الدولة العميقة العالميَّة.. والمغول الجدد

الكرةُ الأرضيةُ باتت كرةَ نار. تستعِرُ في كلِّ الجوانب. الحربُ العالميّةُ ليستْ مقبلة. إنَّها قائمةٌ فعلياً ولو بالتقسيطِ الإستراتيجي. الجبهاتُ ثلاثيّة الأبعاد: عسكرياً واقتصادياً وثقافيَّاً. لا ميدانَ خارجَ هذا الصراع ِمهما يكنْ بسيطاً. الرأسماليّةُ الإمبراطوريةُ أوْدَتْ بالعالم إلى هذا الاحتراق.

الجديدُ في هذه الآونةَ أنَّ نُخَبَاً أميركيةً صاعدة بدأتْ سياسيّاً تُنَظِّمُ اعترافَها الفكريَّ بأنَّ الرأسماليةَ تمرُّ بأزمةٍ بنيويّةٍ متشَعِّبة. وأخذتْ تعلنُ ذلكَ في المنابرِ البحثيةِ والجامعيةِ، وتقرِّ بأنَّ زعيمَ الاقتصاداتِ الرأسماليّةِ، الاقتصاد الأميركي، لا يستطيعُ أنَّ ينقذَ نفسهُ من داخلِه. وكذلك غيرُهُ. لذا يزدادُ تحذيرُ هذه النُخَبِ منَ احتمالِ الاندفاعِ أكثرَ فأكثرَ نحو النهْبِ والحرب. ولا سيَّما في ظلِّ وجودِ ما يمكِنُ أنْ نسمِّيهِ “دولةً عميقةً” عالميَّةً تقومُ على تحالفٍ خطير: أميركي- أنكلو ساكسوني، توراتي صهيوني، لا يتردَّدُ في تفجير العالم عندما يرى أنَّ لحظةَ زوال هيمنتِه قدِ اِقتربت. هذه الصورةُ تمثِّلُها اليوم الولاياتُ المتحدةُ، ومعها بريطانيا فيما تتخوَّفُ باقي الدولِ الأوروبيَّة الغربية من دفع الثمن، كونُها تعرفُ أنها ستكونُ الضحية إذا اشتدَّ الأُوار بين الأنكلوسكسونية – التوراتية، وبين السلافيّةِ [بقيادة روسيا والكنيسة الأرثوذكسية] المُتوائِمةِ بدرجاتٍ كبيرةٍ معَ النمورِ الآسيويَّةِ ثقافيَّاً واقتصادياً وإستراتيجياً وعلى رأسها الصين [نجحَ الصينيون في المُوَاءَمةِ بين الوعي التراثي الكونفوشي وبين الماركسية الحديثة] مثلما هي – أي السلافية – متوائمة مع الإسلام في آسيا الوسطى وفي إيران. ولا شكَّ في أنَّ الكيانَ الصهيونيّ، وهو أحدُ وجوهِ الدولةِ العميقةِ العالميةِ يتحرَّكُ في قلبِ هذه المعادلةِ التفجيرية. وهذا ما يُفسِّرُ إصرارَهُ معَ الغربِ الاستعماريِّ والدولِ العربيّة “الإبراهيمية” على الحربِ الإباديَّةِ ضدَّ الشعبِ الفلسطيني. إنها عندَهم حربُ النهائيّاتِ الوجوديةِ، وعند الولاياتِ المتحدةِ حربُ التشبُّثِ بالإمبراطوريةِ الرأسماليّةِ الناهِبةِ والذاهبةِ إلى الزوال.

ضمنَ هذه التناقضاتِ الكبرى ترتسِمُ ملامحُ عالم مختلفٍ، ربَّما لا تمضي سنواتُ العقدِ المقبلِ من دونِ وضوحِهِ وتكريسِهِ. المحاورُ الواسعةُ تمتدُّ منَ الصينِ إلى روسيا إلى إيران إلى أميركا اللاتينية، في مواجهة نظامٍ استعماري تقودُه الولاياتُ المتحدةُ التي تريدُ أن تنهبَ ثرواتِ الشعوبِ من أجل خوضِ حروبها التدميرية. حروب الربح والاستغلال والمتاجرة بالأديان ونشر التفاهات كما يقول الفيلسوف الكَنَدي المعاصر “آلان دونو” [في كتابه ” نظام التفاهة”].

