لم يكن انحسار الحروب في أفغانستان والعراق وسوريا نهايةً لمرحلة من مراحل "الجهاد العالمي"، بقدر ما كان بدايةً لأكثر فصولها التباسًا وغموضًا. فبينما خمدت أصوات البنادق وسقطت مشاريع دول الخلافة، بقيت ظلال المقاتلين عالقة على خرائط مدمَّرة وجبهات فقدت معناها. آلاف المقاتلين خاضوا معارك تحت رايات دينية يجدون أنفسهم اليوم في فراغ عميق؛ عدوّهم اختفى، والراية التي منحتهم هويةً ودورًا تلاشت، تاركةً وراءها جيلًا يعيش على هامش العالم، ممزّقًا بين ذاكرة الحرب واستحالة العودة إلى الحياة المدنية.
تعكس دبلوماسية الصدمات التى أطلقها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بشكل أساسى سياسة الأحادية الحادة التى يتبعها ويكرر التأكيد عليها، على حساب الاستراتيجية الأمريكية التقليدية: الاستراتيجية التى شهدت دائما صعوداً وهبوطاً، سواء مع الحزب الجمهورى أو الحزب الديموقراطى، فى الإدارات السابقة، والتى تؤكد على التعاون المتعدد الأطراف فى الإطارين الغربى والأطلسى كسمة أساسية ناظمة لتلك العلاقات.
في الوقت الذي انقسم فيه العالم خلال القرن العشرين بين معسكرين متصارعين؛ رأسمالي يسير نحو اقتصاد السوق، واشتراكي يسعى لبناء دولة مركزية قائمة على المساواة والتخطيط والعدالة الاجتماعية. لم يتوقع أحد أن تصبح الأنظمة المُصنفة يسارية، وبرغم خطابها الأنتي رأسمالي، أحد أهم مصادر الكفاءات التي اعتمد عليها النظام الرأسمالي العالمي.
لئن كان الاستشراق الكلاسيكي قد قدّم الشرق بوصفه فضاءً للغرابة والدين والانفعال والتخلّف السياسي، فإنّ “الاستشراق الصحي” يقدّمه بوصفه خزانًا للأمراض، وبيئةً للخطر البيولوجي، ومصدرًا للتهديد الصحي العالمي.. وهكذا يتحوّل الجسد الشرقي إلى “جسد مُراقَب” قبل أن يكون جسدًا مريضًا.
هذه المقاربة تكشف أنّ السؤال لم يعد:
هل نحن نعيش صدام حضارات؟
بل: هل نحن ضحايا حروب سرديات تديرها مراكز السلطة الصحية والعلمية والإعلامية في الغرب؟
أولًا؛ من الاستشراق الثقافي إلى الاستشراق الصحي
لم يعد الخطاب الغربي يكتفي بإعادة تعريف الشرق من خلال الدين أو السياسة أو التاريخ، بل صار يعيد تعريفه عبر الجسد، وبالتحديد عبر: الأمراض، نمط الصحة العامة، جودة الأنظمة الطبية، سلوك المجتمعات في مواجهة الأوبئة، نسب الفقر والتلوث والتخلّف الصحي.
هذا التحوّل لم يأتِ صدفة.
مع العولمة، أصبح الجسد نفسه ساحة صراع.
ومع صعود شركات الدواء العملاقة، تحوّل المرض إلى صناعة – سوق – رأس مال – نفوذ – وأداة سياسية.
يتضمن “الاستشراق الصحي” ثلاثة عناصر أساسية:
1-إنتاج صورة نمطية للجسد الشرقي بوصفه هشًّا، قابلاً للمرض، يحتاج دائمًا إلى “إنقاذ” غربي.
2-تسويق التفوق الطبي الغربي كجزء من التفوق الحضاري.
3-استخدام الخطاب الصحي كسلاح ناعم لفرض سياسات اقتصادية وثقافية.
هكذا، يصبح الطبّ امتدادًا للسلطة، كما فهم ميشيل فوكو مفهوم السلطة الحيوية (Biopower) التي تتحكم في الحياة والموت عبر العلم والدواء والمعايير الصحية.
