والي نصر: إستراتيجية الـ”لا صبر” الإيرانية تقيد إسرائيل وأميركا

الجانب المشرق من المواجهة التي وقعت بين إيران وإسرائيل، في نيسان/أبريل الماضي، هو أن التواصل بين واشنطن وطهران (خلف الكواليس) كان مفتاح التهدئة؛ ولو إلى حين. لذلك، يجب على الأميركيين- قبل غيرهم- الإستفادة من ما حصل والبناء عليه إذا أرادوا حقاً تفادي الإنجرار إلى حرب مكلفة أخرى في الشرق الأوسط. وهذا يعني: وقف الحرب الإسرائيلية في غزة فوراً، إشراك الإيرانيين في القضايا الإقليمية، والتعويل فقط على فن الدبلوماسية. فالجانب المظلم من "مواجهة نيسان/أبريل" هو أن زمن الصبر الإستراتيجي الإيراني قد ولّى، بحسب والي نصر(*).

أدَّت الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، في نيسان/أبريل الماضي، إلى تغيير المشهد الاستراتيجي في الشرق الأوسط بشكل جذري، وجلبت “حرب الظلّ”، التي يخوضها البلدان منذ أكثر من عقد من الزمن، إلى العلن. لقد أصبح من الواضح جداً أن تحقيق الأمن القومي وتشكيل سياسات الشرق الأوسط سيكونان على وقع التنافس الواقع بين الطرفين، على الأقل في المستقبل المنظور. وإذا لم تُعالج الأسباب التي عجَّلت بوقوع المواجهة المباشرة ومصادر التصعيد فقد تتطور إلى حرب مكلفة تجر الولايات المتحدة إليها وتؤدي في النهاية إلى زعزعة استقرار المنطقة برمتها.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وعلى وقع عملية “طوفان الأقصى”، تحطمت صورة إسرائيل التي “لا تُقهر”، وفقد شعبها الشعور بالأمن والأمان. ومنذ ذلك التاريخ، استعصت على إسرائيل كل الأهداف التي وضعتها لتبرير حربها الهمجية المستمرة على غزة: فلا هي استعادت رهائنها ولا هيبتها ولا قوة الردع، في حين أن الغزاويين لايزالون صامدون ويقاومون إلى جانب كافة فصائل المقاومة الفلسطينية، وحركة “حماس” على وجه الخصوص.

ومثل حربها على غزة،  قصفت إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق مدفوعة بـ”رغبة” أن لا تتعرض لهجوم آخر بحجم عملية “طوفان الأقصى”. فمن خلال تقصدها استهداف القيادي في “الحرس الثوري”، محمد رضا زاهدي، أرادت إسرائيل تحميل طهران المسؤولة الأولى عمَّا حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر وما يجري في غزة منذ ذلك التاريخ. فزاهدي كان المسؤول عن تنسيق “جبهات” إسناد المقاومة الفلسطينية. كما تقصدت إسرائيل استهداف مقراً دبلوماسياً للقول إنها قادرة على اغتيال من تريد؛ من كبار المسؤولين الإيرانيين؛ غير آبهة للمكان أوالزمان.

 “الصبر الاستراتيجي” ولَّى.. و”حرب الظل” للعلن

لطالما تجنبت إيران المواجهة المباشرة لصالح ما تُسميه “الصبر الإستراتيجي”، مع التركيز على بناء قدراتها العسكرية وتفادي التصعيد مع إسرائيل (…). لكن “استراتيجية الصبر” لم تعد موجودة. فطهران اعتبرت أن مهاجمة قنصليتها “استفزازٌ كبيرٌ يستدعي رداً مباشراً”، وأنها إذا لم تستعد الردع بسرعة فإن إسرائيل ستُصعد أكثر- ليس فقط في سوريا بل وفي لبنان أيضاً وحتى داخل الأراضي الإيرانية.

ومع ذلك، كان ردّ إيران مفاجئاً ومقلقاً على حد سواء. فهي تقصدت الإعلان مسبقاً عن نواياها وخططها وإبلاغ واشنطن بها (عبر وسطاء أوروبيين وعرب). ثم أطلقت مئات المسيَّرات الحربية والصواريخ البالستية على إسرائيل، برغم أنها كانت تعرف جيداً أن الدفاعات والرادارات الأميركية والبريطانية والأردنية وغيرها ستعترضها وليس فقط إسرائيل.

