

الآن، يواجه ترامب معضلة من صنع يديه، بعدما اتخذ أخطر قرار قد يكون له أثر كبير على ولايته الثانية. قرّر رئيس الولايات المتحدة الانضمام إلى حرب، لم يبدأها هو بنفسه، وإن كان على علم بها، مع انطلاق قاذفات الـ”بي-2″ حاملة القذائف الخارقة للتحصينات “جي بي يو57” لتسقطها على منشآت نتانز وأصفهان.. والأهم فوردو المدفونة تحت جبل قرب مدينة قم، وأعلن أن العملية كانت تهدف إلى “القضاء على قدرات إيران النووية ومنع أي تهديد مستقبلي للأمن العالمي”، مؤكدًا أن “المنشآت الثلاث قد دُمّرت بالكامل”، ووصف ما جرى بأنه “نجاح عسكري رائع ورسالة رادعة لطهران”.. وأن “موقع فوردو انتهى”.
حتى الآن لم تتغير وجهة الميدان، مع الرشقة العشرينية التي أطلقتها إيران باتجاه أنحاء عدة في إسرائيل فجر اليوم (الأحد)، لكن السؤال هل نحن على عتبة مواجهة عسكرية أميركية إيرانية؟ وماذا لو ردّت إيران على الضربة الأميركية، وفق ما تُهدّد، بضربات صاروخية ضد القواعد الأميركية في المنطقة؟ وهل نحن أمام سيناريو مشابه لسيناريو العام 2020، يوم ابتلعت إيران كبرياءها، رداً على اقدام الجيش الأميركي على اغتيال قائد “فيلق القدس” الجنرال قاسم سليماني في بغداد، فاكتفت برد شكلي على قاعدة “عين الأسد” في شمال العراق.
اليوم، المسألة مختلفة، فالنظام الإيراني يقاتل وظهره إلى الحائط، وفق تعبير صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية، أي أنه يخوض معركة وجودية بالنسبة لبقائه من عدمه، ولا يسعه إلا الرد على ضربة أميركية استهدفت منشآته النووية. أي أننا أمام سيناريو متدحرج يُهدّد بإشعال منطقة الشرق الأوسط على الأرجح، وهو الأمر الذي حذّرت منه صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، بقولها إن الضربة الأميركية لفوردو، “قد تؤدي إلى التورط في نزاع مفتوح، بصرف النظر عما ستلحقه من أضرار بالموقع النووي الإيراني”.
الحرب الإيرانية-الإسرائيلية تُعيد تشكيل المنطقة من جديد. هي حرب تتجاوز البرنامج النووي بحد ذاته. ولا يجهل نتنياهو ولا ترامب أن البرنامج النووي بدأه نظام الشاه الذي سقط عام 1979. إنها الحرب على النفوذ في المنطقة وعلى هوية زعيم الإقليم
ترامب.. والخط الأحمر
قبيل الضربة الأميركية بساعات، كان ترامب قد حدّد مهلة أسبوعين لاستكمال الحشد العسكري الأميركي في المنطقة (الاتيان بقاذفات بي-2 إلى جزيرة غوام في المحيط الهادىء)، بما يُمكّنه من الرد على أي رد إيراني محتمل، وبالتالي اقناع القادة في طهران بأن واشنطن جدية في الذهاب إلى أقصى الخيارات، لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية.. وربما ما هو أبعد من ذلك.
في هذا السياق، استخدم ترامب “الخط الأحمر” الإيراني، لإسكات الأصوات المعارضة للحرب في إدارته وداخل قاعدته الجمهورية، ولا سيما حركة “ماغا”، نسبة إلى مؤيدي شعار “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”. ويتصدر قائمة المعارضين لتورط أميركي في نزاع آخر بالشرق الأوسط، نائب الرئيس جيه. دي. فانس ومديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد والنائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين ومقدم البرامج السابق في شبكة “فوكس نيوز” تاكر كارلسون ومستشار ترامب السابق، ستيف بانون، الذي قال إن “على إسرائيل وحدها، أن تنهي العمل الذي بدأته”. ويقابل هؤلاء بشكل أساسي، السناتوران الجمهوريان ليندسي غراهام وتوم كوتون، بينما يؤيد وزير الخارجية ماركو روبيو ما ينطق به ترامب، برغم تهميش دور وزارة الخارجية.
