سؤال الحرب.. هل اقتربنا حقّاً من النهاية؟

منذ اليوم التّالي لـ"طوفان الأقصى" في ٧ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣، وأغلب المحلّلين والمراقبين الجدّيّين ومن ذوي الخبرة والتّجربة يُرجّحون - عن حقّ وعن دراية - عدم حصول حرب اقليميّة شاملة، أو عدم حصول حرب شاملة مع لبنان تشبه حرب ٢٠٠٦ أقلّه. لماذا؟ لسبب جوهريّ وأساسيّ برأيهم، ألا وهو: عدم وجود مصلحة بذلك عند اللّاعبَين الأساسيَّين في المنطقة، أي الولايات المتّحدة من جهة، وإيران من جهة ثانية.

لقد بيّن “الطّوفان” الفلسطينيّ حقيقةً أنّ كلّ اللّاعِبِين الآخَرِين ثانويّون في ما يخصّ اتّخاذ القرارات الجيو-سياسيّة الكبرى الأهمّ في منطقتنا، بما فيهم الكيان الاسرائيليّ بذاته مثلاً، وتركيا، ودول الخليج، ومصر (على أهمّيّة هؤلاء اللّاعبين طبعاً، وهذا بحث آخر).

فطالما أنّ اللّاعبَين الأساسيَّين لا يريدان الحرب: فكيف يُمكن أن تحصل هذه الحرب؟

هل اقتربنا، في الآونة الأخيرة، من تأكيد نهائيّ لهذه المقولة وعلى أرض الواقع، وبما لا يقبل الشّكّ؟

في ما يلي، وبرغم التّفاؤل التّفاوضيّ الحاليّ، أعرض بعض النّقاط التي يُمكن أن تشكّل تحدّياً لهذه النّظرة واقعاً، خصوصاً في مضمون الأمور وفي مآلاتها بعيدة الأمد.

***

على هذا الأساس التّحليليّ المذكور عموماً: كانت تقوم إذن أغلب التّحليلات والتّوقّعات غير المرجِّحة للحرب الشّاملة إقليميّاً (أو الواسعة-التّمّوزيّة لبنانيّاً كما أشرنا آنفاً، وما إلى ذلك). وبالتّالي، كان وقف إطلاق النّار في غزّة، ومعه في الإقليم: كانا مجرّد “مسألة وقت” عمليّاً، لا بدّ وأن يصل الأمريكيّون والايرانيّون إلى فرضها بطريقة أو بأخرى.. بعد أن تقوم “إسرائيل” بردّة فعلها و”فشّة خلقها”.. مع تحقيق بعض الأهداف الاستراتيجيّة في غزّة إذا أمكن ذلك (بالنّسبة إلى الجانب الأمريكيّ)؛ أو من دون تحقيق الأهداف الاسرائيليّة الأساسيّة (بالنّسبة إلى إيران ومحور المقاومة).

ومرّت الأيّام ودارت على غزّة وجبهات اسنادها.. ولم يحقّق العدوّ الاسرائيليّ الأهداف الأساسيّة التي وضعها هو لنفسه واقعاً (وعلى رأسها: القضاء على “حماس” والمقاومة العسكريّة في غزّة؛ تحرير الرّهائن؛ بالإضافة إلى فرضٍ فعليّ وقابل للاستمرارية لِحُكمٍ موالٍ للإسرائيليّين ولحلفائهم في القطاع). ولا يبدو أنّ “حماس” وحلفاءها مستعدّون بالمقابل للتّنازل عن إلحاق الهزيمة الاستراتيجيّة – لا التّكتيكيّة فقط – بعدوّهم، من خلال منعه من تحقيق أيّ هدف حقيقيّ من أهدافه الاستراتيجيّة.

ومع ذلك، وبرغم كلّ الرّهانات والتّوقّعات؛ لم تستطع الإدارة الأمريكيّة، الظّاهرة و/أو الباطنة، أن تفرض، حتّى يوم أمس أقلّه، على رئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو ومنظومته أن يوقّعا على أيّ اتّفاق جدّيّ لوقف إطلاق النّار (أو ما يشبه ذلك حتّى). وبفَرضٍ مَفروضٍ من اللّوبيات الصّهيونيّة في أميركا وفي الدّول الغربيّة: ما زالت “إسرائيل” تتلقّى مع ذلك جميع أنواع الدّعم الاقتصاديّ والماليّ والعسكريّ والأمنيّ واللوجستيّ.. بالإضافة إلى الحماية العمليّة ضدّ أيّ خطوة قضائيّة عملانيّة – يُعوّل عليها – في ما يعني قادة الكيان المحتلّ.

