“فورين بوليسي”: الهند في الشرق الأوسط.. من عدم الإنحياز إلى المغامرة!

 نشرت مجلة "فورين بوليسى" مقالا حول سياسة الهند الخارجية تجاه منطقة الشرق الأوسط، إذ تحاول نيودلهى إحداث توازن دبلوماسى بين ما يعرف باسم الشرق الأوسط «الجديد» وبين دعمها «التقليدى» للشرق الأوسط «القديم». سياستها تجاه الشرق الأوسط «القديم» ستكون من خلال التحول بعيدا عن فكرة عدم الانحياز خاصة بعد هجوم حماس، أما «الجديد» فبالارتباط بشكل متزايد بالنظام الأمنى للولايات المتحدة.

بداية، عرفت سياسة الهند على مدى العقد الماضى فى الشرق الأوسط، تحت حكم رئيس الوزراء الحالى ناريندرا مودى، بأنها ناجحة ومحيرة. إذ يتمتع حزب مودى الحاكم ــ بهاراتيا جاناتا ــ بنزعة قومية هندوسية يمينية، وفى نفس الوقت تتواصل الهند مع منطقة الخليج العربى، ومع العالم العربى عامة، مما يجعلها تنتهج سياسة ناجحة بشكل واضح.
لكن أدت الحرب بين إسرائيل وحماس منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى تسليط الضوء على التوازن الدبلوماسى للهند بين الشرق الأوسط «الجديد» وبين دعمها التقليدى للشرق الأوسط «القديم». ستتحدد دبلوماسيتها تجاه الشرق الأوسط «الجديد» من خلال قرب نيودلهى بشكل متزايد من النظام الأمنى للولايات المتحدة، أما الدبلوماسية تجاه «القديم» فمن خلال تحول واضح بعيدا عن فكرة عدم الانحياز. نبرز هذا التوازن بشكل أوضح فى السطور الآتية:

***

بالنسبة للشرق الأوسط «القديم»، كانت الهند داعما ثابتا للقضية الفلسطينية منذ استقلالها، حيث تعاملت مع الأزمة من خلال الدعم المعنوى للشعب الفلسطينى باعتباره يناضل ضد الاستعمار. وفى عام 1975، أصبحت الهند أول دولة غير عربية تمنح الوضع الدبلوماسى الكامل لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان يزور رئيسها آنذاك ــ ياسر عرفات ــ نيودلهى بانتظام.
لكن بعد عقود من الميل نحو العالم العربى، وتحديدا فى عام 1992، قررت نيودلهى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، غير أن تل أبيب كانت تبنى بهدوء أساسا قويا لهذا الاحتمال على مدى العقود السابقة، حيث زودت الهند بالمساعدات العسكرية فى حربين حاسمتين خاضتهما ضد باكستان فى عام 1971، قبل التطبيع، ثم مرة أخرى فى عام 1999، بعد إقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة.
أجبر هذا التطبيع الهند على إجراء عملية توازن بين أقطاب القوة الثلاثة فى المنطقة: العالم العربى، إسرائيل، وإيران. وتظل هذه البلدان الثلاثة مهمة بالنسبة للمصالح الهندية. إذ تحتفظ بعلاقات اقتصادية مع العالم العربى فى شكل تحويلات مالية من رعاياها هناك، ومع إسرائيل بعلاقات فى مجال التكنولوجيا والدفاع؛ أما إيران فيساعد موقعها الاستراتيجى على تعزيز المصالح الهندية فى كل من آسيا الوسطى وأفغانستان. ومع النمو السريع الذى يشهده اقتصاد الهند، والذى يضع نصب عينيه أن يصبح ثالث أكبر اقتصاد فى العالم بحلول عام 2030، فإن رغبتها فى النفوذ تنمو كذلك. والشرق الأوسط يمثل المكان الذى يخضع فيه قدر كبير من هذا النفوذ للاختبار.

تعمل هذه الطرق الاقتصادية السريعة، والأطراف المصغرة، والجغرافيا السياسية على تحويل السياسة الخارجية الهندية من سياسة كانت دائما تتجنب المخاطرة إلى سياسة أكثر استعدادا للمغامرة. واليوم، أصبحت الهند أقرب إلى الولايات المتحدة أكثر من أى وقت مضى فى تاريخها المستقل

لكن تورطت نيودلهى فى الانقسامات الإقليمية فى الشرق الأوسط. ففى عامى 2012 و2021، تم استهداف الدبلوماسيين الإسرائيليين فى تفجيرات فى العاصمة الهندية، وفى كلا العامين، ألمحت الهند إلى تورط إيرانى واضطرت إلى إدارة الوضع بدقة خلف أبواب مغلقة، مما أدى فعليا إلى إخبار إيران وإسرائيل بعدم السماح لصراعهما بالانتشار على الأراضى الهندية. أما فى أكتوبر/تشرين الأول الماضى، فأعلنت الدوحة حكما بالإعدام على ثمانية مسئولين سابقين فى البحرية الهندية كانوا يعملون لدى شركة خاصة تشارك فى تحديث الدفاع فى قطر. ووجهت إليهم، بحسب التقارير، تهمة التجسس لصالح إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، استجابت نيودلهى بشكل قانونى، واستأنفت حكم المحكمة القطرية بينما يواصل البلدان الحفاظ على سرية الحكم القضائى.
وفى شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضى، أدان مودى عملية حماس ووصفها بأنها «أعمال إرهابية» وذلك قبل أن يستضيف جناح الشباب فى الجماعة الإسلامية بولاية كيرالا الهندية فى الجنوب زعيم حماس، خالد مشعل، فى مقابلة افتراضية. تعكس هذه المقابلة استمرار وجود مجموعة واسعة تتبنى وجهات النظر الداعمة لفلسطين.
منذ بداية الحرب بين إسرائيل وحماس، تحدث مودى مع ستة زعماء إقليميين لتوضيح موقف الهند، منهم رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، والرئيس الإيرانى إبراهيم رئيسى. وقد حاولت حكومة مودى السير على خط رفيع بين أهداف إسرائيل للقضاء على حماس، والأزمة الإنسانية الفلسطينية. إذ تعد مكافحة الإرهاب أداة مهمة لدبلوماسية مودى الدولية، وذلك نتيجة لجهود الهند عزل جارتها باكستان دوليا بسبب رعايتها لأعمال عدائية.