لم تكن نية إيران إثارة الحرب، بل فقط إثبات أن وقت “الصبر الاستراتيجي” قد ولَّى، وأنها سترد في كل مرة تتعرض فيها لهجوم. بعد ذلك جاء الرد الإسرائيلي على الرد الإيراني بصورة يبدو أنها أنهت هذه الجولة من الهجمات المتبادلة، لكنها أكدَّت أيضاً أن القواعد التي أدارت “حرب الظلّ” بين إيران وإسرائيل لسنوات لم تعد سارية، وأن أي هجوم جديد، من أي طرف، سيستدعي رداً مباشراً من الطرف الآخر، ويثير شبح حرب مفتوحة.

واشنطن وحلفاؤها يريدون تجنب مثل هذا التصعيد، وطهران تعرف ذلك. فبعد الهجوم على القنصلية سارعت واشنطن للتأكيد لطهران أنها لم تكن تعلم بخطط إسرائيل. وأعربت مع كثير من القادة الأوروبيين، عن مخاوفهم بشأن مخاطر إندلاع حرب (…). كذلك تولّى دبلوماسيون عرب وغير عرب نقل رسائل أميركية إلى طهران تحثها على عدم الرد، أو الإكتفاء بـ”رد محدود” (…). وبعد الرد الإيراني، أعادت واشنطن وحلفاؤها توجيه الرسائل ذاتها إلى إسرائيل.

نجحت الوسائط الدبلوماسية في احتواء الأزمة، ولو إلى حين. ومن الواضح جداً أن الأولوية القصوى لأميركا هي منع الحرب في غزة من التسبب في إشعال حريق إقليمي، وعدم جرها إلى حرب أخرى مكلفة في الشرق الأوسط.

حتى الآن الأمور تسير في صالح واشنطن. فبرغم كل ما جرى، لا إيران ولا إسرائيل تريدان الخوض في صراع مباشر. فإيران تُدرك جيداً أن حرباً مباشرة مع دولة تتمتع بقدرات نووية متفوقة تعني في نهاية المطاف حرباً مع أميركا (وربما “الناتو”). كذلك تُدرك إسرائيل أن صراعاً أكبر مع إيران من شأنه أن يجبر حزب الله على إطلاق المزيد من الصواريخ الدقيقة على المدن والمنشآت العسكرية الإسرائيلية. ومع ذلك، تظل مسألة استدامة الهدنة الهشَّة بين الطرفين واشنطن، التي عليها أن تعالج مخاوف إسرائيل الأمنية، وأن تبني على التقدم الدبلوماسي الذي أحرزته مع طهران في الأسابيع الأخيرة.

المطلوب لجم إسرائيل

في الأثناء، مخاطر التصعيد تبقى قائمة إذا أصرّت إسرائيل على التمادي في حربها على غزة، أو شنَّت حرباً مفتوحة مع حزب الله، أو إذا عاودت استهداف قيادات ومقرات إيرانية؛ في إيران أو خارجها. فقوى محور المقاومة، بقيادة إيران، لن تسمح أبداً بالقضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، “حماس” على وجه الخصوص.

على واشنطن وقف الحرب الإسرائيلية على غزة وإشراك طهران في القضايا الإقليمية لأن المنطقة على فوهة بركان.. وزمن “الصبر الإستراتجي” ولّى

إن إيران وإسرائيل غير مستعدتين لحرب مباشرة الآن، ولكن إذا استمر كل طرف في اعتبار الآخر مصدر تهديد مميت، فإن المواجهة العسكرية بينهما تصبح أمراً مؤكداً. وإذا وقعت ستغير التوازن الأمني في المنطقة كلها وبطرق عديدة:

أولاً؛ ستُسرع إيران وإسرائيل مساعيهما لتطوير قدراتهما الهجومية والدفاعية أكثر؛ وعلى وجه الخصوص الصواريخ البالستية والمسيرات الحربية أكثر من أي سلاح آخر، كون البلدين ليس بينهما حدوداً مشتركة. وتكديس مثل هذه الأسلحة لن يجعل الحرب بين العدوين أكثر احتمالاً وأكثر تدميراً فحسب، بل سيؤدي أيضاً إلى حشد عسكري مزعزع للاستقرار في جميع أنحاء المنطقة. وطهران، التي تُدرك أنها لن تكون قادرة على الأرجح على مواكبة سباق التسلح التقليدي، ستضاعف جهودها لتأمين السلاح النووي.