ثانيًا؛ صناعة المرض حين يصبح الدواء جزءًا من المشكلة
لقد كشفت دراسات عديدة من بينها أعمال Marcia Angell، وكتاب Empire of Pain، وتحقيقات Peter Doshi في The BMJ عن حجم التلاعب البنيوي الذي تمارسه شركات الدواء الكبرى في:
-تصميم التجارب السريرية
-نشر البيانات
-تضخيم فوائد الدواء
-إخفاء مضار الدواء
-تصنيع “أمراض” لأهداف تجارية
-تحويل الوقاية إلى سوق، والخوف إلى اقتصاد.
إنّ صناعة المرض (Disease Mongering) ليست مجرّد نظرية مؤامرة، بل واقع موثّق تؤكده فضائح عالميّة، مثل:
-فضيحة الـ OxyContin والمواد الأفيونية
-فضائح اللقاحات المحجوبة المعلومات
-فضائح التلاعب بنتائج التجارب لصالح شركات الأدوية.
وهنا تبرز المفارقة:
الغرب الذي يصوّر الشرق كمصدر للمرض، هو نفسه الذي يصنع أسواق الأمراض عبر الإعلام والبحث الطبي الموجَّه، بسبب عقيدته العنصرية والعرقية التي لم تنفصل إلى يومنا هذا عن التجارب السريرية الرخيصة لاستهداف المسنين في أوروبا وفقًا لنظرية “المليار الذهبي” والتحكّم السكاني، أو عبر اعتبار القارّة الإفريقية حقل تجارب للعلاج واختبارات شركات الأدوية الغربية، بوصف الأفارقة “جرثومة بشرية”، وبأنّ الإنسان الأبيض يقوم بـ“تنظيف” القارّة وتطهيرها.
وهذا ادعاء غربي لتبرير سياسات صحية غير أخلاقية وغير قانونية بحجة “تحضير” الشعوب ومعالجتها، مثل:
-تجارب السيفِلِس
-اختبار البنسلين
-برامج المسوحات النسائية التي أجرتها دول استعمارية (بريطانيا وفرنسا) للنساء بوصفهن “مصدر نقل المرض للجنود”. ممارسات عنصرية صُوّرت من خلالها المرأة الإفريقية كمصدر تهديد جنسي للرجل الأبيض!
ثالثًا؛ الطب بوصفه سردية لا علمًا فقط
لقد تحوّل الطب من خلال سرديات معينة إلى:
-خطاب ثقافي
-صورة سياسية
-تسويق اقتصادي
-معيار حضاري
-وسيلة لفرض الهيمنة
لم يعد المرض مجرد حدث بيولوجي، بل قصة تُروى:
-من يحدّد “الخطر العالمي”؟
-من يقرّر “الوباء”؟
-من يمنح نفسه سلطة إغلاق العالم أو فتحه؟
-من يتحكّم في تعريف “الصحة”؟
-من يملك حقّ بثّ الرعب عبر الإعلام؟
هذه الأسئلة ليست علمية فحسب بل سردية في جوهرها.
فالمرض يُعرَّف بقدر ما يُسرد.
رابعًا؛ هل هو صدام حضارات أم حرب سرديات؟
عندما نعيد قراءة المشهد الصحي العالمي في ضوء الجوائح والفضائح الدوائية، نجد أنّ السؤال الجوهري ليس ما إذا كان الشرق والغرب في صدام حضاري، بل:
من يملك سردية المرض؟
ومن يملك حق توصيف:
من هو “المريض”؟
من هو “الناقل للعدوى”؟
من هو “المسؤول”؟
من هو “الجاهل”؟
من هو “الضحية”؟
صدام الحضارات يفترض مواجهة عبر القيم والثقافات.
