أشباحُ الخطر تُخيّم على الشرق الأوسط

لا تكاد دولة في العالم تخلو من أعراض أزمة اقتصادية عميقة في أسوأ الأحوال أو من تباطؤ في النمو وبوادر كساد اقتصادي في أحسنها. الشرق الأوسط ليس استثناء بل لعله صار الآن يجمع بين تراجع الاقتصادات في أكثر دوله وتدهور السياسة والأمن في بعضها فضلاً عن الهيمنة المرعبة لحالة فريدة من الميل لاستخدام أحط أشكال تدمير العمران والإبادة البشرية.

ليس هنا المكان المناسب ولا المساحة اللائقة للبحث في أزمات العالم الخارجي، برغم أنها في مجملها وتفاصيلها تؤثر في استقرار وأحوال دول الشرق الأوسط، إنما أكتفي هنا بعرض أحد أهم عناصر تكوين الأزمة الشاملة في الشرق الأوسط، وهي الأزمة التي تُنذر بوادرها بخطر جسيم يُهدّد سلامة وأمن الكثير من دول وشعوب المنطقة.

بعض قادة هذه الدول يُقلّل من شأن هذه الخطورة، يظن أن الخطر بعيدٌ برغم أنه صار بالفعل يهدد دولاً وشعوباً أخرى في الإقليم، منها دول وشعوب في جوارنا. أخشى أن يكون الصواب قد جانب هؤلاء القادة في قرارهم إهمال ما يحدث في موقع أو آخر في المنطقة طالما يتبدى لهم بمنأى عن حدودهم أو فاتراً أو لا يخصهم بشكل مباشر.

لاحظنا في الآونة الأخيرة زيادة مبالغاً فيها لدى هؤلاء القادة في الإطمئنان لحليف أكبر في الخارج؛ حدث هذا بالرغم من أن دولاً في العالم الخارجي هي نفسها تشكو قلة أو انعدام الثقة داخل الحلف الواحد، وبالرغم من أن الحليف الخارجي إما صار يتواطأ مع القوى الظالمة أو يتباطأ في مد يد العون لحلفائه في الشرق الأوسط في لحظات الصعوبة والخطر الواقع فعلاً أو الخطر الوشيك.

***

كثيرة هي أعراض الأزمة ومتغيراتها وأسبابها الظاهرة في الشرق الأوسط، بعضها قديم قدم المنطقة وتراثها وأديانها وجغرافيتها وهجرات شعوبها التاريخية وتكوينات هذه الشعوب، وبعضها حديث عمره من عمر معظم دول المنطقة ونتيجة تفاعلاتها البينية. بعضها الثالث طارئ أو مستجد، دفعت إليه تطورات نشأت نتيجة سوء إدارة أو تطرف متشدد أو تدخل أجنبي أو تراكم هذه النقائص واجتماعها في وقت واحد؛ وقت انحباس حريات وتضييق خناق واستهتار بالقيم والحقوق وفساد خانق في أنحاء متفرقة من الشرق الأوسط وبخاصة في منطقة القلب. نعم، المتغيرات والأسباب كثيرة أنتقي منها فيما يلي المتغير الفاعل بشدة.

***

مذكرة جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية وشهادات المحامين وقرار المحكمة، كلها مجتمعة صدمت الغرب وأذهلت الجنوب العالمي وجدّدت في قيمة مفهوم العدالة لدىي جيل ناشئ في مختلف الشعوب وأبرزت من جديد قوة الأكثرية على حساب قوة وهيمنة الأقلية ودرساً هاماً للصين بخاصة.

***

لست متفاجئاً بسخاء العروض الغربية ومنها الوعد الأمريكي بتصعيد دور إفريقيا في مجلس الأمن أسوة بمكانة الدول العظمى أو اقتراباً منها. لعله وعد صادق وإن صدر من طرف لم تعد تأتمنه الدول الإفريقية بعد ما اكتشفت موقفه من إبادة إسرائيل لشعب فلسطين في غزة والضفة وموقفه من مذكرة جنوب إفريقيا وحكم محكمة العدل

