الماضي.. والمقدس

نستخرج المقدس من الماضي ولا نقول التاريخ، لأن الماضي ثابت في الوعي، والتاريخ مسار تطوّري دائم، يتجاوز الماضي والحاضر إلى المستقبل. ونحن مجتمعات ماضوية في وعيها، ذات رؤية عما مضى ثابتة لا تتغيّر إلا بما يؤكد الرواية ويزيد عليها مع مرور الأيام. ومن جملة المستخرجات هي المقدسات التي تحاط بالتأكيد وتصير فاعلة في الهوية، حتى أنها تكاد تستغرقها في كثير من الأحيان.

تحتاج إليهما الهوية وهي تجمّل الماضي في حاضر ما، والماضي الهوياتي انعكاس للحاضر أو لما في الذات، ولا بدّ من مقدسات هي في الأصل حوادث في الماضي يصار إلى استعلائها لتأكيد الوعي الراهن، أو استمداده منها. فالماضي لا يصير إلى الثبات في الوعي إلا عن طريق المقدسات. فالماضي هو المقدس. والمقدس هو الماضي أو بعضه.

روايتنا عن الماضي والمقدس، أو ما صار دارجاً في تعبير سردياتنا عنهما، هي انعكاس لحاضرنا أو لما نحن عليه. تغيب الواقعية وتسيطر المبالغات التي ليست أكثر من تأكيد الذات أو بالأحرى وعي الذات لنفسها. المقدس هو ما يعلو على الواقع أو يستعلي عليه. هو ما لا تشوبه شائبة. هو نوع من الافتراض الذي لا تربطه بالواقع إلا رمزيته وما يحدثه في الوعي. أصحاب المقدسات يعون الواقع من خلالها، ويستندون في ذلك إلى روايات ماضوية تشكّل الحاضر المتخيّل الذي يفوق الممكن ويجعل المستحيل حقيقة. تحل الحقيقة الافتراضية مكان الواقع في مخيلة أصحابها. كثيرون من الناس لا يفكرون إلا من خلال هذا المتخيّل، ولا تعنيهم الوقائع إلا بما يفيد آراءهم المسبقة. هكذا يصار إلى التخلي عن التجريبية وعن الاستفادة من ايجابيات وسلبيات سلوكنا، فنعيد تجارب العجز. وما زلنا نكرر أساليب مقاومتنا لإسرائيل جيلاً بعد جيل، منذ أحمد الشقيري مروراً بالمقاومة الوطنية ثم الإسلامية، مع ادعاء النصر برغم الهزيمة. فما هو مقدس لا يُناقش ولا يخضع لتمحيص العقل. هو فوق النقاش أو ذو أولوية عليه.

يحتاج المقدس إلى روح جماعية، ومن هنا ارتباطه برؤية حول الماضي. رؤية غير تاريخية. وهي مليئة بالمبالغات التي تصل إلى حد المغالطات. وهذه غالباً ما تكون افتراء على التاريخ لما فيها من تناقضات داخلية أو مغالطات منطقية. تساهم المقدسات في الثروة الرمزية، وتجعل حوادث الماضي أيقونات لممارسة الطقوس، التي ليست بالضرورة أن ترتبط بالإيمان الديني بل تُعوّض عنه جزئياً أو كلياً، لكنها تُجمّل كل ذلك في رمزية أو سردية تُجمّل الماضي والهوية، وتفصل أصحابهما عن بقية المجتمع باسم الطائفية. وهذه تتحوّل إلى سياسية عندما تنشئ علاقات مع الطوائف الأخرى لتقاسم الحصص المتأتية من السلطة، التي لا يكف أصحابها عن المنافسة من أجل الحد الأقصى، باعتبار أن ما تناله طائفة تخسره أخرى ولا يربح الجميع.

