إرادةُ الحياة.. إدارةُ الموت!

يحارُ المرءُ في قدرة الأفراد والمجتمعات في الإقليم على "الحياة"، في ظل كل الدمار والموت، في صراعات لا بداية لها ولا نهاية، كما لو أن المنطقة مجبولة بالعنف والصراع، وكما لو أن الاستبداد والحرب والموت هو قدرها. أمر يعيد التذكير بمقولة باتت شبه مهجورة اليوم عن "الاستبداد الشرقي" أو بتعبير أقرب للأحوال اليوم "الموت الشرقي" أو "الموت في الشرق"، علماً أن النجاح في نقد وتفكيك تلك المقولة، ربما كان خطابياً وبلاغياً ونصياً في المقام الأول، ويبدو أن تجاوُزَها في واقع الإقليم ومعيوش الناس فيه ما يزال بعيداً!

“إدارة الموت”؟

الواقع أن “إرادة الحياة” هي إحدى بواعث أو مُحدّدات الاحتجاج والخروج على الاستبداد والهيمنة، ورفض الموت الناتج عنهما أو بفعلهما، وبالطبع أحد “تدابير العيش” و”التمسك بالحياة”، لدرجة يمكن معها الحديث ليس عن “استبداد شرقي” فحسب، وإنما بالمقابل عن “إرادة الحياة” في الشرق أيضاً. المؤسف أو الموجع في ذلك هو أن تبدو “إرادة الحياة” كما لو أنها شكلٌ من أشكال “إدارة الموت” أو “تدبيره” بمعنى “اتقائه” و”الهروب منه” أو “التكيف معه”، ما أمكن.

الحديث هنا هو عن ديناميات حياة-موت، حرية-استبداد، استقلال-احتلال، وحدة-انقسام، استقرار-فوضى إلخ.. وهذه ليست ثنائيات حدّية (أو ثنويات) حاكمة بالضرورة. ويبدو أن “إرادة الحياة” في هذا الإقليم، هي في جانب منها “إدارة الموت”، كما تتكرر الإشارة، إذ لا يُظهر الناس تمسكاً بالحياة في مواجهة الاستبداد والإذلال والحرب والموت فحسب، بل يظهرون تكتيكات هروب وتملص وتكيف وانسحاب، وحتى انسحاق وتذلل واستكانة أيضاً، واستبطان لما يريده صاحب السلطة أو صاحب “قرار الإماتة”، بتعبير فوكو. وهي استجابات تُعَدُّ بكيفية أو أخرى تعبيراً عن “إرادة الحياة” أو بالأحرى، الحد الأدنى من حياة أو عيش، ونوعاً من “إدارة الموت”، اتقاءً وتكيفاً، إن أمكن التعبير.

إرادة الحياة في الأزمات والحروب والكوارث، كما هو حال عدد من المجتمعات والدول العربية، هي بكلمة واحدة: “إدارة الموت”، الإصرار على البقاء في مواجهة القتل والموت. وإذا أمكن ذلك، يكون التركيز على محاولة تحسين شروطه، في ظل تضاؤل أو تراجع القدرة على الاستجابة لمتطلبات وشروط العيش اللائق أو العيش الحر، وفي ظل ظروف بالغة الشدة والقسوة

التمسك بالحياة

وإذ أظهرت مجتمعات الإقليم إرادة وقدرة فائقة على الحياة، كما سبقت الإشارة، في ظل استبداد وتسلط وفقر وموت مستمر ومتوالد، فقد كان ذلك تحت طيف واسع من العناوين والمقولات: الدين والعرق والطائفة والقبيلة والعشيرة والعائلة والطبقة والحزب والأمة والوطن والوطنية والتحرير إلخ.. وما تزال شعوب الإقليم تختبر، مرة بعد أخرى، إمكانية العيش في إقليم متفجر أو مأزوم على الدوام، كما لو أن اختبار العيش أو إرادة الحياة هي سمة ملازمة للإنسان في هذا الشرق أو في هذا الإقليم، قد ينجح فيه وقد يُخفق، ولو أن الحياة مستمرة، كما يُقال في بعض اللهجات المحلية: “عايشين من قلة الموت”! ولو أن الموت كثيفٌ وكثيرٌ، بكيفية تفوق التصور. والمعنى بالنسبة للقائل: أنه بالحياة، لأن الموت لم يقع عليه هو بالذات!

