بداية، لا بد من النظر بشكل سريع إلى الظروف الدولية القائمة في لحظة انفجار “طوفان الأقصى”. أميركا كدولة في حالة انكفاء وتراجع، لكن من الخطأ التسرع بالقول إننا على بعد خطوات من انهيار الإمبراطورية الأميركية ومن زوال الأحادية في النظام الدولي. فما زالت الولايات المتحدة تملك المركز المالي الأول في العالم، وهي القوة العسكرية والاقتصادية المهيمنة حتى يومنا هذا. بالمقابل، أوروبا شاخت وهرمت، والقوى الصاعدة التي يُعوَّل عليها في وجه الهيمنة الأميركية (روسيا، الصين وغيرها) لم تثبت حتى اليوم قدرتها سوى على مواجهة محدودة لهذه الهيمنة. ونتائج الحرب الحالية في أوكرانيا سيكون لها تأثير كبير على اتجاهات السياسات العالمية.
كما لا بد من الأخذ بالاعتبار بعض المؤشرات، منها التوسع في مجموعة “البريكس”، وفي “منظمة شنغهاي”، ودخول الاتحاد الأفريقي في مجموعة العشرين كعضو دائم مقابل العضوية الدائمة للاتحاد الأوروبي، وعودة مجموعة الـ 77 بقوة إلى تبني مواقف الجنوب والدفاع عنها. كذلك الصعود القوي للصين اقتصادياً وسياسياً، والرغبة الروسية الواضحة في العودة للدور الذي كان يقوم به الاتحاد السوفييتي. كل ذلك يؤشر إلى إمكانية قيام نظام عالمي جديد فيه مكان لدول أخرى غير الولايات المتحدة لتحقيق موقع قدم استراتيجي في تقرير النظام الدولي المقبل، ورفض النموذج الكوني المفروض على العالم، وإقامة سياسة دولية جديدة بعيدة من هيمنة المركزية الغربية وعن وهم “نهاية التاريخ” والتأسيس لتعددية قطبية فاعلة. وهو ما يعطي أملاً للشعوب الرافضة للهيمنة الغربية في إطار من التعددية القطبية وتعدد الحداثات ونسبية القيم لا كونيتها.
***
في منطقتنا، هناك واقعان حاكمان: الأول، موقعها الاستراتيجي الهام عند تقاطع قارات غنية بالموارد الطبيعية والطاقات البشرية. والثاني، وجود الكيان الصهيوني في قلبها. وهكذا كان لا بد من أن تكون في قلب اهتمامات الجيوبوليتيك العالمية، وأن تتعرض باستمرار لهزّات وحروب وأزمات، سببها المباشر سعي القوى الاستعمارية للسيطرة عليها، سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، بوسائل عدة أبرزها خلق الفتن المستمرة، حالة اللااستقرار وشيطنة كل من يسعى لمواجهتها، محاولة إماتة القضية الفلسطينية مقابل تقديم سردية مزيفة حول ديموقراطية دولة إسرائيل وأهمية إقامة السلام معها!
لكن ثبت بشكل لا لبس فيه فشل مشاريع السلام مع العدو الصهيوني الذي يستغل اتفاقيات السلام هذه للإمعان في سياساته التوسعية والعنصرية الهادفة للقضاء على الشعب الفلسطيني، أو ترحيله لتحقيق مشروعه في دولة يهودية صافية.
لقد فتحت عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول الباب لإعادة رسم المنطقة من جديد بصورة تُحدّدها شعوب المنطقة وليس القوى الاستعمارية، تكون فيها القضية الفلسطينية هي المحور، لأن لا استقرار ولا نظام إقليمياً جديداً طالما استمر الكيان الصهيوني مزروعاً في قلب المنطقة، وطالما أن الصهيونية حاضرة بكل ثقلها وبكل تلاوينها لحماية هذا الكيان
لقد أعاد “طوفان الأقصى” إلى الواجهة القضية الفلسطينية، إقليمياً ودولياً. من هنا، لا بد من الاعتراف بأن المقاومة المسلحة هي الطريق الوحيد للوصول إلى الحق الفلسطيني والعربي وأن التطبيع ما هو إلا وسيلة لفتح الطريق أمام الصهيونة للسيطرة على منطقتنا. وأن لا سبيل سوى للقوة لانتزاع مكانة في النظام العالمي، ولأخذ مصالح شعوب المنطقة بالاعتبار في أي نظام إقليمي أو ترتيبات أمنية تخص المنطقة.