أينَ العربُ في هذه اللُجَّةِ منَ الصراعاتِ المصيريّةِ؟

الإجابةُ عن هذا السؤال تكشفُ لنا فضيحةً تاريخية. رُبَّما لا يوجدُ بين الأمم ِالمعاصرةِ نماذجُ تُشبهُ الغالبيّةَ الساحقةَ من أولياءِ السلطةِ العرب. لقد ساروا وراءَ الكيانِ الصهيوني بكلِّ ما يريدُ. اخترعَ لهم الصهاينةُ التوراتيون “الديانة الإبراهيميَّة” فقبِلوها وحوَّلوها إلى عملٍ سياسي واقتصادي داعمٍ للكيانِ ومدافعٍ عنه فيما هو يذبحُ الفلسطينيين ألف مرَّة في اليوم. وأعطَوْا أموالَهم إلى ترامب مقابلَ بقائِهم في عروشهم، وفي جمهوريّاتهم المزعومة. وطلبَ منهم الأميركيُّونَ أنْ يُغيِّرُوا المناهجَ التعليميةَ في المدارس والجامعات بما يؤدِّي إلى محو الهُويّةِ، وتزوير التاريخ ففعلـُوا كلَّ ذلك، ووصلَ الأمرُ إلى التدخُّلِ في تدريسِ القرآنِ واللغةِ العربيةِ فأذْعَنُوا. وكلَّفُوهم بأنْ يحتلُّوا أراضيَ عربيَّةً أو يقسِّموا دولاً عربية فنفَّذوا مثلما يحصلُ في السودان واليمن وليبيا وسوريا.

هذه هي الحالةُ العربية الراهنة، وبِقدْرِ ما هي عارٌ على المسؤولين عنها، بقدْرِ ما هي وفقاً لديالكتيك التاريخ آيلةٌ إلى السقوط مع التحوُّلات العالميّة الآتية، لكنْ حذارِ منَ الفكرِ الانتظاري الذي يُطيلُ أمدَ هذه الآونة، ويُهدِّدنا بالوصولِ إلى يومٍ نقول فيه: كانت لنا أمَّةٌ، وكان لنا وطن عربي. ها هي أرض العرب تجزَّأتْ. وضُرِبَتْ دمشقُ قاعدةُ بلادِ الشام. ولم يبقَ من دولةٍ مركزيَّة قوية لدى العرب سوى مصر، وهي بدورِها مُهدَّدةٌ من عدَّة جبَهاتٍ جغرافياً وسياسياً وعسكريّاً. ويؤملُ من مصرَ القويَّةِ بشعبها وجيشها أن تكون سدَّ النيل الإستراتيجي، إذا أحسنتِ التحرُّكَ في قلبِ المعادلاتِ الصراعيةِ العالميةِ لجهة اختيار التحالفاتِ وصياغة المواقف، ولا سيَّما أنَّ تعميقَ علاقاتها مع الصين، وانفتاحها على إيران يشكلانِ بادرتينِ إستراتيجيتينِ مهمتين في حياة العرب، خصوصاً أنَّها تمتلك جيشاً قويَّاً قادراً على فرض توازنات أساسية.

وأمام هذه الوقائع يتكرَّرُ السؤالُ: أين هي القوى القومية واليسارية؟ ولماذا تتخلـَّفُ عن تحديثِ نفسها؟ وعن وضع برامجَ لمواجهةِ هذه التحديَّات؟ هل ترضى لنفسها الوقوع في فخِّ الفكر الانتظاري؟ هل تقبلُ أنْ تسقطَ من حياتنا فكرة الوطن والدولة لمصلحة فكرة السلطة والخلافة والدويلات المتناحرة تحت راية المال واستغلال الدين؟

حتمًا؛ سيقودنا الانتظار الفارغ إلى سقوطِ “دمشقَ ثانيةٍ” و“بغدادَ ثالثةٍ” [الأولى 1258 والثانية 2003]، وإلى عصرِ المغول الصهاينة والأميركيين.

 

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "نحن أبطال.. نحن غزة".. نحن السرديات المفتوحة!
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "طوفان غزة".. إعادة كتابة تاريخ الشعب الفلسطيني (2/2)