أما اليوم، فالمواجهة تحدث عبر:
-البيانات
-نشرات منظمة الصحة العالمية
-الصحافة العلمية
-الشركات الدوائية
-الحملات الصحية الموجَّهة
-الإعلام المموَّل
إنها حرب روايات لا تنتهي:
الغرب يروي قصة عن “الشرق المريض”،
والشرق يواجه اتهامات لا يستطيع الرد عليها،
والرواية الأقوى إعلاميًا تصبح هي “الحقيقة”.
وهكذا تتأسس حروب السرديات بوصفها البعد الجديد للصراع بين الشعوب والحضارات.
خامسًا؛ السردية الصحية كأداة استعمار ناعم
عندما تُصنَّف دولة بأنها:
“بؤرة وباء”
“منطقة خطر صحي”
“مجتمع غير ملتزم بالإرشادات”
فإنّ الغرب يمارس عليها:
-تقييد السفر
-إملاء السياسات الصحية
-فرض قيود اقتصادية
-التدخل في أنظمة المراقبة
-الإشراف على اللقاحات والدواء.
هكذا يتحوّل الطب إلى استعمار بلا جيوش، والمختبر إلى مركز سيادة، والدواء إلى أداة نفوذ سياسي.
سادسًا؛ لماذا خسر الشرق سرديته الصحية؟
لأنّه:
-لا يملك منصات بحث قوية مستقلة عن تمويل الغرب.
-لا يملك صناعة دواء عالمية تنافس.
-لا يملك إعلامًا علميًا مؤثرًا.
-لا يملك سردية موحّدة عن تاريخه الصحي.
-لا يواجه الاستشراق الصحي بخطاب معرفي صلب.
ولهذا، تصبح رواية الغرب عن “الجسد الشرقي” مقبولة عالميًا، حتى لو كانت منحازة.
سابعًا؛ نحو سردية صحية بديلة
لكي لا يبقى الشرق مجرد “جسد تحت المراقبة”، يحتاج إلى:
-مراكز تفكير صحية مستقلة
-خطاب علمي غير تابع للشركات
-نقد منهجي للاستشراق الطبي
-قوة بحثية ذاتية
-مشروع دوائي مستقل
-إعلام علمي موضوعي وصلب.
ثامنًا؛ الرسالة إنسانية أولًا
ما نعيشه ليس حرب حضارات بل حربًا على الجسد، وعلى الحقيقة، وفقًا لخيال غربيّ مضخَّم يغالي في جعل الآخر ساحةَ تجارب بشرية، ليبقى “المنقذ العالمي” وذات الحضارة الوحيدة، عبر هندسة بشرية تُخضع الوعي لبرمجة خوارزمية تُعدّ بمثابة “وزير إعلام غير مرئي”، وقد تُصنَّف آراؤك “غير مرئية” من دون أن تدري.
وبينما تحتكر السلطةُ القصة والأداة، نقابلها بسردية شرقية دفاعية وتبريرية وأيديولوجية لا ترتقي إلى مستوى التحديات والاستهدافات في الحروب البيولوجية التي يُراد من خلالها صناعة المرض وتسويقه، عبر نظم سلطوية استهلاكية وشبكات اقتصادية–تجارية تحقق أرباحًا خيالية نتيجة التحكّم بالمرض والمريض، مستثمرةً في وجع الإنسان وصحته، ومتغذّية على بيعه وهمَ الشفاء والتحكّم بأمنه الصحي، بدل أن تكون رسالة إنسانية.
في الخلاصة؛ التحرّر من السرديات الصحية لا يقلّ أهمية عن التحرر السياسي.
إنّ ما نعيشه اليوم ليس صدامًا بين الشرق والغرب بمعناه القديم، بل صدامًا بين سردية تصنعها السلطة وسردية يريدها المجتمع؛
وبين جسد يُراقَب من الخارج، وجسد يحاول استعادة حقّه في التعريف بنفسه؛
وبين علم يُستخدم للهيمنة، وعلم يجب أن يُعاد تحريره من الأسواق كي لا يتحوّل الجسد والصحة إلى سلعة تجارية خاضعة للمعيار الربحي ومضاربات الشركات الدوائية.