لقد زُرع الكيان الصهيوني في منطقتنا ليكون أداة ووكيلاً إقليمياً. وجاءت أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول لتطرح أسئلة حول قدرة هذا الكيان على لعب هذا الدور الإقليمي في ظل تراجع الولايات المتحدة عن التواجد في منطقة الشرق الأوسط والانكفاء نحو ملفات أخرى في الصين وروسيا. ولا شك أن الكيان الصهوني والصهيونية اليوم هما إزاء أزمة وجودية. وهو ما يفسّر تصرّفها بهذه الوحشية المفرطة التي هي سيف ذو حدّين: من جهة هي مؤلمة جداً للشعب الفلسطيني لكنها ـ أي الوحشية ـ ترتدّ على مرتكبيها بقلب السردية التي عملوا طويلاً على بنائها: أنهم الشعب الحضاري الديموقراطي الحافظ لحقوق الإنسان!
***
من المبكر التنبؤ بما سيستجد من تحولات في النظام الدولي بعد انتهاء الحرب على غزة، وهل سيكون لدى شعوب المنطقة الوعي والقدرة للضغط على أنظمة الحكم فيها للخروج من دائرة التضامن اللفظي مع الشعب الفلسطيني إلى الضغط على إسرائيل وعلى راعيها وحاميها؟
إن صعود الصين من جهة وطموح موسكو بأن تصبح قوة فاعلة في صنع حقبة دولية جديدة من جهة أخرى، يجب أن يُشكّلا فرصة لتوازن دولي يمكن استغلاله والاستفادة منه. على صعيد المنطقة، لموسكو وايران مصلحة في كسر الأحادية القطبية المهيمنة. وهناك فرصة بارزة من خلال التقارب الإيراني السعودي لكسر حدة الإشتباك المذهبي في المنطقة، وصولاً إلى ايجاد قواسم مشتركة بين هاتين الدولتين وبين الصين وروسيا للتعاون في مواجهة المشروع الأميركي.
***
تشي معظم المؤشرات حتى تاريخنا هذا بخروج المقاومة الفلسطينية منتصرة برغم الثمن الباهظ الذي تؤدّيه غزة ويدفعه المدنيون الفلسطينيون. ولهذا تأثير كبير على البؤر المضطربة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وعلى القضية الفلسطينية. ربما تضطر الولايات المتحدة الأميركية للقبول بتسويات في هذه المناطق بشكل عاجل وليس تأجيلها إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في خريف العام 2024. وهذا سيُريح هذه البؤر، إقتصادياً وسياسياً، وسيصبح لديها قدرة أكبر على القيام بتشبيكات في ما بينها وبالتوجه شرقاً وتعزيز طريق الحرير الذي يمرّ بايران والعراق وسوريا ولبنان، في مواجهة المشروع الأميركي الممتد من الهند إلى أوروبا مروراً بدول الخليج وحيفا. إنما لا بد من الاعتراف أن هذا المحور ينقصه التضامن والرؤية المشتركة. فهناك تباينات سياسية كبيرة بين دول المنطقة وتضارب مصالح اقتصادية. وأهم هذه التباينات هو الموقف من القضية الفلسطينية ومن الكيان الصهيوني. ففي حين يقيم بعضها علاقات سلام وتطبيع مع اسرائيل (تركيا، مصر، إقليم الأكراد في العراق، الأردن، ودول الخليج ما عدا الكويت)، فإن البعض الآخر على عداء كبير معها ويتبنّى المقاومة المسلحة ضدها (ايران، لبنان، سوريا، العراق وشمال اليمن).
