركي»، وأن تمنع تحوّل حرب الـ66 يومًا وما تلاها إلى نقطة تحوّل استراتيجية على حساب لبنان وسوريا؟
من الواضح أن إسرائيل تراهن على عاملين اثنين:
- التفوّق العسكري والتكنولوجي والدعم الغربي المفتوح؛
- حالة التشرذم العربي والإسلامي، وعجز الأنظمة عن بلورة موقف موحّد أو استراتيجية ردع شاملة، مكتفية في معظمها بإدارة الأزمات لا مواجهتها.
ما ستكشفه المرحلة المقبلة هو ما إذا كانت هذه الحرب الطويلة ستُسجَّل في التاريخ كـ«انكسار» موضعي لا يرقى إلى مستوى الهزيمة، أم كهزيمة سياسية – استراتيجية ستجعل المنطقة تعيش في ظل توازن قوى مختلّ لعقود طويلة، وتُبقي دولها وشعوبها – بمختلف تلاوينها، الخاضعة والممانعة على السواء – في سبات من الخضوع لمئة سنة قادمة.
