كرد سوريا والإدارة الذاتية المُهدّدة.. ماذا بعد؟

 كان تأجيل انتخابات مجالس الإدارة المحلية في منطقة الجزيرة السورية أمراً متوقعاً على الرغم من التأكيدات المسبقة بالإصرار على إجرائها رغماً عن التهديدات التركية والنصائح الأميركية، وهي آخر خطوة في مسار تجربة سياسية عسكرية اجتماعية خاصة بدأت بعد بدء الحرب في سوريا عام 2011 وتبلورت أولى أسسها عام 2014 بعد الإعلان عن قيام الإدارة الذاتية في كامل مناطق الشمال السوري الممتد من عفرين إلى أقصى المثلث الحدودي بين سوريا والعراق وتركيا.

كان واضحاً أن هناك سباقاً مع الزمن لدى الأطراف السورية المنقسمة على نفسها بعدما انتهت المعارك الكبرى في ما بينها في إثر الوصول إلى نوع من توازن القوى الإقليمية والدولية في سوريا بعد عام 2018 بوجود جيوش وقوى عسكرية لخمس قوى مؤثرة في الواقع السوري ممثلة لكل من روسيا وإيران إلى جانب الجيش السوري، والولايات المتحدة إلى جانب “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في منطقة الجزيرة السورية، إضافة إلى وجوده في منطقة التنف وتركيا إلى جانب “هيئة تحرير الشام” وبقية الجماعات المسلحة التي اتحدت تحت مسمى “الجيش الوطني”، إضافة إلى “إسرائيل” التي ما زالت تدعم قوى وجماعات متعددة في الجنوب السوري.

هذا التوازن في القوى شكّل حالة من الاستقرار النسبي في خارطة توزع القوى بما يتيح لها العمل على بناء مشروعها السياسي الخاص، فكانت تجربة الإدارة الذاتية التي قادها الكرد الأوجلانيون كنموذج لبناء مفهوم الأمة الديموقراطية الذي نشره عبدالله أوجلان من سجنه في “إيمرالي” التركي في إطار مراجعاته الفكرية لتجربة حزب العمال الكردستاني بعد خروجه من سوريا واعتقاله على يد “الموساد” الإسرائيلي والاستخبارات الأميركية وتسليمه للاستخبارات التركية عام 1999، وهذه التجربة جاءت في مرحلة معقدة من تاريخ سوريا تتناقض فيها التصورات المستقبلية لسوريا، فهناك دمشق التي تعتبر أنها صاحبة الشرعية القانونية محلياً ودولياً وتسعى لتجديد نفسهاً انسجاماً مع ارتدادات الحرب وما نجم عنها من أزمات كارثية، في إطار تجديد الصيغة السياسية لما قبل عام 2011. وفي النقيض، هناك مشروع الجماعات الإسلامية المدعومة من تركيا والولايات المتحدة التي تعمل على كيان سياسي عسكري اجتماعي يرتكز إلى القراءة السلفية للإسلام، وهو بمنزلة الرؤية المستقبلية لسوريا.

وعلى الرغم من العداء المتجذر من قبل عبدالله أوجلان لتجربة الدولة القومية الحديثة ونظام “الحداثة الرأسمالية”، فإن تجربة الإدارة الذاتية لم تستطع أن تقرأ جملة التحولات الإقليمية والدولية بعد اندلاع اضطرابات “الربيع العربي”، فدفعت أثماناً باهظة بالتحالف القسري بدايةً مع الولايات المتحدة ضد تنظيم “داعش”، والذي تحول في ما بعد إلى إطار تحالف في مواجهة الإرهاب يتيح للجيش الأميركي البقاء في الجزيرة السورية، ويستفيد منه الأوجلانيون بتأمين مظلة حماية لنمو تجربة الإدارة الذاتية، ومن ثم تعميمها على كامل الأراضي السورية.

الواضح من طبيعة القوى الدولية والإقليمية المتناقضة أن هناك توافقاً لم تكتمل معالمه حول الملف السوري، بما يضمن إعادة وحدة الأراضي السورية بإشراف دمشق بدون ملامح واضحة للشكل السياسي الداخلي الذي ستأخذه سوريا

بدأت الأثمان الباهظة لخلل القراءة مع توغل الجيش التركي في منطقة جرابلس عام 2016 ليحتل أول منطقة فاصلة لتقطيع منطقة الإدارة الذاتية بموافقة أميركية روسية في مرحلة المساكنة الدولية في سوريا قبل الوصول إلى الصدام في أوكرانيا، ثم احتلال منطقة عفرين وتهجير أغلبية أهلها عام 2018 بموافقة روسية أميركية أيضاً، ثم احتلال منطقة واسعة ممتدة من تل أبيض إلى رأس العين وبعمق 30 كلم عام 2019 في إثر قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا وإعطائه الضوء الأخضر لتركيا لملء الفراغ الأميركي.

