من يتحكم بقرار “إسرائيل” العسكري.. رئيس الأركان أم حكومة نتنياهو؟

لم يكن الخلاف بين المستويَين السياسي والعسكري في دولة الاحتلال ظاهرةً طارئة، بل تصاعَد تصاعدًا متسارعًا مع وصول ائتلاف اليمين المتطرف إلى الحكم، وهيمنة شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش على مواقع وزارية مؤثرة.

يتعرض جيش الاحتلال لمحاولات مستمرة لإعادة تشكيل بنيتِه بما يخدم الأهداف الأيديولوجية والسياسية لليمين الإسرائيلي، وبخاصةً عبر إحكام السيطرة على هيئة الأركان والمؤسسات الأمنية. وقد شكَّلت أحداثُ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ذريعة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتعزيز مشروع تطويع المنظومة الأمنية والقضائية بما يخدم شبقه للسلطة.

ومع تعيينه رئيسًا للأركان خلفًا لهرتسي هاليفي، راهَن اليمين على شخصية إيال زامير العسكرية ونهجه الهجومي وعلاقته الوثيقة بنتنياهو لتسريع عملية إخضاع الجيش للقرار السياسي، إلا أن مجريات الواقع كشفت عن استمرار حالة الشد والجذب بين المستويَين، مع بروز تمايُز واضح بين أداء زامير وسلفه، خصوصًا في ظل تصاعد الخلافات حول إدارة العمليات في قطاع غزة، ودور الجيش في الشؤون المدنية.

الرهان الطَّموح 

لا يُعَدُّ إيال زامير جنرالًا هامشيًّا في جيش الاحتلال، بل يتمتع بتجربة طويلة ومسيرة عسكرية بارزة، فقد شغل منصب نائب رئيس الأركان في عهد رئيس الأركان الجنرال أفيف كوخافي بين العامين 2018 و2021، وكان مرشحًا بارزًا لمنصب رئاسة الأركان قبل أن يقع الاختيار على هرتسي هاليفي من قبل حكومة تسيير الأعمال برئاسة بينيت-لابيد، وبمسؤولية وزير الحرب حينها بيني غانتس.

كان زامير المرشَّح المفضَّل لنتنياهو، الذي لم يُخفِ امتعاضه من تفويت فرصة تعيينه في خلال الفترة الوحيدة التي كان فيها خارج رئاسة الحكومة. ويُذكر أن العلاقة تعزّزت بين الرجلين في سنوات عمل زامير سكرتيرًا عسكريًّا لنتنياهو بين العامين 2012 و2015، وهي فترة حافلة بالتصعيد العسكري ضد الفلسطينيين.

شارك زامير في محطات مركزية من القمع والاعتداءات ضد الشعب الفلسطيني، بدءًا من الانتفاضتين الأولى والثانية، إذ أشرف في خلال الثانية على العمليات العسكرية في جنين، كما قاد الكتيبة 75 خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وتواجَد ضمن القوات المحيطة بمجزرة صبرا وشاتيلا في العام 1982. وفي العام 2018، تولى قيادة المنطقة الجنوبية لجيش الاحتلال، وأشرف على قمع المشاركين في مسِيرات العودة الكبرى على حدود قطاع غزة، حيث قُتل وأُصيب آلاف الفلسطينيين.

مثَّل تعيين زامير نقطة تحوُّل في قيادة الجيش، فهو أول رئيس أركان قادم من سلاح المدرعات منذ أكثر من نصف قرن، وثالث رئيس أركان من مدينة أم الرشراش المحتلة “إيلات”، بعد شاؤول موفاز وغادي آيزنكوت. كما أنه الأكبر سنًّا بين رؤساء الأركان، إذ تسلَّم المنصب في التاسعة والخمسين من عمره، متجاوزًا أسلافه الذين تقاعدوا في سن أصغر.

حمل زامير معه إلى قيادة الجيش عقيدة قتالية هجومية تقوم على المبادرة الاستباقية والحسم السريع، وهي عقيدة عبَّر عنها في خطاباته، لا سيما في آخر خطاب له كنائب رئيس للأركان، إذ حذَّر من احتمال نشوب “معركة ثقيلة وطويلة ومتعددة الجبهات، مترافقة مع تحديات داخلية”، داعيًا إلى تعزيز قدرات الحسم والصمود وبناء جيش احتياط قوي.

