بداية، وبكل المقاييس، كان عام 2023 عاما مجنونا. إذ كانت هناك حادثة منطاد التجسس الصينى، ووفاة رئيس مجموعة “فاجنر” الروسية يفجينى بريجوجين بشكل مفاجئ، والحرب بين إسرائيل و”حماس” التى هزّت الشرق الأوسط المهتز بالفعل، واستمرار حرب روسيا ضد أوكرانيا، والصراع المرير فى السودان، والهجوم الذى شنّته أذربيجان على أرمينيا بشأن منطقة ناجورنو كاراباخ المتنازع عليها..
وبالتطلع إلى عام 2024، هناك الكثير من الأحداث فى العالم المتعلقة بالأمن القومى، ثم هناك الانتخابات فى تايوان، الهند، الاتحاد الأوروبى، المكسيك، جنوب أفريقيا، إندونيسيا، ولا ننسى الولايات المتحدة.
فى السطور التالية، يقدم كاتب المقال (روبي جرامر) بعض التوقعات لما يمكن أن يحدث فى عام 2024، قد يتحقق بعضها، وقد لا يتحقق البعض الآخر. ولكن فى كل الأحوال، ينتظرنا مستقبل قريب مخيف!
***
أولاً؛ لنبدأ بالتوقع السهل: نتائج الانتخابات الأمريكية. ماذا سيحدث فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟ نتوقع أنه بعد مباراة العودة بين الرئيس الأمريكى جو بايدن وسلفه دونالد ترامب، سيحقق الأول فوزا بفارق ضئيل لولاية ثانية، مع صراخ الثانى حول «الأصوات المسروقة». ومن ناحية أخرى، نتوقع أن يستعيد الحزب الجمهورى السيطرة على مجلس الشيوخ بفارق مقعدين أو ثلاثة مقاعد، وسوف يكتسب الحزب الديموقراطى سيطرة ضيقة على مجلس النواب بأقل من عشرة مقاعد، مما يمهد الساحة لصداع سياسى معقد وفوضوى.
***
ثانياً؛ فشلت الجهود الأمريكية لاستئناف أى حوار حقيقى مع بيونج يانج، وفى الوقت نفسه يعمل الزعيم الكورى الشمالى، كيم جونج أون، ببطء ولكن بثبات على توسيع قدرات بلاده النووية والصاروخية الباليستية على الرغم من العقوبات الدولية القاسية. كوريا الشمالية أجرت ست تجارب نووية متفجرة بين عامى 2006 و2017، ونتوقع أن يكون عام 2024 هو العام الذى ستحقق فيه التجربة السابعة، مما سيشكل أزمة دبلوماسية كبرى فى شبه الجزيرة الكورية تُذكّرنا بأن عقودا من الضغوط الأمريكية لحمل بيونج يانج على الاستسلام والتخلى عن سعيها للحصول على القنبلة قد باءت جميعها بالفشل.
***
ثالثاً؛ وقعت ستة انقلابات فى غرب أفريقيا فى السنوات الأخيرة نتيجة استسلام الديموقراطيات الهشة لانقلابات العسكر وسط حرب ضد الجماعات الإرهابية الإسلامية التى تكتسب المزيد من الأرض فى جميع أنحاء منطقة الساحل. علّقت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، وتحديدا فرنسا، معظم آمالهم على النيجر باعتبارها أفضل أمل لهم فى الحصول على معقل للديموقراطية والاستقرار للمشاركة فى عمليات مكافحة الإرهاب، إلى أن سقطت النيجر فى مستنقع انقلاب فى تموز/يوليو الماضى. ونتوقع أن السقوط التالى سيكون تشاد، الشريك التالى «آخر أفضل أمل» للغرب فى مكافحة الإرهاب فى المنطقة.
استولى زعيم تشاد، محمد إدريس ديبى، نجل الزعيم التشادى الراحل إدريس ديبى، على السلطة بعد وفاة والده عام 2021 فى ما يشبه الانقلاب. والآن، أصبحت قبضته على السلطة هشة، وليس من الواضح ما إذا كان يستطيع التغلب على احتمالات الهروب من انقلاب آخر فى حزام الانقلابات فى أفريقيا.