يبدأ الفساد الأكبر بفساد الرؤية للمجتمع والعالم. وهذا ما تحققه نظرة الجمود في الماضي وتقديس المقدسات التي تحتل مجال الدين، وتفرغه من روحه وتشل المجتمع، فيصاب بالعجز. ما تبقى من الفساد يمكن إصلاحه بالقانون وتطبيقه. أما الفساد الأكبر، فهو ما يتطلّب ثقافة تلغي الإرادة وتحصر السياسة في منافسات الطوائف، بما يمنع من إدارة شؤون المجتمع حسب المصلحة لا حسب إرادة الغير. وهذا ما يصاب به كل مجتمع يحتل فيه الدين السياسي كل الفضاء الاجتماعي

ينتهي المقدّس عادة إلى احتلال مكان الإيمان ليعوّض أصحابه عن العلاقة السوية مع الله. فالمقدس لا الإيمان يصير الطريق إلى الله، وهو ممارسة طقسية ليس للعاطفة فيها إلا قدر يسير، وعندها تصير الطقوس أشبه بتمارين رياضية لا غير.

إن حجب الماضي للتطوّر أو التاريخ يحيله أيضاً إلى نوع من العبادة والطقوس، فيؤدي الدور ذاته الذي للمقدس. تتحجّر الرؤية التاريخية في الماضي الذي يقف مكانه ويصير حاضراً دائماً، بل إن دواعي الحاضر هي التي تستدعيه عند اللزوم، ويحل الاعتقاد مكان البحث، والتأكيد مكان الشك، والسردية المسبقة الصنع مكان التفكير العقلي، واليقين مكان غلبة الظن. وربما يخرج صاحب ذلك عن الإيمان (والدين) مع بقائه في مجال الاعتقاد، فتتعطّل ملكة الفكر، وتتراجع أمام العقل المستريح. وعندما تتعمم هذه الحالة يفقد المجتمع الطائفي حيويته ويصاب بالعجز والشلل، وتصير أشكال المقاومة دواء للمجتمع، لا سبل إلحاق الأذى بالعدو. ويغيب الصراع مع الخارج إلا مما ينم عن تبعية كولونيالية وللاستعمار بأشكاله العديدة، التي إن لم تكن احتلالاً مباشراً لأرض الوطن لكنها تبقى رضوخاً للغير. وتتعطّل السياسة في المجتمع الذي يتأرجح بين اعتبارات جيو-ديبلوماسية في الخارج ونزاعات طائفية أو إثنية في الداخل. مجتمعٌ يتجمّد فيه الماضي، فيتقوقع على نفسه ويصاب بالذعر من الخارج، ويستحيل مواجهته ومقارعته أو تبني رؤية كونية لأنه يحرص على نفسه، ولا يطمع إلى الأكثر من الاستمرار، ولو على زغل.

وفي أيام الدين السياسي، يحتل الدين كل المجتمع ويصغر شأن الدنيا، ويصير الخلاص هو المأمول الوحيد؛ هذا بينما المجتمع ذو الرؤية التاريخية يرى التطوّر ويساهم فيه ويمارس إرادته ولا يخشى الخروج إلى العالم، ولا تغذية ثقافته بعناصر وافدة. الرؤية التاريخية فيها شجاعة التعاطي مع العالم.

إقرأ على موقع 180  اللجوء والإستقرار اللبناني.. ومسؤولية العرب

مجتمع المقدسات هو مجتمع الروح الهاربة من الدنيا، التي إن خالف مبادئ الأخلاق فيها، وغالباً ما يفعل، فإنه يجد في السماء خلاصه، ويكون التعويل على الآخرة وإهمال الدنيا أو التعاطي العصابي معها. هي رؤية ليست فقط تتوهم الآخرة وتخسر الدنيا، بل تضع نفسها خارج السياق التاريخي.