أظهر زامير في خلال مسيرته تأييدًا علنيًّا لسياسات العقوبات الجماعية ضد الفلسطينيين، عادًّا أنها مشروعة في مواجهة ما يسميه “الإرهاب الشعبي”، ومقترِحًا وسائلَ تشمل العقوبات الاقتصادية، وقطع الكهرباء، وحظر المواد الخام والوقود، وفرض الإغلاقات الشاملة. كما عزَّز هذه الرؤية بتأكيده شرعية “الاغتيالات المستهدفة” بحق قادة المقاومة، عادًّا إياها “وسيلة ردع شخصية” فعالة.

ويمكن الجزم بأنه لم يكن تعيين زامير خطوةً تقنيةً لاستبدال رئيس أركان فحسب، بل كان – في منظور الحكومة الإسرائيلية – جزءًا من محاولة التأسيس لمرحلة جديدة في العلاقة بين القيادة السياسية والمؤسسة العسكرية، لا سيما بالنسبة إلى نتنياهو، الذي رأى في زامير جسرًا محتملًا لترميم التوتر. وقد رفع قادة اليمين الصهيوني آمالهم به، مقدِّمين إياه بوصفه “الجنرال المخلص”، الذي يحترم القرار السياسي ويُبدي ولاءً شخصيًّا لنتنياهو.

تصادم مبكر 

لم يَمضِ وقت طويل على تسلُّم إيال زامير رئاسة أركان جيش الاحتلال حتى وجد نفسه في مواجهة علنية مع وزير الحرب يسرائيل كاتس، في مشهد عكس حدة الصراع الدائر للسيطرة على المؤسسة العسكرية.

بعد 19 يومًا فقط من دخوله مكتبه خلفًا لهرتسي هاليفي، الذي كان بدوره طرفًا رئيسيًّا في الخلاف بين المستوى العسكري والمستوى السياسي بقيادة نتنياهو عقب الفشل الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، اندلع أول اشتباك بين زامير وكاتس.

فقد طالب كاتس، عبر بيان رسمي، بفتح تحقيق في أداء الادعاء العسكري بعد استدعاء ضابط الاحتياط أورِن سولومون، الذي قاد تحقيقات داخلية حول إخفاقات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عادًّا أن التحقيق معه يثير تساؤلات حول استهداف المنتقدِين داخل الجيش. وحذر كاتس من “تحوُّل التحقيقات إلى أداة لإسكات النقد الداخلي”.

ردّ زامير فورًا بنبرة حاسمة، مؤكدًا أن الجيش لا يتلقى التعليمات عبر وسائل الإعلام، ومشددًا على أن استدعاء سولومون يتعلق بشبهات بمخالفات أمنية خطيرة، لا بدوافع انتقامية، مضيفًا: “أدعم أجهزة إنفاذ القانون في الجيش التي تعمل بمهنية وموضوعية. الادعاء بأن التحقيق مرتبط بتحقيقات السابع من أكتوبر/تشرين الأول هو ادعاء كاذب لا أساس له”.

يكمن جوهر الخلاف بين رئيس الأركان إيال زامير والمستوى السياسي الإسرائيلي، بمختلف أجنحته، في تباين الأهداف والمرجعيات: فبينما يسعى وزراء اليمين، من “الليكود” حتى الصهيونية الدينية، إلى تحقيق أهداف سياسية أيديولوجية، يتمسك الجيش بحسابات عملياتية ومهنية بحتة

لم تتوقف الخلافات عند هذه المواجهة، بل تصاعدت مع استئناف العمليات العسكرية وحرب الإبادة في غزة. وكشف الصحفي الإسرائيلي عاميت سيغال عن تصاعد التوتر بين زامير وعدة وزراء في الحكومة، خصوصًا بشأن قضية توزيع المساعدات الإنسانية في غزة.

في خلال جلسة للكابينت، رفض زامير تولِّي الجيش مسؤولية توزيع المساعدات، قائلاً: “لن يوزع الجنود المساعدات الإنسانية في القطاع”، ما فجَّر خلافًا مع وزراء مثل وزير الحرب كاتس ووزير المالية سموتريتش ووزير القضاء يريف ليفين. وأوضح زامير للمستوى السياسي أن السيطرة الكاملة على غزة تتطلب حشد قوات كبيرة وشهورًا من العمليات، لافتًا النظر إلى النقص الحاد في أعداد قوات الاحتياط الملتزمة بالخدمة.