ثانياً؛ سيتطلع كلا الطرفين أيضاً للحصول على ميزة جغرافية. في الجولة الأخيرة من المواجهة، لم تعتمد الفعَّالية النسبية للضربات الإيرانية والإسرائيلية على القدرات التكنولوجية فحسب، بل وأيضاً على مواقع إطلاقها. كان على المسيَّرات الحربية والصواريخ الإيرانية أن تجتاز أراضي العراق والأردن للوصول إلى إسرائيل، مما قلَّل من عنصر المفاجأة وأتاح للأردن وبريطانيا وأميركا الفرصة لاعتراض عدد كبير منها قبل أن تصل إلى أهدافها. وعلى النقيض من ذلك، من المحتمل أن تكون إسرائيل قد شنَّت هجومها الثاني من المجال الجوي العراقي عبر الحدود الإيرانية مباشرة.

ثالثاً؛ لطالما اتبعت طهران استراتيجية تسليح حلفائها، خصوصاً التي لها حضور على حدود إسرائيل، وفي الوقت نفسه حرصت على أن لا يكون لإسرائيل فرصة فعل الشيء نفسه في البلدان المجاورة لإيران. في المواجهة الأخيرة لم تلجأ طهران إلى حزب الله، لكنها قد تفعل ذلك في المرة المقبلة. وقد تسعى أيضاً إلى زيادة قدراتها الصاروخية والمسيَّرات الحربية في سوريا. وهذا بحد ذاته يُمثل تهديدا كبيراً جداً لإسرائيل، التي من المرجح أن ترد بتكثيف هجماتها على حزب الله ومواقع إيرانية في سوريا. وبالتالي، فإن القوات الأميركية التي بقيت في سوريا لـ”محاربة داعش” سيتم جرّها إلى مهمة أخرى: التصدي للحشد العسكري الإيراني من أجل حماية إسرائيل.

إقرأ على موقع 180  اللبناني أين كان وأين أصبح.. ريما عبد الملك نموذجاً

رابعاً؛ قد ترد إسرائيل بالمثل من خلال توسيع وترسيخ وجودها الاستخباراتي والعسكري على حدود إيران. وتشكل أذربيجان وكردستان العراق أرضية مناسبة للعمليات الإسرائيلية، الأمر الذي سيستدعي ضغوطاً دبلوماسية وعسكرية إيرانية. وقد تتطلع أذربيجان وحكومة إقليم كردستان بعد ذلك إلى تركيا والولايات المتحدة للحصول على الدعم الدبلوماسي والعسكري. قد تكون أنقرة قادرة على التوسط بين إيران وأذربيجان، لكن واشنطن وحدها هي القادرة على توفير الحماية لحكومة إقليم كردستان – ومن المرجح أن تتطلب مثل هذه الحماية تعزيز وجودها العسكري في المنطقة.

طهران لم تستعن بحزب الله في المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، لكنها قد تفعل ذلك في المرة المقبلة

خامساً؛ قد يكون التوسع المحتمل لشراكات إسرائيل في الخليج العربي أكثر أهمية. فهي لديها علاقات رسمية وثيقة مع البحرين والإمارات، إلى جانب التعاون الاستخباراتي والأمني (الذي تشارك فيه أيضاً السعودية). لكن إسرائيل ليس لديها؛ حتى الآن؛ قاعدة عمليات في المنطقة يمكن أن تستهدف منها إيران بشكل مباشر. ومع تزايد عداء الرأي العام السعودي لإسرائيل، بشكل حادّ منذ بداية الحرب على غزة، أصبحت آمال إسرائيل بالحصول على قاعدة عسكرية في السعودية، تحميها اتفاقية دفاع أميركية مع الرياض، غير واردة؛ ولو إلى حين. وحتى لو مضت واشنطن والرياض في الإتفاقية الدفاعية وتعميق شراكتهما الإستراتيجية، بعيداً عن مسألة التطبيع مع إسرائيل، فمن المحتم أن تتورط هذه “الشراكة” في الصراع الإيراني الإسرائيلي، مما يُعرض أمن دول الخليج للخطر ويُقوّض طموحاتها الاقتصادية.

مفارقات لمصلحة إيران

صحيح أن دول الخليج تتوق لإبرام اتفاقية دفاعية مع واشنطن، لكن هكذا “إتفاقية” تمثل معضلة في الوقت نفسه. بسببها قد تصبح هذه الدول “هدفاً” في أي صراع مع إيران. فالصواريخ الإيرانية قادرة أن تطال أياً منها بثوان، والشواطئ الخليجية على مرمى حجر (…). ومن المفارقات أن الحديث عن اتفاقية الدفاع يأتي ضمن سيناريو تعمل فيه الولايات المتحدة وإيران على خفض التوترات بينهما.

