

أثار الطلب اهتمام جماعة التكامليين العرب وأثارت الاستجابة السخية عند إذاعتها إحباطهم. عبّر بعضهم عن الإحباط بالقول إنهم كانوا يأملون أن يُخصص مبلغ بهذا الحجم لتنفيذ مشاريع اقتصادية تكاملية تسهم في إنعاش أو على الأقل وقف انهيار النظام الإقليمي العربي حتى تتجدد دوافعه فيُبعث من جديد.
خشيتُ طويلاً أن أجاهر بموقف من هذا الرأي يُساء فهمه فيتسبب سوء الفهم في زيادة الإحباط. ولكني الآن، وأمام اطراد التفكك والانفراط وتفاقم مظاهر الانحدار في منظومة العمل العربي المشترك، عدت لأجاهر مطمئناً إلى أن الفريق الأكبر في جماعة التكامليين العرب لن يسئ فهم موقفي. موقفي يتلخص كما ذكرت في مواقع أخرى في أن أي مبلغ مهما كان حجمه وأياً كان مصدره وأياً كانت وجهته وأياً كانت درجة صدقيته لن يُحقق فائدة تذكر للمشروع التكاملي العربي طالما ظلت في مكانها وربما متفاقمة العقبات والتحديات التي تواجه هذا المشروع– الحلم وتقف حائلاً دون تحقيقه. أشير هنا وفي عجالة متعمدة إلى أهم ما قصدت كعقبات وتحديات تواجه المشروع التكاملي، وهي الآتية:
أولاً؛ انحسار العقيدة. وأعني بها تخلي شريحة كبيرة من المسئولين والإعلاميين بخاصة في مختلف الأوطان والأقطار العربية عن الإيمان بالقومية العربية كعقيدة سياسية ومنهاجاً للعمل السياسي والاقتصادي وبالعروبة كصفة شاملة ومظلة يحتمي بها وتُظلّل مكونات متعددة من شعوب المنطقة العربية. رحتُ أبحث في خطابات وتصريحات مختلف زعماء المنطقة عن كلمة عربي وعروبة وقومية ونادراً ما أجدها فيها وهي التي كانت تُزيّن خطاباتهم وتصريحاتهم، وأهم من الزينة كانت تمنحها القوة والصدقية وتمنحهم القدوة. تراجعت مكانة العروبة كهوية مع تراجعها كمرجعية وولاء واعتزاز. أريد لها الانحسار بعد أن شنت الحملات والخطط لإضعاف العقيدة الدينية الأولى في المنطقة باستخدام العنف المسلح والتآمر المتواصل. هكذا ساهموا في صنع أساس الانفراط والتبعثر بين شعوب المنطقة وفي داخل كل شعب منها.
سنوات قليلة وربما شهور تفصلنا عن واقع دولي جديد وآخر إقليمي وجديد أيضاً، وكلاهما يجرى رسم تفاصيله الآن. وبقدر ما نبذل من جهد نحو استعادة مصادر قوتنا وقوة عقائدنا بقدر ما نفرض موقعاً سياسياً لنا على الخرائط التي نرى الآخرين يرسمونها أمامنا، أحياناً في العلن، وأحياناً كثيرة بالعنف الممكن، وأحياناً بتواطؤ الضعف والمسايرة
ثانياً؛ استخدام التطبيع في علاقات الدول العربية مع إسرائيل بقصد هدم أو تفكيك القومية العربية كعقيدة سياسية أولى في الوطن العربي. يفهم البعض التطبيع كمجرد تبادل دبلوماسيين وإقامة سفارات. التطبيع الحقيقي كما هو ملاحظ خلال تجاربه العديدة يعني أكثر بكثير، يعني مثلاً:
(أ) امتناع الدول المطبعة عن عقد اتفاقات أمنية وإقامة علاقات أوثق مع دول عربية أو أجنبية ليست على وفاق مع إسرائيل.
(ب) امتناع مناهجها التعليمية عن تدريس الحقائق التاريخية والدينية عن شعب إسرائيل وخطط توسعها وكل ما يسيء لسمعة اليهود.
(ج) عدم التصويت ضد إسرائيل في مجالس الأمم المتحدة ومنظماتها.
(د) الامتناع عن نشر الأخبار والتعليقات والآراء المناهضة لها وللصهيونية في أجهزة الإعلام.
(هـ) عدم ترشيح شخصيات معروفة بمواقفها المعادية للصهيونية وإسرائيل في وظائف دولية مرموقة.
لا أدري بأي صفة أصف هذه الضرورات التي فرضها التطبيع إلا بأنها تدخل سافر في شئون الدولة العربية المطبعة وخرق واضح لسيادتها، وفي المحصلة تصير طرفاً مخالفاً في منظومة العمل القومي المشترك، والأدهى أن تصير هي نفسها قدوة للدول الأقل شأناً في العمل العربي المشترك والساعية لكسب رضا الولايات المتحدة، الدولة الأعظم الحريصة على دعم، وربما فرض، كل عمل “تطبيعي” مع إسرائيل.
من هنا يمكن القول إن أحداث وتفاصيل حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة والضفة كانت امتحاناً عسيراً لأمة منزوعة العقيدة السياسية، أي منزوعة العروبة بمضمونها العقائدي.