إقرأ على موقع 180  عن فلسطين العربية.. والأنظمة العربية ـ العبرية!

فجَّرت تصريحات زامير غضبَ اليمين. وهاجم سموتريتش رئيسَ الأركان بشكل مباشر في جلسة الكابينت، قائلاً بلهجة حادة: “لا يختار الجيش مهامه. القيادة السياسية تقرر، وإن لم تستطيعوا التنفيذ فسنجد من يفعل”. وأضاف: “قرّرنا ألا تصل أية مساعدات إلى “حماس”، ولا يهمني كيف يحدث ذلك. إن كنتم لا تعرفون كيف، فقولوا ذلك للقيادة السياسية”.

التصعيد في الخطاب بين قيادة الجيش والمستوى السياسي، وهو لا يقتصر على توزيع المساعدات، يعكس بوضوح أزمة أعمق تتعلق بمن يتحكم فعليًّا بمسار العمليات في غزة: الجيش وفق تقييماته العسكرية، أم الحكومة اليمينية وفق اعتبارات سياسية ضيقة.

القرار للسياسة أم للميدان؟

يكمن جوهر الخلاف بين رئيس الأركان إيال زامير والمستوى السياسي الإسرائيلي، بمختلف أجنحته، في تباين الأهداف والمرجعيات: فبينما يسعى وزراء اليمين، من “الليكود” حتى الصهيونية الدينية، إلى تحقيق أهداف سياسية أيديولوجية، يتمسك الجيش بحسابات عملياتية ومهنية بحتة.

بالنسبة إلى التيار الديني الصهيوني، يتجسد الهدف الأيديولوجي في إعادة الاستيطان إلى قطاع غزة ودفع مشاريع التهجير نحو مراحل أكثر تنفيذًا. وضمن هذا السياق، يضغط وزراء مثل بن غفير وسموتريتش في اتجاه توسيع العمليات العسكرية إلى غزو شامل لكامل القطاع، مع فرض سيطرة عسكرية دائمة على السكان، وإقامة قواعد قد تتحول مستقبلًا إلى بؤر استيطانية، في محاولة لفرض وقائع سياسية يصعب التراجع عنها.

ومن هذا المنطلق، يضغط هؤلاء الوزراء لتكليف الجيش بمهمة توزيع المساعدات الإنسانية مباشرة، بما يكرِّس واقعَ “الحكم العسكري” على غزة، ويُسرِّع في فرض المشروع الاستيطاني الجديد.

في المقابل، يتبنَّى نتنياهو مقاربة مختلفة تقوم على إدامة “حالة الحرب” بوتيرة مدروسة دون السعي إلى توسيع العمليات الميدانية بسرعة، هادفًا إلى تحقيق مكاسب سياسية داخلية عبر إبقاء حكومته مستقرة، بأقل قدر ممكن من الكلفة البشرية والاقتصادية، مع تجنُّب استدعاء واسع للاحتياط أو تحميل الجبهة الداخلية أعباء إضافية. ومع ذلك، فإنه يناور أحيانًا لتحقيق بعض مطالب شركائه في الائتلاف عبر خطوات تصعيدية محسوبة، ضمن اعتبارات سياسية لا تستند إلى تقييم أمني فعلي.

وسط هذه المعادلة، يحاول جيش الاحتلال، بقيادة زامير، المحافظةَ على استقلالية تقديراته العملياتية، رافضًا الخضوع للإملاءات السياسية أو الأيديولوجية. فالتقديرات التي يعتمدها الجيش تُبنى على قراءة ميدانية عملية، مستقاة من استخلاصات حرب استنزاف مستمرة منذ أكثر من 18 شهرًا دون تحقيق إنجازات حاسمة.

عمليًّا، تعود هيئة الأركان الجديدة بقيادة إيال زامير إلى تبنِّي الخط ذاته الذي سلكه سلفه هرتسي هاليفي ووزير الحرب المُقال يؤاف غالانت، والمتمثل بالاقتناع بأن الضغط العسكري وحده لن يحقق أهداف الحرب، وأن تجاهُل استحقاقات “اليوم التالي” سيؤدي إلى استنزاف مستمر بلا نتائج استراتيجية.