إذن، في المحصّلة، وإلى يومنا هذا:

١/ تستمرّ حرب غزّة في المبدأ. وتستمرّ المجازر، ويستمرّ التّدمير الممنهج، والتّجويع، والتّحفيز عمليّاً على الهجرة والفرار بغير رجعة من تلك الأرض (حيث أمكن ذلك، على المدى القريب أو البعيد، الآن أو بعدَ حين)؛

٢/ ومع ذلك؛ يستمرّ عدم تحقيق الإسرائيليّ لأهدافه الاستراتيجيّة الأساسيّة المذكورة آنفاً؛

٣/ ومع ذلك أيضاً؛ تستمرّ جبهات الاسناد بالضّغط على العدوّ على مستويات مختلفة، لا سيّما في البحر الأحمر وفي شمال فلسطين المحتلّة (أي على الحدود مع لبنان).

٤/ لا يبدو أنّ أحداً قادرٌ حقيقةً اليوم على اجبار نتنياهو وفريقه (داخل الكيان أو ضمن المنظومات الحاكمة في الغرب) على القبول بالهزيمة العمليّة وبالتالي إيقاف الحرب. علينا أن ننتظر تفاصيل نتائج مفاوضات الدّوحة الحاليّة المقرر المضي بها في الأسبوع المقبل، لكي نستطيع الحُكم على طبيعة “الاتّفاق” الذي سيخرج عنها (إن حصل ذلك): هل قرّر الأمريكيون للمرة الأولى منذ عشرة أشهر ممارسة ضغط فعلي على “إسرائيل” وهل نحن أمام وقف حقيقيّ للحرب، أم مُجرّد تمويه، أم مُجرّد تأجيل؟ علينا انتظار النّتائج لنتبيّن الخيط الأبيض من الأسود كما أشرت؛

٥/ والأهمّ، وهنا تكمن ربّما النّقطة الأساسيّة لنقاشنا: لا يبدو أنّ رئيس وزراء الكيان، أقلّه إلى الآن، في وارد القبول بأيّ وقف حقيقيّ ونهائيّ لإطلاق النّار، أو بأيّ صفقة، يعنيان – عمليّاً كما ذكرنا – هزيمةً استراتيجيّةً وبعيدة الأمد للكيان الاسرائيليّ.

يبدو نتنياهو ومن معه، داخل فلسطين المحتلّة وفي الغرب مقتنعين وبعمق بأنّ أيّ اتّفاق يمنع “إسرائيل” من تحقيق أهدافها الاستراتيجيّة في غزّة.. هو ليس هزيمة فحسب، وإنّما هو هزيمة من النّوع ما-فوق-الاستراتيجيّ.. أي الوجوديّ.

وهنا تكمن الخطورة الكبرى في ما يخصّ موضوعنا واقعاً.

وقد صرّح جميع الأطراف، ظاهراً أو باطناً، كلاماً أو ايحاءً، بما يدلّ على كلّ ما سبق. وهي صورة اجماليّة تدلّ بدورها، بشكل واضح على أنّنا، في الإقليم اليوم، أمام معضلة عميقة وكبرى.. ولو عبّر الأطراف عن ذلك بطرق مختلفة.

وكما بدأتُ بالتّلميح في ما سلف: فإنّني أعتقد أنّ نتنياهو ما يزال، إلى الآن، يتمتّع بتأييد أغلبيّة “الاسرائيليّين” في ما يخصّ ما سبق من إصرار تحديداً؛ ليس فقط في الدّاخل، وإنّما أيضاً في الخارج، مع ما يعنيه ذلك على مستوى الضّغط على الحكومات، وأصحاب القرار، والنّخب، ورؤوس الأموال (إلخ..) في أميركا وفي الغرب.