يبدأ الفساد الأكبر بفساد الرؤية للمجتمع والعالم. وهذا ما تحققه نظرة الجمود في الماضي وتقديس المقدسات التي تحتل مجال الدين، وتفرغه من روحه وتشل المجتمع، فيصاب بالعجز. ما تبقى من الفساد يمكن إصلاحه بالقانون وتطبيقه. أما الفساد الأكبر، فهو ما يتطلّب ثقافة تلغي الإرادة وتحصر السياسة في منافسات الطوائف، بما يمنع من إدارة شؤون المجتمع حسب المصلحة لا حسب إرادة الغير. وهذا ما يصاب به كل مجتمع يحتل فيه الدين السياسي كل الفضاء الاجتماعي، ويتراوح أصحابه بين الحلال والحرام دون اعتبار للمكروه والمستحب وما يحتمل عدم اليقين. علماً بأن اليقين عند الفقهاء هو غلبة الظن، أي أنه لا يتأتى إلا من الشكوك والتساؤلات والحوارات واجتراح التسويات مع أطراف المجتمع الأخرى لتعود السياسة محتلة كل الفضاء الاجتماعي. غلبة اليقين بغير ذلك هي غلبة الاعتقاد على الواقع بغض النظر عن التجربة. ولا يحقق تقدماً في عالمنا المعاصر إلا المجتمع الذي يرتكز على التجريبية والفضاء المفتوح والشجاعة في الخروج إلى العالم وتأسيس الفكر على أن الخلاص يحدث على الأرض قبل الآخرة؛ يحدث بالإنجاز وبفعل ما يفيد الناس، أملاً أن يكون عند الله جزاء على فعل الخير بالإنتاج وليس فقط بالعبادة والإحسان.

العقل القابع في الماضي، بالأحرى في رؤية ثابتة جامدة عن الماضي، والاكتفاء بالعبادة عن طريق المقدس، هو عقل عاجز. هذا لا يفيد إلا في تشليع مجتمعنا الذي هو مثل كل المجتمعات الأخرى، ذو تعدد في العقائد وسبل الإيمان.

لا يُوحّد المجتمع إلا السياسة التي بدورها تكون بالحوار والتواصل والتسويات، ولا أحد يصل إلى الحقيقة بسلوك هذه الطريق التي تنشلنا من الشقاء الذي نعانيه والتراجع الثقافي والحضاري الذي أصابنا؛ وتخرجنا من الاعتماد على الاستهلاك دون الإنتاج، والاستيراد دون التصدير، ومن عالم التنافسية على السلطة إلى عالمية الاقتصاد السياسي، ومن فردية أو جماعية تنشد الخلاص بالعبادة الطقسية إلى مجتمع ينشد التقدم بالإنجاز، ومن الاستسلام إلى السؤال، ومن العقل المستريح إلى العقل الذي يشقى بشكوكه، آخذاً بالاعتبار أن شفاء العقل بالراحة وانعدام السؤال هو نقيض الانخراط في الواقع والتجربة.

يحتل الدين السياسي الفضاء الاجتماعي في بلادنا، مما يؤدي إلى انقسام ثقافي حاد بين الحداثة والتقليد. يضاف ذلك إلى التعددية الإثنية والعشائرية والطائفية وعصبياتها، فتصير الدولة ليست وعاء ينتظم فيه المجتمع بل مسرحاً للمنافسة المنتهية إلى التقاتل والحروب الأهلية الظاهرة والمستترة.

يناطحون التاريخ ويسكنون الماضي، ويتقوقعون في دهاليز الوهم. يعزلون مجتمعهم عن العالم. غافلون عن أن الواقع حركة دائمة، وأن من لا يتقدم يتأخر؛ والوقوف عند نقطة معينة يعني إما السير إلى الأمام أو الخلف. يغفلون حقيقة أن العالم الخارجي يتحرّك بخلافنا، وأن التطوّر يصيبه بما لا يصيبنا، وأن التغيير حاصل شئنا أم أبينا، وأن عجلة التاريخ لا تدار إلى الوراء، بل يسقط أصحاب ذلك في غور عميق.

ما نحتاجه ليس القداسة والتقديس بل العمل والإنتاج، وذلك لا يتأتى إلا من وعي برفض التعالي عن الواقع وبالانخرط في الدنيا والعالم.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  للغرب ما لا يحقّ لغيره.. تجارة وتبشيراً وقهراً