يُدرك الجيش، ورئيس أركانه الحالي، أنه لا يمكن أن تبقى قضية المساعدات الإنسانية لقطاع غزة عالقةً بلا حلول، وأنه لا يجب أن يتحول تجويع السكان إلى هدف بحد ذاته، بل إن “إسرائيل” مطالبة بوضع خطة واضحة لإدارة هذا الملف، خصوصًا مع التحذيرات من أن الانخراط الميداني المباشر في توزيع المساعدات سيعرض قوات الجيش لخطر الاستنزاف وفقدان السيطرة، ما يسعى زامير إلى تجنبه بأي ثمن.

ضمن هذه الرؤية، يظهر تحفظ زامير المتزايد على دفع جنود جيش الاحتلال إلى عمليات لا تملك أفقًا سياسيًّا أو نتائج ميدانية منظورة، تفاديًا لسقوط قتلى وخسائر غير مبرَّرة.

لاءات زامير 

تعكس سلسلة “اللاءات” التي رفعها إيال زامير في وجه المستوى السياسي الإسرائيلي ملامحَ نهجِه الصارم: لا لتولِّي الجيش مهمة توزيع المساعدات في غزة، ولا للسماح بحدوث مجاعة في القطاع، ولا لتمكين “حماس” من السيطرة على المساعدات. وهي “لاءات” تؤكد أن حالة الشد والجذب بين المستويَين العسكري والسياسي في “إسرائيل” مرشحة للاستمرار طويلًا.

يدرك زامير، كغيره من الجنرالات المخضرمين، أن جزءًا كبيرًا من التوتر الحالي ناتج عن مساعي قادة اليمين الصهيوني لتسييس الجيش، عبر محاولات إحكام السيطرة على تركيبته المؤسسية وتوجيه سلوكه الميداني لخدمة أجنداتهم الأيديولوجية والسياسية.

يتمتع زامير بخبرة سياسية واسعة، ومعرفته الدقيقة بتفاصيل النظام السياسي الإسرائيلي، إلى جانب علاقته الطويلة بنتنياهو، التي تجعله قادرًا على المناورة بحنكة. وعلى الرغم من صلته الوثيقة برئيس الحكومة، يُوصَف زامير بين المقربين منه بأنه “رجل صلب”، قادر على اتخاذ قرارات مستقلة وصعبة دون تفريط بثقة القيادة السياسية أو القطيعة معها.

المفارقة الأساسية بين زامير وسلفه هاليفي تكمن في أن الأول لا يتحمل عبء المسؤولية عن الفشل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولا يلاحقه الضغط الشعبي أو السياسي الذي لازم سلفه. كما أن شخصيته القوية وخبرته العسكرية الطويلة تجعلانه أقل عرضة للابتزاز السياسي، في ظل حكومة يغلب عليها وزراء بلا سجل عسكري جاد، بل إن بعضهم لم يتجند أصلًا.

وتُدلِّل هذه المعطيات على أن التوتر بين المؤسسة العسكرية والحكومة سيظل سائدًا طالما استمرت الحرب على غزة في دائرة “اللا يقين”، وسط جدل داخلي محتدم حول الأهداف والوسائل. وفي هذا السياق، تحوّلت الآمال التي علقتها قوى اليمين المتطرف على زامير بوصفه “رئيس الأركان المطواع” إلى مصدر إضافي للتوتر.

يراهن وزراء مثل سموتريتش على تكرار سيناريو إقصاء رئيس الأركان السابق، لكن المعادلة الحالية تبدو أكثر تعقيدًا، خصوصًا في ظل معادلات جديدة أظهرتها قوائمُ المطالِبين بإيقاف الحرب وتراجُع الدافعية تجاه النهج التصعيدي، واختلاف المشهد السياسي والعسكري عن ذي قبل.

أما نتنياهو، الذي يظل صاحب السطوة الحقيقية، فيكتفي غالبًا بلعب دور المتفرج، مستثمرًا حالة التوتر بين المؤسسة العسكرية وحلفائه لتقليص هامش مناوراتهم، دون أن يتورط في مواجهتهم المباشرة، بما يُبقي أوراق اللعبة بيده حتى إشعار آخر.

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الطناني

كاتب فلسطيني مقيم في غزة

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  زيارة محمود عباس إلى بيروت.. الأهداف والسياقات