لذلك، لا زلت أتعامل مع ما سيخرج من مفاوضات الدّوحة (ثم القاهرة) بحذر شديد. مُجدّداً، أمام كلّ ما سبق ذكره: هل سيقبل نتنياهو ومن معه بالتّوقيع على ما يعتبرانه هزيمة وجوديّة و/أو استراتيجيّة كبرى؟

نحن إذن أمام معضلة حقيقيّة حالياً. وإذا أردنا أن نحافظ على أمانتِنا الفكريّة: علينا أن نعترف بأنّها لم تكُن متوقّعة تماماً وعند الأغلبيّة السّاحقة من المراقبين والمحلّلين (لا حدوثاً ولا عمقاً). إنّها المعضلة التي غيّرت وتغيّر بالتّأكيد سؤال “الحرب” في الإقليم حاليّاً.. وتُبدِّلُهُ تبديلا.

إقرأ على موقع 180  تعمّدتْ بالدم.. إلى روح المطران كبوجي

***

قد نكون لا نرى جميع جوانب وتجلّيات هذه المعضلة، بشكل واضح ودقيق وواقعيّ، بسبب نقاط الضّعف التّالية في تحليلنا عموماً:

١/ سوء تقدير تأثير عمليّة أو واقعة “طوفان الأقصى”، العميق جدّاً والحادّ جدّاً، على العقل الصّهيونيّ داخل الكيان وخارجه. نحن أيضاً أمام معضلة حقيقيّة في ما يخصّ خروج الوعي واللّا-وعي “الإسرائيليّ” من هذه الصّدمة العميقة، التي أدّت إلى استفاقة أحاسيس الخطر الوجوديّ عند – وعلى – الجماعة اليهوديّة-الصّهيونيّة بشكل عامّ؛

٢/ الاستخفاف، كذلك بشكل عامّ، بتأثير نتنياهو على الرّأي العامّ اليهوديّ والصّهيونيّ داخل الكيان وخارجه؛ وبالتّالي: الاستخفاف النّسبيّ، المتفاوت الحدّة حسب المحلّل، بحقيقة التّأييد الذي يحظى به كرؤية، وليس كمجرّد شخصيّة قياديّة عابرة، خصوصاً في هذه المرحلة؛

٣/ بشكل أخصّ: الاستخفاف، في نفس السّياق، بقدرة نتنياهو وفريقه على التّأثير القويّ جدًّا والملموس جدّاً على اللّوبيات اليهو-صهيونيّة ذات السّلطة القويّة في دول الغرب كما ذكرنا؛

٤/ بشكل أعمّ، الخطأ في تقدير الإجابة على سؤال مَن يحكم مَن على أرض الواقع؟ “إسرائيل” واللّوبيات الموالية لها في الغرب، أم الدّول-الحكومات الدّاعمة لهذا الكيان؟

بالطّبع، الإجابة بعيدة عن أن تكون سهلة أو بسيطة – وبكلّ تأكيد: ولكن، يمكن ملاحظة مَيل البعض إلى المبالغة في تقييم “نوع ما” من الاستقلاليّة، عند النّخب والحكومات الغربيّة عموماً، تجاه الكيان ولوبياته الدّاعمة.

أعتقد أنّ اللّوبيات هذه تتحكّم بمفاصل القرار الثّقافيّ والاعلاميّ والاقتصاديّ والماليّ والسّياسيّ.. أكثر بكثير (جدّاً) ممّا يتخيّله أكثر محلّلينا. علينا أن نتذكّر أنّنا، في نهاية المطاف، ما نزال نعيش نتائج الحرب العالميّة الثّانية، ونتائج تحكّم الرأسماليّة اللّيبراليّة – “الماليّة” تحديداً – ومنذ عقود عديدة الآن، بالنّموذج الاجتماعيّ والاقتصاديّ والماليّ والسّياسيّ في الغرب.. وحول (أغلب) العالم.

***

في خلاصة كلّ ما سبق: أعتقد أنّ علينا اليوم إدراك عمق هذه المعضلة الجيو-سياسيّة. وبالتّالي علينا البدء بإدراك معنى الـShift (التّبدّل) الذي حصل ويحصل مؤخّراً في ما يعني سؤال الحرب الكبرى في المنطقة، وهو الـShift الذي أوصل الأمريكيّ إلى فرض مفاوضات الدّوحة بالتّأكيد، مع التّذكير بأنّ علينا انتظار تفاصيل أيّ “اتّفاق” قد ينتج عن هذه المفاوضات، حتّى نعلم “على ماذا وقّع نتنياهو تحديداً” في الباطن وليس فقط في الظّاهر (وبناء على جميع النّقاط السّابقة).