لا خلاف كبيراً في الرأي الثابت الآن والقائل بأن إفريقيا شهدت بدايات صحوة خلال الشهور السابقة على إعلان جنوب إفريقيا عن موقفها من عملية الإبادة البشرية التي تنفذها إسرائيل في فلسطين. أظن، وهو رأي شخصي، أن الإثنين مترابطان أو بينهما صلة. ما كانت جنوب إفريقيا لتتخذ هذا الموقف “الأسطوري في جرأته وشجاعته وصدقه” لو لم تتوحد في نظرها إفريقيا وشعوب الجنوب بفخر وثقة تجاه الثورة الناشبة ضد الاستعمار الغربي في منطقة الساحل. من ناحية أخرى، ما كانت مذكرة جنوب إفريقيا لتحظى بهذا الاستقبال “الأسطوري أيضاً” من الرأي العام العالمي وبخاصة رأي أساطين القانون الدولي لو لم تكن شعوب الجنوب جاهزة للتغيير والتصدي لظلم الغرب ولأسطورة تفوق وسيادة الرجل الأبيض.

في رأيي، ولا مبالغة كبيرة فيه، أن هذه الصحوة الشاملة في عالم الجنوب قيمتها التاريخية لا تقل أهمية ووزناً عن أهمية ووزن واقعة انطلاق أساطيل الغرب قبل قرون لإقامة إمبراطورياته في آسيا وإفريقيا وفي الأمريكيتين. لذلك لست متفاجئاً بكثافة الزيارات والضغوط الغربية الراهنة للعواصم الإفريقية سعياً للجم هذه الصحوة ومنع تمددها ووقف آثارها، وبخاصة ما يتصل بعناصر الانحدار في مؤسسات النظام الدولي الراهن، ولا سيما مجلس الأمن، وعدم التزامها قواعد النظام الدولي. لست متفاجئاً بسخاء العروض الغربية ومنها الوعد الأمريكي بتصعيد دور إفريقيا في مجلس الأمن أسوة بمكانة الدول العظمى أو اقتراباً منها. لعله وعد صادق وإن صدر من طرف لم تعد تأتمنه الدول الإفريقية بعد ما اكتشفت موقفه من إبادة إسرائيل لشعب فلسطين في غزة والضفة وموقفه من مذكرة جنوب إفريقيا وحكم محكمة العدل.

***

لست متفاجئا بموقف دول الغرب ولن أتفاجأ بموقفها في حال فشلت في لجم إرادة إفريقيا وغيرها من أقاليم الجنوب. سلمياً لن تعترف هذه الدول الغربية أن دورها انتهى، ولن تتنازل عن مكانتها ومستعمراتها بدون مقابل. فوراً سوف تحاول، بالقوة إن استدعى الأمر، وقف انهيار دفاعاتها الإمبراطورية. لعل من بين هذه المحاولات تعزيز قواعدها العسكرية في الشرق الأوسط وبعضها يُعيد الرأي العام العربي اكتشاف وجوده، ويكتشف في الوقت نفسه أن بعض العلاقات الأمنية لدول كبرى بدول في المنطقة تجري سراً بعيداً عن العيون والآذان، وهو الأمر المفهوم في ضوء التهاب مشاعر الشعوب وإن كان إدراكها الحقيقة يصب في خانة غضبها، أو على الأقل في خانة الزيادة الملحوظة في أنشطة التنظيمات المسلحة غير الحكومية.

إقرأ على موقع 180  مفاجآت جنين المُربِكة للإحتلال.. و"السلطة"!