ثالثا: ما زلنا كعرب نعيش قسوة ووحشية مرحلة الانتقال من نظام دولي منتهي الصلاحية إلى نظام جديد يتكون. نعرف أن مثل هذه المراحل يسود فيها العنف في أشد وأقسى أشكاله أو الفوضى الضاربة سياسياً والحافلة بعمليات إسقاط مؤسسات وإثارة اضطرابات كما حدث في سوريا واليمن والسودان وتغيير أنظمة حكم كما حدث في العراق وليبيا. هذه الحالة مرشحة للاستمرار طالما ظل النظام الدولي الجديد والنظام الإقليمي أو النظم الإقليمية الجديدة في الشرق الأوسط في دور التكوين. بمعنى آخر سوف تظل حالة عدم الاستقرار والعنف بكافة أنواعه وحالات الضم والانفراط هي السائدة في العالم الخارجي كما في الشرق الأوسط.
لاحظنا كم أصبح الدور الروسي والدور الصيني، كما الدور الأوروبي، في المسألة الفلسطينية هامشياً أو كما يطلقون هم عليه، براجماتياً. بمعنى آخر يوجد ما يشبه الإقرار بأن حال توازن القوى الدولي الراهن ممتزجاً بخطط الترتيب لعالم ما بعد فلسطين وأوكرانيا يفرض على القوى الكبرى التزام الواقعية والمصالح والابتعاد عن الأيديولوجيا قدر المستطاع.
رابعاً؛ العجز المتكرر في الدبلوماسيات الأجنبية كما العربية عن التوصل لصيغة يستقر بها الخطاب الدبلوماسي المتعلق بحرب الإبادة الإسرائيلية على تعريف مناسب لدور المقاومة الفلسطينية في المستقبل. نعترف أن كافة محاولات إنكار وجودها في الماضي كما في الحاضر فشلت أمام التوسع المستمر من جانب المستوطنين في أراضي وممتلكات العرب الفلسطينيين. من الضروري أن نتوقع استمرار هذا التوسع واستمرار المقاومة المسلحة ضده، ولن يفلح الإصرار على صيغة نزع سلاح القرى والمخيمات والبيوت الفلسطينية، وسوف تظل المقاومة في نظر أمريكا ومبعوثيها من الصهاينة الكارهين للعرب “سرطاناً”، حسب فهم السيدة “مورجان أورتاجوس” المبعوثة الشخصية للرئيس دونالد ترامب، بينما واقع الحال يقضي بأن شيئاً مشروعاً ومقبولاً وممكناً يُمكن أن يوقف زحف المستوطنين إلا المقاومة المسلحة.
خامساً؛ ربما، وأقول “ربما” لغرض. ربما كانت، وستظل، منظمة التحرير الفلسطينية بحالها القائم والثابت أحد أهم التحديات والعقبات التي حالت دون تطور النظام الإقليمي العربي تماشياً مع رأي الآباء المؤسسين للفكر القومي العربي. حاول القائمون عليها إرضاء كافة الأمزجة والتيارات السياسية العربية حتى استحقت بالفعل صفة الرقم الصعب في المعادلة الإقليمية. ليس سراً أن هذه الأمزجة والتيارات وتصنيفات أخرى عديدة اهتمت بمنظمة تحرير فلسطين بأكثر مما استحقت عملياً. لاحظنا مراراً حتى اقتنعنا أنها أنعمت عليها بصفة الدولة لتخلي بعض مسئوليتها عن فلسطين وهي تنساب من بين أصابع الزعماء العرب. كانت الكاشف العظيم للعجز العربي العام والمنفرد، وفي الوقت نفسه كان احتمال غيابها لو أسقطها العرب من جداولهم كاشفاً أعظم. كان وجودها هاماً وغيابها لو وقع أهم. استخدمها حكام إسرائيل للنفاذ إلى قلب فلسطين أو ما يمثله، إسرائيل هي القناة التي توصل مستحقات المنظمة وموظفي فلسطين وهي المسئولة نظرياً عن أمنها وسلامة قادتها.
لم ننتبه نحن وغيرنا إلى حقيقة أن انحدار النظام الدولي وانهيار بعض أهم مؤسساته ودخوله في المرحلة الانتقالية سوف يعود بأقصى الضرر على المنظمة الفلسطينية المحسوبة ضمناً على هذا النظام المنتهية صلاحيته، وهي أيضاً المحسوبة ضمناً، قومياً وإقليمياً، على نظام عربي يفقد بالتدريج صفته القومية، وإن استمر متعلقاً بصفته الأخرى، أقصد الصفة الإقليمية، وهذه كما نعرف صارت في مهب أعاصير تصنع الآن حدوداً جديدة لكافة دول الشرق الأوسط وأوزاناً جديدة لحقيقة القوى المكونة لإقليم الشرق الأوسط. للمنظمة كما نسمع ونرى دور متوقع وجديد يرسمه لها المنتصرون في حرب غزة والضفة في مباحثات ما يسمى بـ”اليوم التالي” لوقف القتال في غزة.
على كل حال لا نعتقد أن يكون هذا الدور، إن تحقق، عنصراً إيجابياً يخدم هدف إعادة موضوع التكامل الأمني والاقتصادي إلى مكانة المستحق في جدول اهتمامات العرب في المستقبل القريب.
***
سنوات قليلة وربما شهور تفصلنا عن واقع دولي جديد وآخر إقليمي وجديد أيضاً، وكلاهما يجرى رسم تفاصيله الآن. وبقدر ما نبذل من جهد نحو استعادة مصادر قوتنا وقوة عقائدنا بقدر ما نفرض موقعاً سياسياً لنا على الخرائط التي نرى الآخرين يرسمونها أمامنا، أحياناً في العلن، وأحياناً كثيرة بالعنف الممكن، وأحياناً بتواطؤ الضعف والمسايرة.