في باب الإرادة

ثمة كلام كثير في باب “الإرادة” لغويّاً وفقهيّاً وفلسفيّاً وسيكولوجيّاً. واحتل ذلك في الماضي موقعاً مهمّاً في فضاء التفكير والثقافة وتجاذباتهما في تاريخ المنطقة، إلا أنه لم يواصل حضوره ذاك، وتنحى ليصبح أقل مدعاة للاهتمام، بل إنه شهد – إلى ذلك – تحولاً في نمط الحضور، وأخذ مقاماً لفظياً وبلاغياً أو خطابياً أكثر منه معرفيّاً أو حتى سوسيولوجيّاً، وبخاصّةٍ في حالات الحروب والصراعات الداخلية والأهلية في المنطقة.

تُمثّل الإرادةُ شرطاً بدئياً أو قبلياً، إن أمكن التعبير، ولا معنى لشيء ما لم تكن موجودة، حتى لو توافرت المتطلبات الأخرى. وأما الإرادة الحرة، فتعني أن يكون الفاعل مُتحرراً من قيود وإكراهات وحدود “الإنسان الأدنى” و”الحياة العارية”، منطلقاً ومتوجهاً نحو “الإنسان الأعلى” أو “الإنسان الحر”، بتعبير نيتشه.

إرادة الحياة هي جوهر وجود الإنسان، وهي تتجاوز “غريزة البقاء” أو “الحياة العارية”، بمعنى الحياة العادية أو البيولوجية، بتعبير المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين، إلى المعنى الإنسي والثقافي والقيمي. وهي الحياة حضوراً وفعلاً، وإرادةً، وقيمةً ورمزاً ومعنىً. ويحيل تعبير “إرادة الحياة” أيضاً إلى قوة أو اتجاه أو نزوع مُدرِك نحو الحياة، يتسم بالقصدية والعملية، وصولاً إلى المكابدة والمجاهدة والمنافسة، وحتى وصولاً إلى الحرب والقتال، إن لزم الأمر أو أمكن بالنسبة للفاعل.

في السمات والتشكلات

ويحيل الحديث عن “إرادة الحياة” إلى تشكيلات “طيفية”؛ “نسيجية” أو “شبكية”؛ “سيالة”، و”انبثاقية”، وهي “غير منفصلة” في معانيها وأبعادها، بل “متداخلة” و”متقاطعة” في ما بينها، وذلك وفق النقاط أو المستويات أو السمات الرئيسة الآتية:

  • حالة أو ظاهرة “طيفية”، بمعنى أنها تبدأ بـ”إرادة البقاء”، بالمعنى البيولوجي أو الحيوي/الحياتي، لتصل إلى “إرادة العيش” و”نوعية الحياة” في فضاء المعنى وأفق الحرية. وهي منتشرة وموزعة أو منبثة في أرجاء وجهات المجتمع والمجال.
  • معانٍ متوازية ومتداخلة ومتقاطعة، بدءاً من الفرد إلى الأسرة والجماعة الصغرى وصولاً إلى الجماعة أو الجماعات الكبرى. وهي بمثابة خطوط معان وإرادات يتنقل الإنسان في ما بينها.
  • نسيجية، بمعنى أنها موجودة وكامنة في كل فعل ولدى كل فاعل، ولا توجد منعزلة، بل في حالة تفاعل: تداخل وتخارج، تآلف وتنافر، فيما بين فواعلها وموضوعاتها. وتظهر على شكل حالة أو حصيلة أو نمط عمومي، إن أمكن التعبير.
  • بركانية، بتعبير مستعار من الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، (دريدا، فصول منتزعة، 2015)، أي أنها حالة متفجرة ومتدفقة من حيث معانيها وتجلياتها، ومن حيث تحولاتها. وعادة ما تتسم بالقوة والإدهاش والاكتساح، لدرجة يصعب معها مقارنة ما صار بما كان من قبل، وهي إلى ذلك نكوصية أيضاً.
  • لا متوقعة، وفُجائيّة، بمعنى أن بروزها من عدمه، اتجاهاتها، قوتها أو تراجعها، هي من الأمور اللا متوقعة والمتقلبة أو “غير المنضبطة”، ولو أن دراسات “اللا متوقع” أخذت تتقصّى وجود “أنماط تحليلية” أو “قوانين كامنة” في ذلك (جايمس غليك، نظرية الفوضى، علم اللا متوقع، 2008).. ومن المفترض أن ينسحب ذلك على ما ندعوه “إرادة الحياة”.
  • حالة “سيّالة”، بالمعنى الذي يرد لدى عالم الإجتماع البولندي زيجمونت باومان، بمعنى أن “سيولة” الظروف والوقائع والتطورات في الحياة تؤدي إلى عدم استقرار الأحوال لدى الناس، واختلال المدارك والاستجابات والأولويات، بما في ذلك الموقف من الحياة نفسها. ثم أن إرادة الحياة تعكس كل ذلك أو أنه يتجلى فيها قوةَ حياة وعيش ووجود وتبصر وتدبير.
  • حالة انبثاقية، بمعنى كيف ينشأ المعقد من البسيط، والحي من الميت أو الحياة من الموت، وتخلق الهمة والتمرد من الضعف والخضوع.. وهذا ما يظهر لدى الأفراد والجماعات والأمم في لحظات حرجة من وجودها وتاريخها.