***

إسرائيل بالمثل لن تقبل التوقف عن أعمالها البربرية ضد شعب فلسطين وشعوب أخرى. حانت في أكتوبر/تشرين الأول فرصتها التاريخية لإثبات أن شعبها لا غيره هو الشعب المختار. لم تكن زلة لسان تصريحات هذا الوزير أو ذاك عن الكائنات غير البشرية التي تسكن غزة والضفة. ولا كان اعترافها الضمني في أوسلو بسلطة فلسطينية تشاركها على جزء من الأرض قبولاً باحتمال إقامة دولة فلسطينية في زمن قادم. خطّطت ليوم تضعف فيه أمريكا والغرب عموماً فتنفذ الإبادة مستندة إلى تواطؤ حلفائها. عرفت وتعرف أن واشنطن لأسباب داخلية قد تناور ولكنها شريك لا يخون فإسرائيل إلى حد غير بسيط مهيمنة في أمريكا وبريطانيا العظمى وفرنسا وبشكل من الأشكال أثبتت ألمانيا خلال الشهور الأخيرة أنها ليست حرة الإرادة في كل شأن يتعلق بإسرائيل واليهودية العالمية، ولن تكون حرة في أي وقت قريب. أخشى، ويشاركني الخشية أفراد عديدون في ألمانيا وخارجها، نخشى أن تُقدم ألمانيا على اتخاذ إجراءات غير رشيدة في المستقبل القريب تتعلق بأمن دول في الشرق الأوسط وفي أوروبا انصياعاً للضغط الصهيوني وخوفاً من عواقب الزيادات المتتالية في قوة اليمين المتطرف الأوروبي عموماً والألماني بخاصة. تكفي هنا الإشارة إلى النية الألمانية في استعادة مكانتها العسكرية التي فقدتها بأوامر أمريكية. هي تستعيدها الآن أيضاً بأوامر أمريكية، وهذا خطر كبير، أو على الأقل هذا هو الشعور السائد في دول وسط وشرق أوروبا.

***

لن أذهب بعيداً. أمريكا تعود إلى الشرق الأوسط. كان قبل أيام عنواناً لتصعيد خطير في الحرب الدائرة في الشرق الأوسط بين دولة احتلال وعدد كبر أو صغر من المقاومين لهذا الاحتلال. بالنسبة لي ولآخرين كانت العودة دليلاً على مزيد من الانحدار في قوة ومكانة هذه الدولة العظمى وانتقاصاً مؤكداً من قوتها في المواجهة مع الصين في الجبهة الباسيفيكية. نعرف، من أمريكا نفسها، أن عظمتها كانت مستمدة بشكل أساسي من التزامها منظومة قيم إنسانية وانحياز كامل للعدالة وحقوق الشعوب. أما أن تعود لتتدخل بالقوة لحماية دولة قرّرت أن تسود فوق غيرها بحجج التاريخ والأساطير والدين ونقاء العنصر أو تميزه، ففي النهاية هي الخاسرة.

لسنا غافلين، ولا غافلة شعوب الشرق الأوسط، ولا غافلة إدارة الرئيس جو بايدن في سنتها الانتخابية، عن عدد الضحايا الذين خسرتهم أمريكا خلال أقل من أسبوع نتيجة تدخلها غير الرشيد. مثل هذا التدخل كان في أفغانستان والعراق وهو الذي أطلق مسيرة انحدارها. وأراها، وأقصد إدارة بايدن ومختلف تيارات الحزب الديموقراطي في الكونجرس، مرتبكة إزاء انتشار ظاهرة الاحتجاج بين العاملين في عدد من مواقع اتخاذ القرار السياسي الأمريكي وبخاصة الكونجرس ذاته ووزارة الخارجية. يحتجون على سياسات الاستمرار في دعم إسرائيل عسكرياً. وفي ظني أن هذا الاحتجاج أثمر خلافاً علنيا بين واشنطن وبنيامين نتنياهو، الذي قرّر من ناحيته تصعيد الخلاف ليس فقط مع واشنطن ولكن أيضاً بافتعال مشاكل حدودية مع بعض دول جواره المرتبطة بسياسات تحالف أو تفاهم مع الولايات المتحدة أو حتى بعلاقات طبيعية مع إسرائيل نفسها. وفي هذا الشأن، لا أستبعد منه أو من يأتي من بعده، تصعيد هذه المشاكل مع الجيران ومع شعب فلسطين فالفرصة التي حانت لإسرائيل لن تسمح لها قوى الصهيونية العالمية، العميقة منها والأعمق، أن تضيع، وهي القوى الأكثر استفادة من وجود إسرائيل مهيمنة في الشرق الأوسط.

***

أشباح الخطر تُخيّم على الشرق الأوسط وأكثرها منبعث من داخله وبدعم من خارجه. قليلٌ أو دون المستوى استعداد أو تضامن دول الإقليم القادرة والفاعلة لمواجهته، ويكاد يكون منعدماً للعين المجردة دور لروسيا أو للصين في هذه المواجهة.

 

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  محادثات فيينا أسيرة التوجس المتبادل.. الكرة في ملعب بايدن!