وهكذا يظهر أنّ السؤال الحقيقي ليس:
هل نعيش صدام حضارات؟
بل: من يملك رواية المرض؟ ومن يملك رواية الصحة؟
فعندما نمتلك القدرة على صياغة السردية الصحية، نكون قد استعدنا جزءًا من سيادتنا الحضارية.
ستحلّ، بعد نحو أسبوعين، الذكرى الأولى لسقوط سلطة بشار الأسد في سوريا وتولّي سلطة جديدة مصير البلاد. وبالطبع ستشكّل هذه المناسبة فرصةً لمراجعة حصيلة الإنجازات التي تمّت، كما النواقص والإخفاقات، من قبل السوريين أنفسهم قبل كلّ شيء، مواطنين وسلطة، ومن قبل الخارج.
لم يغب مخطط التهجير القسري لسكان قطاع غزة عن الأجندة السياسية للحكومة الإسرائيلية بل ما زال حاضرًا بقوة في التفكير السياسي الإسرائيلي، برغم الإعلان عن اتفاق شرم الشيخ ضمن ما يُعرف بـ"خطة دونالد ترمب".
قارب اتفاق وقف الأعمال العدائية بين "إسرائيل" ولبنان إنهاء عامه الأول، وللمناسبة توجّهت المنسّقة الخاصة للأمم المتحدة إلى لبنان جينين هينيس بلاسخارت إلى نيويورك وقدّمت إلى مجلس الأمن الدولي إحاطتها حول تنفيذ الرقم 1701 مدى العام المنصرم. وكان لافتاً للانتباه في تقرير بلاسخارت إشادتها بالتقدم الذي أحرزته القوات المسلحة اللبنانية في معالجة مسألة السلاح خارج سلطة الدولة، "ولا سيما في منطقة جنوب نهر الليطاني" وإشارتها "إلى أن وجود الجيش الإسرائيلي شمال الخط الأزرق والنشاط العسكري الإسرائيلي المتكرّر في جميع أنحاء البلاد "يُشكّل انتهاكًا لسيادة لبنان وسلامة أراضيه".
أشرنا في ما سبق إلى أنّ وعيَ كثيرٍ من المسلمين في منطقتنا وحول العالم أجمع- بل لا-وعيهم بالأخصّ- لم يزل يبحث في مواضع كثيرة عن "الخليفة" الموعود (أو "العائد")، لا سيّما بعد سقوط السّلطنة العثمانيّة مطلع القرن الماضي. الوقائع المتراكمة، قد تدفع نحو طرح السّؤال الآتي: هل نجح الاستعمار الأنغلو-ساكسونيّ في بلادنا- أي، البريطانيّ-الأميركيّ تحديداً- في استغلال وضع "عقلنا العربيّ-الاسلاميّ" المُزري واقعاً، إلى حدِّ تمكُّنِه من تبؤ موقع "الخلافة الفعليّة" للمُسلمين حول العالم إلى يومنا هذا؟
شكّلت هجرة يهود الشتات إلى فلسطين، في إطار سياسة بريطانيا الاستعماريّة الاستيطانيّة، الركن الأساسي لإقامة الكيان الصهيوني، ثمّ توسّعه وبناء قواه الشاملة بقيادةٍ أميركيّة. تمكّن هذا الكيان، بدفعٍ من النظام الرأسمالي الغربي، من استقطاب نصف يهود العالم تقريباً إلى فلسطين. لكن "الوطن القومي اليهودي" لم ينجح في صهر الهجرات اليهوديّة، من إثنيّات وثقافات متعدّدة ومختلفة، في بنية اجتماعية واحدة حقيقيّة، وهو ما أشار إليه الرئيس السابق لكيان الاحتلال رؤوفين ريفلين بـ"صراع القبائل الأربع" في الكيان. في هذا الجزء الخامس والأخير من هذه السلسلة أتناول قضية الهجرة اليهودية إلى الكيان والهجرة المضادة و"شياطين العالم" في العيون الأميركية والأوروبية.