“عرَّاب أوسلو” في لبنان.. من حقنا أن نقلق!

عرَّابُ "أوسلو" في لبنان. وَصْفُ "أبو مازن" بالعرَّاب لا يعفي الآخرين في قيادة منظمة التحرير. هؤلاء مسؤولون عن الانزياح الكارثي المتدرِّج والعلني عن خطِّ الثورة الفلسطينية منذ أربعةِ عقودٍ ونيِف. أمَّا الخفيّ في هذا المسار، فله حديثٌ آخر. ليس من العادي مُطلقاً أنْ تتصرَّفَ أيُّ ثورةٍ تحرُّريةٍ في العالـم بمنطـق الأنظمة السلطويّة السياسية والأمنيّة، أو أنْ تختار تكتيكاتٍ التوائيّةً تضرِبُ مسيرةَ الهدفِ الإستراتيجي. المسألة هنا في منتهى الخطورة، كونها تتعلَّقُ برأس قضايا عصرنا: قضية فلسطين.

القضية القلسطينية لا تحتمل التفاضلات والمساومات، فهي منذ القرن الماضي سمةّ أممية عُليا في صيرورة المواجهة مع الكولونيالية والرأسمالية والصهيونية. ليس “الفلسطينيُّ” هو مَنْ ولِدَ في أرض فلسطين فحسْبُ، بلْ كلُ تحرُّريٍّ شريفٍ هو بالضرورةِ “فلسطينيٌّ”، سياسيّاً وثقافيّاً.

الكولونيّاليّةُ الغربيّةُ، والغالبيةُ الساحقةُ من السياساتِ الرسميةِ العربيّةِ، سَعَتْ سابِقاً وما زالتْ تسعى، وربّما لمدّةٍ طويلةٍ مقبلة، – تسعى – إلى إسقاط هذه السِماتِ التحرُّريةِ والقوميَّة والأمميّةِ من القضيَّةِ الفلسطينيّة. نعترفُ واقعيّاً،- ويا للأسف الشديد – أنَّ هذه المساعي الاستعماريّة نجحتْ في مجالاتٍ عديدةٍ حتى الآنَ، وإنْ تكنْ حركةُ التاريخ ستقلِبها لاحقاً رأساً على عقب. أمَّا سببُ نجاحِها فهْوَ تمَكـُّنُها منَ اختراقِ الصفِّ الفِلسطيني، ولا سيّما من خلالِ الهيمنةِ الجِهويّةِ على منظمةِ التحرير، ومن خلالِ ثقافةِ “التوقُّفِ في منتصفِ الطريق” مثلما حصلَ بعد الانتفاضةِ الشعبيةِ الفلسطينيةِ الثانيةِ قبلَ 38 عاماً. لقد كرَّس “اتفاق أوسلو”[1993] هذا النهجَ، واستمرَّ بعد الاتفاق وصولاً إلى اِعتلاء محمود عباس (“أبو مازن”) سدَّة الرئاسة على بلديةٍ يصِرُ على أن يسمّيها دولةً. ومنذ ذلك الحين خرجت كلُّ مفردات “أبو مازن” وفريقه من الخفاء إلى العلن. لقد بات عادياً عندَهم إلصاقُ صفةِ “الإرهابي” بكلِّ فلسطينيّ يحملُ السلاح بوجه العدوّ الإسرائيلي، وأصبحت سلطة “أبو مازن” تنعتُ المقاومين في الجبهة الشعبية، وحماس، والجهاد الإسلامي، ولجان المقاومة الشعبية وغيرهم – تنعتُهم – بالأعداء. ولا تتأخر قوى السلطة الأوسلويّة عن الإيفاء التامِّ بالتزاماتها مع كيان الاحتلال، فتقوم بضرب المقاومين في الضفة، بالتكاملِ الأسودِ معَ العدوانِ الإسرائيلي على غزَّة والضفَّة معاً، وبالطعن في كلِّ محاولاتِ الوحدة، وكانت من أبرزِها أخيراً لقاءات بكّين. لقد بَرَعَ هذا النهجُ في الإساءةِ البالغةِ غيرِ المغفورةِ تاريخيّاً إلى أهم نقطتين في حياة القضيّة الفلسطينيّة: الوحدة والمقاومة.

السلاح الفلسطيني في المخيّمات، وسلاح المقاومة في لبنان، يجب أن يكونا ملفَّين وطنييْن لبنانيين، تحميهما وتنظِّمُهما تسويةٌ وطنيةٌ جادَّة عميقة وتاريخية. وفي مثل هذه الحالة يأتي الدور الفلسطيني وطنياً أيضاً، لا مُقتصِراً على تحرُّكات “أبو مازن” الذي كان يجب أن يكتفي بلقائه مع المسؤولين الرسميين اللبنانيين، لا أن يعمد إلى إرسال إشاراتٍ إقليميةٍ وخليجيةٍ ودولية كما فعل من خلال اتصاله بـِ”سمير جعجع”

