ألمانيا.. الشبح العائد بحذاء صامت!

في كل مسار من مسارات التاريخ الأوروبي، كانت ألمانيا تمثّل استثناءً غريبًا: دولة تقع في قلب الجغرافيا، وتثقل روح القارة بظلّها. ليس لأنها الأقوى، بل لأنها حين تنهض، يُعاد تشكيل أوروبا على إيقاع خطواتها. اليوم، مع التسلّح المطّرد الذي تقوده برلين بهدوء حسابي لا يخطئ، يعود سؤال الرايخ لا ككابوس قديم، بل كحقيقة تتسلل تحت جلد الديموقراطيات النائمة.

ما تقوم به ألمانيا ليس مجرد استثمار في الصناعات الدفاعية. إنه انزلاق هادئ نحو ما يمكن تسميته بـ”المنعطف الألماني الثالث”: الأول، كان مع بسمارك وصعود الدولة الوطنية. الثاني، مع هتلر وسقوط الفكرة إلى قاع العسكرة التوتاليتارية. الثالث، هو ما نشهده اليوم: ألمانيا تتسلّح لا باسم التوسّع، بل باسم التوازن، لا بزيّ النازية، بل برداء الاستدامة والسيادة و”السلام الهيكلي”. لكنها تبقى تسليحًا. والأرقام لا تكذب: أكثر من 100 مليار يورو خصّصت للجيش، برامج تسليح متقدمة، صفقات لا تمرّ عبر “الناتو”، بل من خلال “رؤية سيادية ألمانية”، تُحرّر نفسها رويدًا من مظلة أميركا.

 الهوية بين اللاوعي والاقتصاد

كلُ أمة تُخفي في لاوعيها وجهاً للسلطة، وألمانيا تخبئ وجهين: الرايخ كقوة، والهزيمة كدرس. لسنوات، حكم هذا التناقض وجدانها: الرغبة في النهوض الاقتصادي من دون نهوض عسكري. لكن الجغرافيا، كما التاريخ، لا تسكت طويلاً. وألمانيا لم تعد تستطيع الاكتفاء بلعب دور البنك المركزي للقارة. لقد اكتشفت أن الهيمنة المالية وحدها لا تصنع أمانًا استراتيجيًا.

المفارقة أن ما يُعاد بعثه اليوم لم يكن دُفن، بل أُرشِف في المتاحف والمناهج والدساتير، بانتظار لحظة “ضرورة”. واليوم، الضرورة اسمها: الفراغ. فراغ أميركا، وانسحابها من القيادة الكونية. فراغ فرنسا، وتآكل شرعيتها في إفريقيا. فراغ الاتحاد الأوروبي الذي يبدو كحلف اقتصادي عاجز عن حماية ذاته.

وفي خضم هذا الفراغ، تبدأ الماكينة الألمانية بالعمل. لا بالشعارات، بل بالأرقام، والعقود، والخرائط. ولا يُعلن المشروع عبر زحف دبابات، بل عبر تقنيات الظهور البطيء: إعلامٌ يتحدّث عن الجندي المثقّف، القيادة النسائية، الدفاع لا الهجوم، التحالفات لا الغزوات.

البزّة تعود لكن بلون رمادي

المستشار فريدريش ميرتس ليس ديماغوجيًا، ولا يستعرض عضلاته في الساحات. لكنه جاء من قلب مؤسسة رأس المال ليُعيد رسم التوازن بين السوق والجيش. هو نموذج “العقل الألماني حين يضجر من الانتظار”. من البرلمان أطلق إشارات الانقلاب الناعم: تجاوز عقبة الديون الدستورية، تصفير الحساسية التاريخية تجاه الجيوش، بل إعادة صياغة مفهوم “ألمانيا ما بعد الحرب”.

ما يطرحه ميرتس ليس حلم الرايخ، بل هو حلم الفاعلية الأوروبية من دون وصاية أميركية. خطابه يشبه خطابات المهندسين أكثر مما يشبه خطابات القادة، لكنه يحمل في جوفه الفكرة الأخطر: ألمانيا يجب أن تقود، لا لأجل المجد، بل لأجل “المسؤولية”.

صور تقاتل نيابة عن الجيوش

نحن لا نعيش في زمن الوقائع، بل زمن الصور. وألمانيا تفهم ذلك جيدًا. فصورة الجندي الألماني الجديد تُرسم بعناية شديدة: لا عنف، لا غطرسة، لا هيستيريا قومية. بل أناقة في البزّة، هدوء في اللغة، ومهمات دفاعية نبيلة. صورة تُسوّق عبر السينما، الأخبار، والمناهج، لتقول شيئًا واحدًا: “نحن لسنا كما كنّا”.