مأساةُ عدد من مجتمعات الإقليم، وهي كثيرة وفي ازدياد، أن وجود السلطة قاتلٌ، وزوالها قاتلٌ أيضاً. وفي هذا إصرار مشرقي أو عربي على إثبات منطق (أو لا منطق) الصراع والحرب في معانيهما وتجلياتهما، وخبراتهما الأقدم في تاريخ الإقليم والعالم

قوة وحيوية فائقة

إقرأ على موقع 180  شح المياه.. أية أخطار تهدّد بقاء العرب؟

إرادةُ الحياة، ظاهرة أصلية، وقوة حيوية فائقة، لا ننظر إليها بوصفها حاكماً أو محدّداً للإنسان، على ما يقول الفيلسوف الألماني آرتور شوبنهاور فحسب، (شوبنهاور، العالم إرادة وتمثلاً، 2006)، إنما بوصفه هو من “يعطيها القيمة”، على ما يقول نيتشه. (فريدريك نيتشه، إرادة القوة: محاولة لقلب كل القيم، 2011)، وبوصف الإنسان حاكماً ومُحدداً ومُنتجاً لها، قبلاً؛ ثم أنّها تفعل فعلها في رسم ملامح وجوده وطبيعته.

إرادة الحياة في الأزمات والحروب والكوارث، كما هو حال عدد من المجتمعات والدول العربية، هي بكلمة واحدة: “إدارة الموت”، الإصرار على البقاء في مواجهة القتل والموت. وإذا أمكن ذلك، يكون التركيز على محاولة تحسين شروطه، في ظل تضاؤل أو تراجع القدرة على الاستجابة لمتطلبات وشروط العيش اللائق أو العيش الحر، وفي ظل ظروف بالغة الشدة والقسوة.

في الخلاصة؛

يتحول ملايين الناس في صراعات الإقليم إلى “مشاريع موت”، موتٌ ماثلٌ ومصلتٌ على حيوات الناس، أفراداً وجماعات، يقع عليهم ما أن تحين لحظته أو أوانه.. وما أن يختل ميزان القوة أو السلطة في مجتمع أو دولة ما، أو يُحقّق طرف ما انتصاراً أو تغلباً على طرف آخر، وتحل سلطةٌ محل أخرى، حتى ينفلت قرار الموت من عقاله.

مأساةُ عدد من مجتمعات الإقليم، وهي كثيرة وفي ازدياد، أن وجود السلطة قاتلٌ، وزوالها قاتلٌ أيضاً. وفي هذا إصرار مشرقي أو عربي على إثبات منطق (أو لا منطق) الصراع والحرب في معانيهما وتجلياتهما، وخبراتهما الأقدم في تاريخ الإقليم والعالم.

يقف العرب اليوم أمام اختبار القدرة على إعلاء قيمة الحياة، واحتواء أو تفكيك مصادر القتل والموت، وليكن الإنسان قيمة بذاته، ولتكن حياته، حريةً واختياراً وليس مجرد “حياة عارية”، هي قيمةُ القيم، ومقصد الشرائع، وأساس السياسات.. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون!

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  صُودر زمننا وشُلّت إرادتنا وصارت هزائمنا إنتصارات