من هنا، ثمة صعوبة كبيرة في التقاط هذه اللحظة الإقليمية والدولية المصيرية لتوحيد النظام الإقليمي أو لقيام مشروع سياسي موحّد لدول المنطقة، حيث أن الخلافات القائمة حالياً أثرت على مشاريع التنمية وجعلت شعوبها رهن مشاريع يضعها الاستعمار المتصهين بدءاً من الشرق الأوسط الجديد وصفقة القرن وصولاً إلى طريق الهند ـ حيفا. هل يُمكن التعويل على وعي شعوب المنطقة في هذا المجال؟ فإقامة نظام إقليمي جديد يجب أن يبنى على أسس عديدة منها التركيز على الهوية الذاتية لشعوب المنطقة، والبحث عن المشتركات ومواجهة تغوّل العولمة الاستعمارية التي تهدف لتذويب الخصوصيات الحضارية ضمن حضارة واحدة جوفاء من القيم الإنسانية تسيطر عليها الولايات المتحدة الأميركية. معنى ذلك وجود مصلحة في اتحاد شعوب المنطقة ضد الإملاءات الأميركية مراعاةً لمصالح اسرائيل، وأيضاً لا بد التأكيد على أهمية وعي الشعوب لحقوقها في السيادة على ثرواتها ومصالحها، وضرورة التخلص من التبعية..
ولعل البداية تكون بمقاربة الاختلالات التي تعتري البنيان الداخلي للدول داخل الإقليم، والتي تمنع التلاحم الداخلي، والاتفاق على كيفية إدارة الحكم في الدولة وعلى اتجاهات التحالفات الخارجية والنظرة إلى اسرائيل وكيفية التعامل معها. ومن الضروري تسخيف ونبذ كل محاولات اللعب على التناقضات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية والوقوف بوجه مشاريع العولمة المتصهينة، من خلال التحالف مع القوى الصاعدة العاملة من أجل تعددية قطبية، وبالتالي تشجيع تعدد التحالفات الدولية وتطوير القدرات العسكرية والأمنية ودعم الحركات المقاومة للمشروع الصهيوني. على الشعوب أن تدفع دولها لتذليل الخلافات حفاظاً على المصالح المشتركة، وايجاد صيغ قابلة لضمّ مختلف القوميات والطوائف والمذاهب، على أسس ديموقراطية حقيقية، بما يؤدي إلى رفع الغبن وتعزيز المشاركة فلا تكون فيها العلمانية رافضة للمعتقد الديني، ولا يكون الدين عدواً للعلمانية.
***
لن يكتمل أي تكامل إقليمي إن لم يكن اقتصادياً بالإضافة إلى الجانب السياسي. من هنا، تتبدى أهمية العمل على تبادل الخبرات والطاقات والثروات، ووضع خطط اقتصادية متكاملة، والاستفادة من الموقع الجيو-استراتيجي للمنطقة وتعزيز وتطوير العلوم والتكنولوجيا لرفع المستوى الثقافي والتعليمي والعلمي للقضاء على كل أسباب التخلف التي تعاني منها بعض هذه المجتمعات.
لقد فتحت عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول الباب لإعادة رسم المنطقة من جديد بصورة تُحدّدها شعوب المنطقة وليس القوى الاستعمارية، تكون فيها القضية الفلسطينية هي المحور، لأن لا استقرار ولا نظام إقليمياً جديداً طالما استمر الكيان الصهيوني مزروعاً في قلب المنطقة، وطالما أن الصهيونية حاضرة بكل ثقلها وبكل تلاوينها لحماية هذا الكيان.
لقد كشفت جرائم الإبادة والتطهير العرقي التي حصلت في غزة عن الوجه الحقيقي للاستعمار الذي يُمكنه ارتكاب أبشع المجازر عند المساس بمصالحه، بدليل دماء أطفال غزة الصارخة؛ الدماء التي تُبشّر بولادة تاريخ فلسطيني وعربي جديد.