الصراع على فلسطين.. القدس مركز العالم (4)

في هذا المقال الرابع والأخير من هذه السلسلة المقدسية والفلسطينية، أتطرق إلى الأبعاد الدينية التي اكتسبتها مدينة القدس وأعطتها وضعاً فريداً من نوعه على صعيد الأديان الثلاثة.

لم يكن لأورشليم القدس أيّ أهميّة في البانوراما الدينيّة عند بني إسرائيل القدماء، كما رأينا في المقال السابق، قبل قيام النبي داود بجعل أورشليم عاصمةً لمملكته (حسب التقبّل الشائع لرواية الكتاب المقدّس، طبعاً)، وإحضاره إليها تابوت العهد وبناءه مذبحاً لله فيها. تبع ذلك قيام النبي سليمان ببناء الهيكل وتسويقه ليكون مركز الديانة الإسرائيليّة القديمة. ولا يبدو أنّ سليمان نجح في مسعاه لأنّ جغرافيّة فلسطين فيها الكثير من الهياكل من تلك الفترة، فإذا كانت كلّها ليست لبني إسرائيل فهذا يعني أنّ كامل التوراة خرافة لا أصل لها (أو أنّ أحداثها جرت في مكان آخر غير فلسطين). أمّا إذا كانت هذه الهياكل لبني إسرائيل، فهذا يدلّ على أنّ الرواية التوراتيّة يجب النظر إليها على أنّها جزء من الجهد الذي بذله سليمان (ومن تملّكوا السلطة في أورشليم من بعده)، لجعل القدس المركز الوحيد للديانة الإسرائيليّة والمهيمنة أيضاً على عالم السياسة، ولتتحدّى شرعيّة هياكل قبائل أخرى من بني إسرائيل كانوا في منافسة مع مركزّيّة القدس وسلطة داود وسليمان ونسلهم. ويمكن أن نستشهد بالطائفة السامريّة كإحدى الأدلّة التي ما زالت موجودة، وهم من بقايا بني إسرائيل القدماء وهيكلهم كان وما يزال بالقرب من نابلس.

مع تدمير البابليّين للقدس وهيكلها في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، زادت الأهميّة الدينيّة للقدس كما نرى في المزمور 137:

1 عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا، بَكَيْنَا أَيْضاً عِنْدَمَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْن.

2 عَلَى الصَّفْصَافِ فِي وَسَطِهَا عَلَّقْنَا أَعْوَادَنَا.

3 لأَنَّهُ هُنَاكَ سَأَلَنَا الَّذِينَ سَبَوْنَا كَلاَمَ تَرْنِيمَةٍ، وَمُعَذِّبُونَا سَأَلُونَا فَرَحاً قَائِلِينَ: رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْن.

4 كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟

5 إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي!

6 لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ، إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي!

7 اُذْكُرْ يَا رَبُّ لِبَنِي أَدُومَ يَوْمَ أُورُشَلِيمَ، القَائِلِينَ: هُدُّوا، هُدُّوا حَتَّى إِلَى أَسَاسِهَا.

8 يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُخْرَبَةَ، طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا!

9 طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَة!”

مقطع “إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي” أصبح مع الوقت الترنيمة التي جسّدت محوريّة القدس عند بني إسرائيل القدماء بعد وقت السبي (ونجده أيضاً إلى يومنا هذا في العقل الديني والسيكولوجيا العرقيّة عند اليهود)، وهذا دليل على نجاح الدعاية، خصوصاً مع الدور الذي لعبه من عاد من السبي البابلي في أواخر القرن السادس، كما نجد في سفر عزرا الذي يركّز على الدور المحوري للقدس وهيكلها.

هذا الأمر ليس بغريب لأنّ سفر عزرا يعكس تحديداً تجربة من عادوا إلى أورشليم من السبي البابلي. وليس صحيحاً كما هو شائع أن جميع بني إسرائيل القدماء تم جرّهم إلى السبي في بابل، بل فقط أهل أورشليم (وبالفعل، نقرأ أسماءهم في الإصحاح الثاني من سفر عزرا). لذلك، علينا قراءة السفر كجزء من صراع على النفوذ داخل الخليط الإسرائيلي القديم، وكمحاولة ممن رجعوا من السبي للهيمنة على دين بني إسرائيلي (وبنجاح هذه المرّة)، وتركيزهم على قصّة إعادة بناء الهيكل وكأنّه فتح عهداً جديداً لبني إسرائيل مع الله، وبذلك رسّخوا سيطرة أورشليم ومن فيها على كامل الهويّة الدينيّة الإسرائيليّة منذ تلك الفترة، مروراً بالقرن الميلادي الأوّل (مع ظهور المسيحيّة)، وحتّى يومنا هذا.