في المحصّلة، قد يكون نتنياهو مقتنعاً، وبعمق، بضرورة عدم توقيع أيّ اتّفاق يؤدّي إلى هزيمة استراتيجيّة للكيان، مهما كان الثّمن. ليست القضيّة محض شخصيّة، كما يُردَّدُ عادةً، ونحيل مجدّداً إلى كلّ ما سبق. وقد يكون من العقلانيّ، بالنّسبة إلى “العقل” الذي يُمثّله هذا الرّجل ضمن منظومة العدوّ: قد يكون من العقلانيّ أن يستغلّ الوضع الرّاهن في سبيل محاولة نيل مكاسب استراتيجيّة أكبر وأوسع، كما يدعو ويُروّج منذ سنين عديدة كما نعلم.

على رأس هذه المكاسب، بلا شكّ: محاولة ضرب و/أو تأخير المشروع النّوويّ الإيراني (بشكل أو بآخر)، ومحاولة ضرب مقدّرات المقاومة في لبنان (قدر المستطاع).. وذلك بمساعدة أمريكيّة وغربيّة مباشرة، وضمن سياق مختلف عن المواجهات السّابقة المألوفة.

لذلك، قد يتجلّى هذا الـShift الذي نتحدّث عنه، من خلال تحوّل سؤال الحرب، في المضمون، وفي الآونة الأخيرة خصوصاً: من “هل ستحصل الحرب”؟ إلى “هل – وكيف – سنستطيع تجنّب الحرب”؟

نعم، أعتقد أنّ السّؤال قد أمسى في الجوهر: هل – وكيف – سنستطيع تجنّب الحرب التي يدفع نتنياهو باتّجاهها عن دراية وتخطيط، يوماً بعد يوم، وعن قناعة استراتيجيّة (وليس فقط تكتيكيّة و/أو شخصيّة)؟ هل – وكيف – سنستطيع تجنّب الحرب التي تقودنا إليها المعضلة الكبرى الواقعة حاليّاً في الإقليم والتي وصفنا أهمّ أركانها في هذا المقال؟

لا أعتقد أنّ نتنياهو يلهو أو يقوم بمجرّد ألاعيب سياسيّة شخصيّة الطّابع في الأعمّ الأغلب. هو على الأرجح يستند إلى رؤية متواجِدة ومؤيَّدة بقوّة داخل منظومة العدوّ، بما يشمل اللّوبيات المذكورة.

من هنا، لا شكّ عندي في أنّ علينا تغيير مقاربتنا لسؤال “الحرب” هذا، خلال وما بعد محادثات الدّوحة (ثم القاهرة).. وأخذ هذه المعضلة الحاليّة، ومن هذه الزّاوية الجديدة، مأخذ الجدّ، ومأخذ الجدّ الشّديد. وقد نكون هنا، بالفعل، أمام مفتاح مفاتيح فهم تعامل إيران ومحور المقاومة حاليّاً مع المرحلة الجديدة، ومع موضوع الرّدود على محاولات الاستدراج التي يقوم بها نتنياهو.

وقد يكون العقل الجيو-سياسيّ الإيرانيّ “الهادئ” كما سمّيناه في السّابق من القَول والمَقال.. هو الوسيلة الأكثر تناسباً لمجابهة هذا الـShift، وهذا الاستدراج المتصاعد الخطورة نحو الحرب الاقليميّة الواسعة أو الأوسع.

فلننتظرْ ما سوف تجلبه لنا قاعدتا “الآجِلُ لطالما يكونُ خيراً من العَاجِل” و”الصّباحُ لَهُوَ خيرٌ من المِصباح”.. في الأيّام القادمة. وقد تكون القاعدتان جاءتا حقّاً بالثّمار المطلوبة في الدّوحة. وإنّ غداً لِناظره، الهادئ والصّبور، لَقريب.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  بريماكوف والجنزورى.. أزمة «رجل الدولة»