***
رابعاً؛ سيتم الإطاحة بالقائد العسكرى السودانى، عبدالفتاح البرهان. الصراع فى السودان اتخذ منعطفا قاتما فى الأسابيع الأخيرة، حتى لو طغت الحرب بين إسرائيل و”حماس” على الاهتمام العالمى. وبمناسبة الحديث عن الانقلابات، نتوقع أن يتم الإطاحة بعبدالفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية والرئيس الفعلى للبلاد، على يد عناصر من جيشه بعد نكسات وهزائم محرجة أمام قوات الدعم السريع المنافسة بزعامة محمد دقلو (حميدتي). وفى الآونة الأخيرة، سقطت مدينة «ود مدنى»، التى كانت ذات يوم معقلا مستقرا نسبيا للسلام والعمليات الإنسانية، بسرعة فى أيدى قوات الدعم السريع فى ضربة قوية للقوات المسلحة السودانية. وبغض النظر عن احتمالات بقاء البرهان فى السلطة، فقد أصبح السودان واحدا من أسوأ الأزمات الإنسانية (والأكثر تجاهلا بشكل مأساوى) فى العالم، ومن غير المرجح أن يتغير هذا فى عام 2024.
***
خامساً؛ الطريق سيكون مسدودا فى أوكرانيا، ويرجع السبب ــ جزئيا ــ إلى الدعم البطىء من الولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء الغربيين. كلنا يعلم أنه لم يكن لدى أوكرانيا ما يكفى من الأسلحة أو المعدات أو الذخيرة لإحداث ثغرة فى الخطوط الدفاعية الروسية المحصنة جيدا فى شرق أوكرانيا خلال هجومها المضاد عام 2023، لكن أيضا القوات الروسية لا تمتلك القدرة أو الروح المعنوية أو التدريب أو البراعة القتالية الفعالة لتحقيق مكاسب كبيرة فى أى هجمات مضادة خاصة بها. لذا، نتوقع أن يبدو عام 2024 مشابها إلى حد كبير لمعارك الحرب العالمية الأولى الدموية فى عامى 1915 و1916، مع قصف المواقع الراسخة بالمدفعية الثقيلة، ومعارك أكثر دموية لا تسفر عن مكاسب إقليمية تذكر، ولن تظهر هزيمة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلا بالقدر الضئيل إلى جانب ارتفاع حصيلة القتلى من الجانبين.
***
سادساً؛ نتوقع أيضا ضخ المزيد من الأموال لأوكرانيا، فمنذ أن شنت روسيا غزوها، ظل المسئولون الغربيون يتصارعون بشأن ما يجب فعله تجاه الأصول التى تبلغ قيمتها 300 مليار دولار من الأوليجاركيين الروس ــ رجال أعمال حققوا ثروات طائلة فى الجمهوريات السوفيتية بعد تفككها خلال حقبة التسعينيات، دعت بعض الدول إلى مصادرة تلك الأموال وإرسالها إلى أوكرانيا، فى حين تشعر دول أخرى بالقلق لأنها سابقة لا مثيل لها فى حماية الأصول السيادية فى نظر القانون الدولى، حتى إذا تعلق الأمر بروسيا. ومن ثم، نتوقع أن يكون عام 2024 هو العام الذى يتم فيه تحقيق انفراجة فى هذا الموضوع الذى استمر لمدة عامين تقريبا، وأن تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون طريقا قانونيا لتحويل كل تلك الأموال المجمدة إلى أوكرانيا، خاصة بعد أن تسببت الأموال الأمريكية المخصصة لأوكرانيا فى معركة سياسية شائكة بالكونجرس، كما تم حظر المزيد من أموال الاتحاد الأوروبى من قبل حليف فلاديمير بوتين فى الاتحاد الأوروبى، وهو رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان.
