
عندما يموت مبدع يساري، ينقص الأمل أكثر ويعلو منسوب الإحباط في ذهن العالم ومستقبله. برحيل صنع الله إبراهيم، خسرنا الحارس الأخير للكلمة الحرة، والعين التي لم تخشَ مواجهة العتمة.
عندما يموت مبدع يساري، ينقص الأمل أكثر ويعلو منسوب الإحباط في ذهن العالم ومستقبله. برحيل صنع الله إبراهيم، خسرنا الحارس الأخير للكلمة الحرة، والعين التي لم تخشَ مواجهة العتمة.
اقتربا وابتعدا، لكنهما ظلا حتى النهاية توءمًا ملتصقًا. لا يمكن الاقتراب من عوالم أحدهما دون التطرق بالفهم والاستيعاب لتجربة الآخر. إنهما الشاعران الفلسطينيان الكبيران «محمود درويش» و«سميح القاسم».
عمري من عمر جيل ما بعد أوسلو. كنت أعتقد أنّ إنساناً مُحباً يدعى أفلاطون ينتظر موكب الثلاثة عصافير وكنا ننتظرهم معه. لحنٌ طفولي غنائيٌ انسيابي. تعرّفت على زياد الرحباني أولاً عبر هذه الأغنية. رجلٌ منعزلٌ يعيش في غرفة وحده يعتقد أنه عبقري أو أن أحداً يعتقد أنه كذلك.. لا يهم.
لا يُقاس أثر العظماء بالتوصيف والترميز، ولا بتأطير نتاجهم الثقافي تحت عناوين الأيديولوجيات، بل من القراءة المستمرة لأثرهم في صيرورة الشعوب وحركات التحرر والتقدم، ومن باب تلمس دورهم في بناء مداميك الوعي حجراً بعد حجر، وهكذا تصبح أفكار العظماء بذاتها هي البوصلة وهي العنوان المفتوح على أفق الحرية.
كنا نتمشّى، متسكّعات كعادتنا، بعد نهاية يوم دراسى طويل فى الجامعة الأمريكية فى بيروت. فما إن ينتهى اليوم بعد الظهيرة، حتى نهرول باتجاه شارع الحمرا، ونبدأ المشوار بين الموكا أو الأولمبى، ثم سينما، ثم مشى بين المحلات فى ذاك الشارع الصاخب، نراقب الأرواح المتنقلة بانبهار المراهقات القادمات من الخليج لتوّهن.
أعلم أنّ الكثيرين من محبّي وعاشقي "زياد" سيعتبرون أنّ الاكثار من المقولات والتّحليلات الفكريّة، وأنّ الاكثار من الفلسفة والتّفلسف – إن جازت هذه التّعابير كلّها - في ما يخصّ هذا الرّمز الفنّيّ والاجتماعيّ - اللّبنانيّ والمشرقيّ - الكبير... ليسا مناسبَين ربّما لما يُفضّله ويُحبّه الرّجل نفسه من جهة، وليسا مناسبَين في ما يعني المزاج اللّبنانيّ الشّبابيّ العامّ من جهة ثانية.
كثيرون اعتمرتهم الدهشة وانبعثت من دواخلهم تساؤلات لا أول لها ولا آخر، وهم يتابعون البيانات والمواقف الناعية للراحل زياد الرحباني الصادرة عن حزب الله ونوابه ووسائل إعلامه، وإذ تساكنت الدهشة والحيرة في سابقة غير معهودة لدى الحزب كما يتساءل المتسائلون، إلا أن تساؤلاً واحداً تقدم على غيره ومضمونه: كيف ينعي حزب الله فناناً وموسيقياً ونصيراً لعقيدة مناقضة لعقيدته ومغايراً في الدين والمذهب؟
لم يبدأ وعي زياد الرحباني بالعدالة من كتابٍ أو محاضرةٍ أو برنامج سياسي. بدأ من نافذة سيارة. هناك، في صباحٍ ماطر، كان الطفل زياد يتأمل طفلًا آخر يقاربه في العمر، يستعطي على الرصيف تحت المطر. التناقض الصارخ بين المشهدين — دفء السيارة المخصصة لنقله إلى المدرسة وبرودة الإسفلت تحت جسد الطفل الآخر — أيقظ سؤالًا مبكرًا عن مصائر البشر: لماذا هو هناك وأنا هنا؟ ومن يرسم هذه الحدود التي تفصل بين مصائر الأطفال قبل أن يختاروا حياتهم بأنفسهم؟
نحبّ زياد لأنه يذكرنا بإنكساراتنا لا بإنتصارتنا- هذا إن وجدت – ولا سيما عند جيلنا، جيل الثمانينيات الذي وُلدَ في خضمّ انهيار النموذج السوفياتي. نرى فيه تماثلاً مع حالتنا كأفراد مسحوقين في نظام وضع كل قيوده لأجل خنقنا. نحبُّ زياد الرحباني لأنه يُذكرنا بذواتنا المسروقة ومجتمعنا الغارق في الاستهلاك حتى الثمالة.. لهذا كله، تحب الناس زياد الرحباني.