لذلك، فمن المرجح أن تبقى دول الخليج في المنطقة الرمادية بين إيران وإسرائيل، على الأقل في الوقت الحالي. لكن الحفاظ على التوازن سيصبح أكثر صعوبة حيث يواجه الخليجيون ضغوطاً من كل طرف لمنع الطرف الآخر من الوصول إلى أراضيهم ومجالهم الجوي. وسوف تضغط إسرائيل على واشنطن لفرض نفوذها على عواصم الخليج لتأمين التعاون (…)، فيما الشعوب الغاضبة من إسرائيل بسبب ومن حربها على غزة ستضغط على حكوماتها كي لا تساعد إسرائيل (…). 

العراق سيعاني أكثر من أي بلد آخر في لعبة شدّ الحبل بين الطرفين. إيران استخدمت الأراضي العراقية والميليشيات هناك لمهاجمة القواعد الأميركية ومحاربة “داعش”. والمخابرات الإسرائيلية استخدمت مناطق كردستان العراق لتنفيذ عمليات داخل إيران. وخلال المواجهة الأخيرة، عبرت المسيَّرات الحربية والصواريخ الإيرانية فوق العراق للوصول إلى إسرائيل. ومن المرجح أن إسرائيل استخدمت الأجواء العراقية لشنَّ هجومها على إيران. وسيصبح العراق أكثر أهمية كخط دفاع أول ضد الهجمات الصاروخية الإيرانية، الأمر الذي سيشجع واشنطن على الإبقاء على تواجدها العسكري هناك، وحتى توسيعه. ومن جانبها، ستكثف إيران الضغط على بغداد لإجبار القوات الأميركية على الخروج من البلاد (…).

وقف حرب غزة أولاً

إذا كان هدف واشنطن هو تقليل تواجد قواتها في الشرق الأوسط وتجنب التورط في حرب أخرى مكلفة، فعليها ضمان الاستقرار الإقليمي. قد تكون غريزة واشنطن هي الاعتماد على قوتها العسكرية لردع إيران، لكنها في الحقيقة تحتاج إلى استراتيجية غير عسكرية في المقام الأول لاحتواء الصراع وإدارته. وبادئ ذي بدء، يتعين عليها أن تستخدم كامل قوتها الدبلوماسية للعمل على إنهاء الحرب في غزة، على أن يعقب ذلك سعي جاد ومُستدام لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة. هذه النتيجة ضرورية لبناء نظام إقليمي أوسع نطاقاً يعمل على تقييد الدوافع التصعيدية التي تحرك الآن عملية صنع القرار في طهران وتل أبيب. الحرب الإسرائيلية على غزة ساهمت في تكثيف هذه الدوافع، وبالتالي لن تهدأ التوترات إلا بوقف هذه الحرب.

لكن هذا لا يعني شنّ حرب أخرى على لبنان. يجب على إسرائيل وقف تهديداتها بمهاجمة حزب الله والعمل لاستعادة “السلام البارد” الذي حافظ عليه الطرفان منذ عام 2006 وحتى 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. إن النجاح على هذه الجبهة، سيكون مقترناً بخطوات جادة نحو حل سياسي للقضية الفلسطينية، وهذا أمر بالغ الأهمية إذا أرادت إسرائيل المضي في التطبيع، مع السعودية على وجه الخصوص.

يجب على الولايات المتحدة أيضاً وضع خطوط حمراء بين إسرائيل وإيران، على غرار جهودها للتوسط بين إسرائيل وحزب الله خلال الأشهر الماضية. ويجب إعادة إحياء المفاوضات النووية وتلك المتعلقة بالقضايا الإقليمية التي بدأت في عُمان العام الماضي قبل أن تتوقف بسبب حرب غزة، وهذا بدوره يُمكن أن يخفض وتيرة التصعيد بين إيران وإسرائيل.

الجانب المشرق من أزمة نيسان/أبريل هو أن واشنطن وطهران تحدثتا خلف الكواليس طوال أسبوعين كاملين. كان تواصلهما هو المفتاح لتجنب الكارثة. يجب على واشنطن أن تستثمر هذا الانفتاح لتفادي خطر نشوب حرب واسعة، وتبدأ بإشراك إيران في القضايا الإقليمية والبناء على جهودها الدبلوماسية السابقة لتحقيق الهدوء على الحدود بين إسرائيل ولبنان. فالوقت غير مناسب أبداً للخيارات العسكرية. المنطقة محفوفة بمخاطر أمنية جمَّة، وهذا يستدعي إتقان فن الدبلوماسية وليس الحرب.

– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.

(*) والي نصر، هو أستاذ في الشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة -جامعة “جونز هوبكنز”. 

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  "نيويورك تايمز": هذه رواية "كمين نيويورك" قبيل اغتيال نصرالله!