لكن الفلسفة السياسية تعرف أن الصورة لا تلغي الحقيقة، بل تحجبها مؤقتًا. وهذه الصور، مهما نُقّيت، لا تمحو أثر الماضي. ألمانيا لا تزال تحمل جسدًا استعماريًا سابقًا، حتى وإن غطّته بوشاح أخضر مستدام. والتاريخ، كما يقول بنيامين، ليس قافلة تتقدّم، بل مخلوق ينتظر اللحظة التي يُفلت فيها من أيدي المؤرخين ليُحدث خللاً في الزمن.

 الخوف الذي لا يُقال 

فرنسا، وبرغم خطابها الأوروبي، لا تشعر بالراحة. بريطانيا، من بعيد، تراقب بنظرة استعمارية: “ما أشبه اليوم بالأمس”. أما أوروبا الشرقية، فقد بدأت تفهم أن دعم ألمانيا لأوكرانيا ليس فقط ضد روسيا، بل لتكريس “وظيفة عسكرية جديدة لألمانيا” في شرق أوروبا.

لكن الغريب أن الصمت يطغى. وكأنَّ أوروبا تخاف من طرح السؤال: هل تتحول ألمانيا من محايد كبير إلى قائد صامت؟

ربما الجواب ليس في التحليل السياسي، بل في علم النفس الجمعي: حين تتكرر الصدمة ولا يُعبّر عنها، تتحوّل إلى بُنية دائمة في الوجدان. والصدمة الألمانية – بعظمتها وسقوطها – لم تُعالج بالكامل. بل كُبِحت. وها هي تعود، لكن بحذاء جديد.

بوتين كذريعة لا كخصم

روسيا ليست العدو، بل الذريعة. فالغزو الروسي لأوكرانيا فتح لألمانيا بابًا مغلقًا منذ 1945: باب الحديث عن تسلّح أخلاقي. للمرة الأولى، يُقدَّم السلاح الألماني كـ”ضرورة إنسانية”. وهذا التحوّل خطير في منطقه: لأن كل حروب المستقبل يُمكن الآن تأطيرها كواجب أخلاقي، حتى حين تكون مصالح اقتصادية بحتة.

الصراع مع موسكو سمح لألمانيا بإعادة برمجة صورتها العسكرية من دون مقاومة داخلية. من كان ليتخيل أن الحزب الأخضر، نفسه، سيدعم برامج تسليح بهذا الحجم؟ لكنه دعم، لأنه أُقنع بأن “السلاح في وجه الطغيان.. فضيلة”.

الرايخ لم يعد بحاجة إلى إعلان

إنه ليس الرايخ الثالث. لكنه ليس نقيضه أيضًا. إنه شكله “ما بعد الحداثي”: حيث تُدار السيطرة بلغة محايدة، وتُمارَس الهيمنة عبر الاقتصاد، المناخ، والبنية التحتية، لا عبر الجيوش.

إقرأ على موقع 180  كيسنجر يدعو لإعتماد "النموذج الألماني" في علاقة روسيا بأوروبا

الرايخ الذي يُخطّط له لا يحتاج إلى حرب، بل إلى تفوق بنيوي مُدجّج بالحسابات.

ألمانيا اليوم لا تطلب الاعتراف، بل تتصرّف كما لو أنه حُسم. واللافت للانتباه أن أوروبا – بتعبها، ببيروقراطيتها، بتفتتها الثقافي – لا تمانع. وهنا، تكمن اللحظة الأخطر: حين تتوقف القارة عن طرح الأسئلة. لأن الخوف حين يُقمع، يعود لا كرفض.. بل كخضوع طوعي.

أوروبا ومأساة النسيان

من قال إن الشعوب تتعلّم من التاريخ؟ غالبًا ما تعيد تكراره، بذكاء أكبر. ما نشهده الآن ليس “ألمانيا تتهيأ لحرب”، بل “أوروبا تتوقف عن الخوف منها”. وتلك هي المأساة.

لأن الخوف، حين يُنسى، لا يموت. بل يتحوّل إلى أرض خصبة للندم. ونحن، أبناء القارة العجوز، نُحب أن نندم متأخرين.

وفي هذا الزمن الرمادي، تمشي ألمانيا بهدوء. لا تصرخ، لا تغضب، لا تستعرض. فقط تُخطّط؛ لكن الشبح، كما في الأساطير، لا يصرخ حين يعود. فقط… يُطل برأسه، من دون قناع.

Print Friendly, PDF & Email
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "كورونا" في بعده السياسي... تسويات معطلة وازمات مؤجلة