***

هنا، تلفتنا نظرنا صورة الهيكل، تخرج من تحته المياه، والتي يصفها لنا سفر النبي حزقيال – والتي تطوّرت مع الوقت لتصبح أسطورة أنّ مياه العالم وأنهاره تخرج من تحت صخرة بيت المقدس – كما في “الرؤية” المنسوبة له في الآيات 1-5 من الإصحاح السابع والأربعين:

1 ثُمَّ أَرْجَعَنِي إِلى مَدْخَلِ البَيْتِ وَإِذَا بِمِيَاهٍ تَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ عَتَبَةِ البَيْتِ نَحْوَ المَشْرِقِ، لأَنَّ وَجْهَ البَيْتِ نَحْوَ المَشْرِق. وَالمِيَاهُ نَازِلَةٌ مِنْ تَحْتِ جَانِبِ البَيْتِ الأَيْمَنِ عَنْ جَنُوبِ المَذْبَحِ. 2 ثُمَّ أَخْرَجَنِي مِنْ طَرِيقِ بَابِ الشِّمَالِ وَدَارَ بِي فِي الطَّرِيقِ مِنْ خَارِجٍ إِلَى البَابِ الخَارِجِيِّ مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي يَتَّجِهُ نَحْوَ المَشْرِقِ، وَإِذَا بِمِيَاهٍ جَارِيَةٍ مِنَ الجَانِبِ الأَيْمَنِ. 3 وَعِنْدَ خُرُوجِ الرَّجُلِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالخَيْطُ بِيَدِهِ، قَاسَ أَلْفَ ذِرَاعٍ وَعَبَّرَنِي فِي المِيَاهِ، وَالمِيَاهُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. 4 ثُمَّ قَاسَ أَلْفاً وَعَبَّرَنِي فِي المِيَاهِ، وَالمِيَاهُ إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ. ثُمَّ قَاسَ أَلفًا وَعَبَّرَنِي، وَالمِيَاهُ إِلَى الحَقْوَيْنِ. 5 ثُمَّ قَاسَ أَلفاً، وَإِذَا بِنَهْرٍ لَمْ أَسْتَطِعْ عُبُورَهُ، لأَنَّ المِيَاهَ طَمَتْ، مِيَاهَ سِبَاحَةٍ، نَهْرٍ لاَ يُعْبَرُ“.

وسفر حزقيال نتاج من تم سبيهم إلى بابل، ويعكس نظرتهم وروايتهم للأحداث التي سبقت ورؤيتهم وأهدافهم المستقبليّة. لذلك، يجب التعامل معه، كما في سفر عزرا، كجزء من الدعاية التي أتحدّث عنها.

وللمفارقة، يُعيد الإصحاح السابع والأربعين من سفر حزقيال (الآيات 13-23) تعرفة حدود أرض الميعاد، لكن مع تغييرات ملفتة للإنتباه، تحديداً إدخال سكّان الأرض من أصل غير إسرائيلي (والذين يُعرّفهم السفر بـ”الغرباء”) كورثة للعهد، لهم فيه نصيب (وهو ما لا نجده في الروايات السابقة، ويمكن أنّه عكس واقع أنّه من رجع من السبي كانوا أقليّة وبحاجة لمساعدة أهل فلسطين “الغرباء” من أجل السيطرة على باقي قبائل إسرائيل):

إقرأ على موقع 180  التطبيع السعودي فرصة لفلسطين.. وإلا لاتَ ساعة مندم

13 هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: هذَا هُوَ التُّخْمُ الَّذِي بِهِ تَمْتَلِكُونَ الأَرْضَ بِحَسَبِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ، يُوسُفُ قِسْمَانِ.14 وَتَمْتَلِكُونَهَا أَحَدُكُمْ كَصَاحِبِهِ، الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي لأُعْطِيَ آبَاءَكُمْ إِيَّاهَا. وَهذِهِ الأَرْضُ تَقَعُ لَكُمْ نَصِيباً. 15 وَهذَا تُخْمُ الأَرْضِ: نَحْوَ الشِّمَالِ مِنَ الْبَحْرِ الْكَبِيرِ طَرِيقُ حِثْلُونَ إِلَى الْمَجِيءِ إِلَى صَدَدَ، 16 حَمَاةُ وَبَيْرُوثَةُ وَسِبْرَائِمُ، الَّتِي بَيْنَ تُخْمِ دِمَشْقَ وَتُخْمِ حَمَاةَ، وَحَصْرُ الْوُسْطَى، الَّتِي عَلَى تُخْمِ حَوْرَانَ. 17 وَيَكُونُ التُّخْمُ مِنَ الْبَحْرِ حَصْرَ عِينَانَ تُخْمَ دِمَشْقَ وَالشِّمَالُ شِمَالاً وَتُخْمَ حَمَاةَ. وَهذَا جَانِبُ الشِّمَالِ. 18 وَجَانِبُ الشَّرْقِ بَيْنَ حَوْرَانَ وَدِمَشْقَ وَجِلْعَادَ وَأَرْضَ إِسْرَائِيلَ الأُرْدُنُّ. مِنَ التُّخْمِ إِلَى الْبَحْرِ الشَّرْقِيِّ تَقِيسُونَ. وَهذَا جَانِبُ الْمَشْرِقِ. 19 وَجَانِبُ الْجَنُوبِ يَمِينًا مِنْ ثَامَارَ إِلَى مِيَاهِ مَرِيبُوثَ قَادِشَ النَّهْرُ إِلَى الْبَحْرِ الْكَبِيرِ. وَهذَا جَانِبُ الْيَمِينِ جَنُوباً. 20 وَجَانِبُ الْغَرْبِ الْبَحْرُ الْكَبِيرُ مِنَ التُّخْمِ إِلَى مُقَابِلِ مَدْخَلِ حَمَاةَ. وَهذَا جَانِبُ الْغَرْبِ. 21 فَتَقْتَسِمُونَ هذِهِ الأَرْضَ لَكُمْ لأَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ. 22 وَيَكُونُ أَنَّكُمْ تَقْسِمُونَهَا بِالْقُرْعَةِ لَكُمْ وَلِلْغُرَبَاءِ الْمُتَغَرِّبِينَ فِي وَسْطِكُمُ الَّذِينَ يَلِدُونَ بَنِينَ فِي وَسْطِكُمْ، فَيَكُونُونَ لَكُمْ كَالْوَطَنِيِّينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. يُقَاسِمُونَكُمُ الْمِيرَاثَ فِي وَسْطِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ. 23 وَيَكُونُ أَنَّهُ فِي السِّبْطِ الَّذِي فِيهِ يَتَغَرَّبُ غَرِيبٌ هُنَاكَ تُعْطُونَهُ مِيرَاثَهُ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ“.