امتد الخلل في قراءة تحولات السياسة الدولية والإقليمية إلى اتخاذ مواقف مرتبكة وملتبسة بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي في إثر إحياء القضية الفلسطينية بعد نجاح حركة “حماس” في توجيه صفعة مذهلة إلى “إسرائيل” وإلى مجمل النظام الغربي الذي يسمى بنظام “الحداثة الرأسمالية” وفقاً لمصطلح عبدالله أوجلان في معركة “طوفان الأقصى”.

وبرغم توسع المواجهات في مناطق واسعة من منطقة غرب آسيا ودخول المعارك الممتدة في شهرها التاسع، مع ارتفاع كل المؤشرات الدالة على عجز النظام الغربي عن تحقيق الانتصار، وأن قوى مقاومة النظام الغربي تُراكم إنجازاتها، فإن الموقف السياسي والإعلامي كان بعيداً كل البعد عن التفاعل الإيجابي مع الحدث المفصلي الأهم في القرن الواحد والعشرين سوى بيانين خجولين.

وبالرغم من كل المؤشرات السابقة على خطورة ما يمكن أن يحيق بهذه التجربة ومع استمرار حرب الإبادة في غزة، تم في نهاية عام 2023 الإعلان عن عقد اجتماعي خاص بشمال شرق سورياً وتقسيمها إلى 7 مناطق مع الدعوة لانتخابات المجالس المحلية، في خطوة تُعتبر تهديداً للأمن القومي التركي على الرغم من صمت دمشق التي لم تُقر هذه الخطوة ولم تدنها رسمياً، وهي التي تعلم بأن ما يجري في محيطها الإقليمي يصبّ في مصلحتها، وترى في هذه الخطوة فرصة لاستثارة تركيا ودفعها نحو تغيير سياساتها في سوريا، بما يدفعها إلى التعاون معها على مبدأ الانسحاب من سوريا وتفكيك الجماعات المسلحة في إدلب وشمال وغرب حلب بضمانات دولية وإقليمية، وهذا ما حدث بعد زيارة وزير الخارجية التركي حقان ڤيدان لكل من روسيا والصين وطرحه القلق التركي من خطوة انتخابات المجالس المحلية في مناطق الإدارة الذاتية.

إقرأ على موقع 180  مقالة برذاد سكر "كحكة".. العيد

أصبح مستقبل الإدارة الذاتية أمام تهديدات حقيقية، فمنطقة غرب آسيا بعد معركة “طوفان الأقصى” والحرب في أوكرانيا مقبلة على تغيير في خرائط الجغرافيا السياسية وفقاً لمعادلات جديدة فرضتها قوى المقاومة التي تدير معاركها بتناغم بديع، وأولى المؤشرات على ذلك، وقبل انتهاء أطول حرب في كامل المنطقة، هو ما صرّحت به صحيفة “الوطن” السورية شبه الرسمية التي اعترفت بأن هناك مقاربات مع تركيا (التحركات لتنشيط ملف عملية “التقارب” بين البلدين مستمرة، وبات معروفاً أن بغداد تؤدي دوراً واضحاً في هذا الإطار بدعم من السعودية وروسيا والصين وإيران، وموافقة ضمنية أميركية)، والواضح من طبيعة القوى الدولية والإقليمية المتناقضة أن هناك توافقاً لم تكتمل معالمه حول الملف السوري، بما يضمن إعادة وحدة الأراضي السورية بإشراف دمشق بدون ملامح واضحة للشكل السياسي الداخلي الذي ستأخذه سوريا.

الكرد ركن أساسي وأصيل من منطقة غرب آسيا. وقد ظُلموا كما ظُلمت شعوب مركز العالم القديم التي نالها التحطيم والهيمنة بعد الحرب العالمية الأولى 1918 على يد النظام الغربي. وقد يكون ظلمهم مضاعفاً ببعثرتهم وتشتيتهم بين دول هي من صناعة الغرب بالأساس، وهم الآن مع شعوب المنطقة أمام فرصة تاريخيّة لا تعوض، تعيد كامل المنطقة إلى سياقها التاريخيّ الطبيعي المتداخل بالشراكة والسكان، بإعادة إحياء مركز العالم القديم بالشراكة مع قوى مقاومة النظام الغربي، وهي القوى الأكثر تأثيراً في رسم خرائط الجغرافيا السياسية القادمة لكامل الإقليم، فهل يقرؤون جملة التحولات ويكونون شركاء حقيقيين في صناعة مستقبل جديد أم يكونون ضحايا لصراع الكبار؟

(*) المصدر: موقع “الميادين

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الدرزي

كاتب وباحث سوري

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "حرب الدونباس": ضربة وحصار وتفادي النموذج الأفغاني