يدور “أبو مازن” في هذا الفلك الأميركي – الإسرائيلي – العربي. لم تُغيِّرْ فيه شيئاً مجازرُ العدوِّ في غزَّة والضفة. يهتمُّ بكيفية تصفية المقاومة. وبما يحلَم به من دورٍ في قطاع ِغزة مستقبلاً. وما زيارتُه للبنانَ حالياً سوى مزيدٍ منَ الاندراج ِفي هذا المسار. هكذا قَدِمَ في 2006 وهكذا جاءَ الآن. ما بحثَه مع المسؤولين اللبنانيين لن يخرج إلى العلن حاليَّاً. وهذا الأمرُ ليس مُهمّاً بقدْرِ أهميةِ البحثِ في الخلفيّات. وهذه الخلفيَّاتُ واضحةٌ. إنَّه باحثٌ عن كيفيّةِ توظيفِ الورقةِ الفلسطينيةِ في اللعبة الأميركية – الإسرائيلية – الخليجية في لبنان. العنوانُ الذي يستظِلُّ به هو تأييدُ الدولةِ اللبنانيّةِ في قرارِها حصر كلِّ السلاح بيدِها في كل أراضي لبنان. ولا يخفى أنَّ المقصود فى حالةِ “الرئيس الفلسطيني” هو سلاح المخيّمات الفلسطينية. يُريدُ “أبو مازن” نزع هذا السلاح. ولكن كيف؟ ثمَّ يضطربُ فيتحدَّثُ عن تنظيم السلاح الفلسطيني. وبين التنظيم والنزع يبقى استخدام القوَّة أمراً مستحيلاً. وإن حصل فهو مغامرةٌ تتجاوز المخيَّمات الفلسطينية إلى الداخل المجتمعيّ والسياسي اللبناني. ما يعني أنَّه قد يُنذرُ بصراعاتٍ أهليّةٍ في ظلِّ استمرار لبنان في التعرُّض لاعتداءاتٍ إسرائيليةٍ، تزيدُ من أزمتهِ الداخليّة، وتقدِّمُ غطاء للقوى المتشدِّدةِ الموجودةِ على حدودِهِ الشرقيةِ والشماليةِ مع سوريا. خصوصاً أنَّ هذه القوى المتشدِّدة لها ردائِفُها في عدد من المخيّمات الفلسطينية، وهي على صلةٍ بقوى سياسية لبنانية.

لا نظنُّ أنَّ رئيسَ الجمهورية العماد جوزاف عون يلجأُ إلى خيار استخدام القوة، بل نحن متيقّنون من ذلك، وإنْ يكُنْ من حقِّ الدولة أن تبسط سيطرتها على أراضيها. نحن لا نناقش في الحقِّ المجرَّد بل نناقش في الوسيلة، ولا سيّما أنَّ المحاذير من أيِّ تجربة في المخيّماتِ الفلسطينية هي في انعكاساتها المحتمَلة على معالجة مَلفِّ سلاح المقاومة. كان الأجدرُ بـِ”أبو مازن” – إذا أراد أن يُخلِصَ لقضيةِ الشعب الفلسطيني- أنْ يعتمِدَ مبدأ الحوار والتعاون مع المقاومة الفلسطينية بدلاً من معاداتها، وأن يراجع سياساته في حركة “فتح” و”منظمة التحرير” والساحة الفلسطينية كلِّها. وعندئذٍ – وربَّما فقط – يتحقَّقُ الحدُّ الضروري من الوحدة الوطنية الفلسطينية قبل القيام بالجولات، وتلبية الدعوات للزيارات.

الحوار والواقعية هما الأصل. ومن دون الحوار الفلسطيني-الفلسطيني لا يستطيع “أبو مازن” أو غيرُهُ التعامل مع ملفِّ المخيمات. والحوار والواقعيّة هما الأصل أيضاً في ملفِّ سلاح ِالمقاومةِ في لبنان. المَلفَّانِ متقاطعانِ وإنْ كانا غيرَ متشابهيْن. المقاومة الفلسطينية في غزَّة والضفّة لن تستجيب لدعوة “أبو مازن” إلى إلقاء السلاح من دون حماية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وتوظيف ورقة المخيّمات الفلسطينية على الأرض اللبنانية في هذه اللعبة لن يتمكَّن منه الزائر الأوسلوي. والمقاومة في لبنان لن تقبل بنزع سلاحها كما تريد المبعوثة الأميركية “مورغان أورتاغوس” [ستعود إلى لبنان في الشهر المقبل] بل إنَّ المقاومة أعطتِ الدولة اللبنانية فرصةً للدفاع عن لبنان، وتأمل بحوار وطني حقيقي يُؤدِّي إلى حفظ وحدة لبنان أمام العواصف التي تضرب المنطقة.

إقرأ على موقع 180  عودة الحرائق الإقليمية أو.. إخمادها؟

السلاح الفلسطيني في المخيّمات، وسلاح المقاومة في لبنان، يجب أن يكونا ملفَّين وطنييْن لبنانيين، تحميهما وتنظِّمُهما تسويةٌ وطنيةٌ جادَّة عميقة وتاريخية. وفي مثل هذه الحالة يأتي الدور الفلسطيني وطنياً أيضاً، لا مُقتصِراً على تحرُّكات “أبو مازن” الذي كان يجب أن يكتفي بلقائه مع المسؤولين الرسميين اللبنانيين، لا أن يعمد إلى إرسال إشاراتٍ إقليميةٍ وخليجيةٍ ودولية كما فعل من خلال اتصاله بـِ“سمير جعجع”، رئيس حزب القوات اللبنانية.

المنطقة العربية كلُّها على صفيحٍ ساخن. العدوُّ الأميركي – الغربي – الإسرائيلي لن يتخلّى عن مشاريعه. وأيُّ ملفٍ يتعلَّق بالمخيمات الفلسطينية أو بسلاح المقاومة في لبنان يتشابك مع كل الملفَّات الباقية. وهذا يفرض علينا الحوار والوحدة، وإلَّا فإننا مقبلون على سقوط الأوطان لا الدول فحسب.

Print Friendly, PDF & Email
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  واشنطن تقرع الباب الإيراني عبر سويسرا.. فلا يأتي الجواب