***
سابعاً؛ لن تتوسع الحرب بين إسرائيل و”حماس” إلى جبهة ثانية كاملة. فأحد أكبر المخاوف فى الحرب الدائرة بين إسرائيل و”حماس” الآن هو أن حليف “حماس” ــ الأفضل تجهيزا والأكثر صلابة فى القتال فى لبنان ــ حزب الله، سوف يغوص بالكامل فى الحرب ضد إسرائيل. إلا أننا نتوقع أنه حتى لو كانت إسرائيل وحزب الله يتبادلان ضربات محدودة على الحدود الشمالية، فإن هذا لن يحدث، ويرجع الفضل فى ذلك جزئيا إلى التأثير الرادع لوجود حاملة الطائرات الأمريكية المستمر فى البحر الأبيض المتوسط، وكل القوة النارية الساحقة التى تأتى معه. الأمر الذى سيجعل حزب الله وداعميه فى إيران يمتنعون عن التعمق فى القتال.
***
ثامناً؛ مناورات أكثر خطورة فى بحر الصين الجنوبى الذى أنفقت الصين عقدا من الزمان فى بناء جزر اصطناعية به، ومطارات حقيقية، الأمر الذى يشكل مصدر رعب للجميع فى المنطقة. أما مضيق تايوان فسيكون على نار هادئة خاصة بعد زيارة رئيسة مجلس النواب آنذاك نانسى بيلوسى إلى تايوان عام 2022، والتى دفعت أو ربما تزامنت مع مجموعة من التدريبات الصينية.
***
تاسعاً؛ بعد غزو روسيا لأوكرانيا فى عام 2022، سارعت فنلندا والسويد إلى تجاهل تاريخ عدم الانحياز والانضمام إلى حلف شمال الأطلسى. وقد رحبت دول الناتو بالأمرين بأذرع مفتوحة، أو على الأقل فعلت معظمها ذلك. انضمت فنلندا، أما السويد فلا، بسبب مماطلة تركيا لمدة 18 شهرا، إذ يتعين على كل دول حلف شمال الأطلسى أن تعطى الضوء الأخضر لانضمام عضو جديد. كما ماطلت المجر، التى يديرها حليف روسيا كما ذكرنا أعلاه، فى انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسى أيضا. بل وربط الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، انضمام السويد بصفقة أمريكية للموافقة على مبيعات طائرات مقاتلة من طراز إف ــ 16 إلى تركيا، وبرغم أن الكونجرس غاضب من رجب طيب أردوغان لكنه يريد أيضا انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسى فى أسرع وقت ممكن. وبناء عليه، نتوقع أن يعمل المفاوضون الأمريكيون والأتراك مع السويد للتغلب على هذا المأزق فى عام 2024، وأن يتوسع الناتو من 31 إلى 32 دولة عضو.
***
عاشراً؛ دعونا نختم بملاحظة سعيدة. لا تزال الملاريا السبب الرئيسى لوفيات الأطفال فى جميع أنحاء العالم، ولكن الإنجازات العلمية الحديثة أدت لأول مرة على الإطلاق إلى اختراع لقاحات الملاريا. هناك الآن لقاحان يتم توزيعهما ببطء فى البلدان المعرضة للإصابة بالأمراض فى أفريقيا. فى عام 2021، مات ما يقدر بنحو 619 ألف شخص بسبب الملاريا فى أفريقيا، كثير منهم من الأطفال. وبرغم أن نقص الإمدادات جعل من الصعب نشر هذه اللقاحات على نطاق واسع فى عامى 2022 و2023، فإننا نتوقع أن يتمكن مجتمع الصحة العالمى من التغلب على هذه الاختناقات فى عام 2024، وتحقيق تقدم حقيقى وملموس ويمكن أن يؤدى إلى تحقيق هدف منظمة الصحة العالمية المتمثل فى القضاء على الملاريا بحلول عام 2030.
(*) بالتزامن مع “الشروق“، النص الأصلي في “فورين أفيرز“