***

بالنسبة للشرق الأوسط «الجديد»، فقد أدت آليات مثل الحوار الأمنى الرباعى (كواد ـ Quad)، الذى يضم الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، إلى التقريب بين واشنطن ونيودلهى أكثر من أى وقت مضى، حيث يتطلع كل منهما إلى العمل معا لمواجهة الصين. ولم يكن قبول الهند للولايات المتحدة متعلقا بالمسرح الآسيوى فحسب، بل وأيضا بالشرق الأوسط، مع تبلور تدابير مثل الاتفاق المصغر I2U2 بين الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الممر الاقتصادى بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEEC). وبعيدا عن الاتفاق المصغر I2U2، يعد الإعلان عن الممر الاقتصادى الجديد أحدث علامة على توافق نيودلهى مع الأهداف الجيواقتصادية الأمريكية. وتتلخص الفكرة، التى تعارض مبادرة الحزام والطريق الصينية، فى ربط الشرق الأوسط بأوروبا والهند من خلال ممر تجارى يمكن أن ينافس مركزية قناة السويس.
لكن دولا مثل السعودية والإمارات، وهى دول مركزية فى الممر الاقتصادى الجديد، هى أيضا أعضاء فى مبادرة الحزام والطريق ولديها مصلحة فى تطوير شراكات وثيقة مع بكين. وقد وصفت وسائل الدعاية التابعة للحزب الشيوعى الصينى بالفعل الممر بأنه مجرد «قلعة فى الهواء». وقام الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة والهند على حد سواء بتسويق الممر باعتباره الطريق السريع التالى بين القارات للاتصال الرقمى والاقتصادى. على كل حال، لا يوجد مخطط معروض حاليا حول كيفية عمله.
باختصار، تعمل هذه الطرق الاقتصادية السريعة، والأطراف المصغرة، والجغرافيا السياسية على تحويل السياسة الخارجية الهندية من سياسة كانت دائما تتجنب المخاطرة إلى سياسة أكثر استعدادا للمغامرة. واليوم، أصبحت الهند أقرب إلى الولايات المتحدة أكثر من أى وقت مضى فى تاريخها المستقل.
ومع ذلك، فى الوقت نفسه، تخلت نيودلهى عن الوصول للتوافق مع المتطلبات الأمريكية بشأن البرنامج النووى الإيرانى، فجميع واردات النفط تقريبا للهند من إيران وتقدم صفقات جيدة لها. لذا يعد انسحاب إدارة ترامب من الصفقة تغذية لتيار خفى قوى فى الدوائر السياسية الهندية أصبح لا يثق فى واشنطن.

إقرأ على موقع 180  "معركة أوكرانيا".. هلَّ زمن التطرف!

***

كلمة أخيرة، كان أحد أطول نجاحات الهند فى الشرق الأوسط هو تبنيها سياسة عدم الانحياز. إلا أن نظرتها نحو الشرق الأوسط تتطلع إلى ما هو أبعد من المركزية التقليدية (التركيز على الطاقة والهجرة). اليوم، تريد أن تكون شريكا فى خطط النمو فى المنطقة فى مرحلة ما بعد النفط. إن الدبلوماسيين الهنود فى المنطقة، الذين كانوا فى السابق مهتمين بإدارة المصالح التقليدية كالهجرة والطاقة، أصبحوا الآن مكلفين بتأمين الاستثمارات الأجنبية المباشرة من صناديق الثروة السيادية العربية الكبيرة. وكانت حكومة مودى مقبولة للملوك العرب بسبب عدم اضطرارهم إلى الدخول فى متاهة من السياسات الائتلافية فى الهند بحثا عن اتخاذ قرار سريع. بالإضافة لذلك، اقتنعت الهند بالبنى الأمنية المستقبلية من خلال عضويتها فى I2U2 وممر اقتصادى فى الشرق الأوسط، وهذا موقف جرىء وجدير بالثناء لاقتصاد سيتطلب مدخلات عالمية كبيرة لتحقيق أهدافه الاقتصادية المستقبلية الصعبة. وهنا، على الشرق الأوسط أن يستوعب أن تكون الهند سوقا رئيسية للطاقة لتنويع صادراتها وتعويض النفوذ الصينى على السلع الأساسية مثل النفط والغاز.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  رسالة الكارثة الزلزالية.. حتمية تواصل الأسد وأردوغان