***

إنّ قيام الملك هيرودس الأوّل (توفي سنة 4 قبل الميلاد) بترميم الهيكل وبناء حرم كبير له (وهو جهد أكمله أبناءه وأحفاده من بعده، وكلّهم حملوا تسمية “هيرودس”) زاد من مركزيّة القدس وهيكلها، بحيث أنّها أدخلت الحرم كلّه في تلك القدسيّة.

ومع تدمير الرومان للهيكل في سنة 70، تحوّل الدين الإسرائيلي القديم من دين يتمحور حول الهيكل والطقوس (بما في ذلك الأضحية) والتي سيطر عليها الكهنة (Priests) إلى دين يرتكز على دراسة التوراة وتفسيرها والذي سيطر وما يزال يسيطر عليه الحاخامات (Rabbis). وانتقل الإهتمام من الهيكل الذي لم يعد موجوداً إلى كامل الحرم، بما في ذلك، الصخرة التي بدأت باكتساب أهميّة، بما في ذلك الإعتقاد أنّ عليها وضع تابوت العهد، وبُني فوقها الهيكل، وهي الصخرة التي أمر الله إبراهيم أن يذبح ابنه عليه، و..، والتي تُعرف في الديانة اليهوديّة بـ “صخرة الأساس” (Foundation Stone؛ وفي العبريّة even ha-shetiyah).

وأصبح ذكر تدمير الهيكل في التاسع من آب/أغسطس أهمّ ذكرى في الدين اليهودي، وهو يوم حجّ فيه اليهود إلى القدس للصلاة عند الصخرة (كما تذكر بعض المصادر المسيحيّة من القرن الرابع وأخرى يهوديّة من تلك الفترة ايضاً).

***

ومن أهمّ الإعتقادات الجديدة التي تمّ تداولها عن الحرم والصخرة أنّها مركز العالم، كما يقول التفسير المنسوب إلى تنحوما (Midrash Tanhuma، وهو تفسير لكامل التوراة من ما بين القرنين السادس والعاشر للميلاد):

“كما السرّة التي في وسط جسم الإنسان،

كذلك أرض إسرائيل هي سرّة العالم،

فهي تقع في وسط العالم،

وأورشليم في وسط أرض إسرائيل،

والحرم في وسط أورشليم،

والهيكل في وسط الحرم،

وتابوت العهد في وسط الهيكل،

وصخرة الأساس أمام الهيكل

لأنه من الصخرة تأسس العالم”.

ما نقرأه هنا هو تأسيس لفكرة مركزيّة الأرض، والتي تتمحور حول دوائر في داخل بعضها البعض، أكبرها الأرض، وأصغرها الصخرة. لكن مشكلة كثير من هذه الكتب أنّنا لا نعرف تاريخ كتابتها بدقّة، وبذلك فنحن لا ندري ما إذا كان التراث الإسلامي أثّر في بعض هذا المعتقدات اليهوديّة أم أنّ التراث اليهودي أثّر بالفكر الإسلامي عن قدسيّة الحرم القدسي.

(*) راجع الجزء الأول: الصراع على القدس وفلسطين ببعده الديني.. نماذج الرحابنة وقباني وطوقان

(*) راجع الجزء الثاني: الصراع على فلسطين.. أي أرض وعد الله بها إبراهيم

(*) راجع الجزء الثالث: الصراع على فلسطين: كيف أدخلت “اورشليم” إلى الرواية التوراتية؟

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  بل هُم أهلُ الحياة الحقّ.. لا أهل "ثقافة الموت"