الأمر الوحيد الذي تقول صحيفة “الغارديان” البريطانية، إن ترامب رفض النقاش فيه، هو استخدام رأس نووي تكتيكي ضد فوردو، وفضّل حصر الجدال في ما إذا كانت قنابل قنابل “جي بي يو 57” التي تزن الواحدة منها 30 ألف باوند، تفي بالمهمة. وهي قنابل غير مُجرّبة ويُقال إنها قادرة على اختراق أعماق تصل إلى ما بين 60 و80 متراً تحت الأرض.
نتنياهو.. النووي والنظام معاَ!
في هذه الغضون، يقول بعض الخبراء إن قصف فوردو من الجو، لن يكون كافياً للقضاء على أجهزة الطرد المركزي وكميات اليورانيوم المخصب التي يحتويها. وهناك فرضيات تفيد بأن إسرائيل ربما تفكر لاحقاً في إنزال وحدات من النخبة في الموقع للدخول إليه ونسفه من الداخل، كي تضمن تدميره بالكامل، على غرار ما فعلت في مصياف السورية عندما دمّرت في أيلول/سبتمبر 2024 مصنعاً للصواريخ الدقيقة هناك.
وبالنسبة لنتنياهو، فإن تدمير منشأة فوردو، لا يعني وضع حد للبرنامج النووي الإيراني. وهو يعتقد جازماً بأنه طالما بقي النظام الإيراني واقفاً على رجليه ولو ضعيفاً، كما حال صدام حسين بعد حرب 1991، فإنه سيحاول مجدداً الحصول على القنبلة النووية، ولذلك فإن اسقاط النظام هو الذي يُحقّق “النصر المطلق”.
ولكن المرشد الإيراني الإمام علي الخامنئي بدا متحسباً لقضية الفراغ الذي يُمكن أن ينشأ عن محاولة اغتياله، لذلك، قرّر، حسب “النيويورك تايمز” استناداً إلى مصادر إيرانية مطلعة، “تسمية ثلاثة رجال دين بارزين لخلافته في حال مقتله”، وقالت المصادر إن الخامنئي “اتخذ سلسلة من الإجراءات غير المسبوقة لحماية نظام الجمهورية الإسلامية”.
لكن التداعيات التي يمكن أن يُسفر عنها اسقاط النظام من دون توافر بديل ذي صدقية، تثير القلق لدى زعماء غربيين. والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حذّر، خلال قمة مجموعة الدول السبع في كندا مؤخراً، من تكرار تجربتي العراق وليبيا. وعندما تصدى له المستشار الألماني فرديريتش ميرتس المؤيد لنتنياهو، مشيداً بسقوط النظام السوري في أيام وبتسلم نظام جديد الحكم. ردّ عليه ماكرون بأن سقوط الأسد سبقه سنوات من الحرب الأهلية.
وبحسب ما أوردته مجلة “الإيكونوميست” البريطانية، فإنه حتى في حال أدت الضربات الإسرائيلية، إلى تداعيات داخلية، ودعوات إلى “بلقنة” إيران، فإن الحرس الثوري يبقى أكبر قوة منظمة في البلاد تملك إلى القدرات العسكرية، امكانات اقتصادية واجتماعية، تمكنه من الدفاع عن النظام.
وفي هذا السياق، يقول العميد السابق لكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة والي نصر: “لقد تعرضت الجمهورية الإسلامية للإذلال، وهي في مكان لم تبلغه في السابق. لكن يمكنها البقاء ما يكفي لاستنفاد إسرائيل، وتوريط الولايات المتحدة في شيء لا تريده”.
ولاحظت “النيويورك تايمز” تغليباً للنبرة الوطنية الإيرانية منذ بدء الحرب، حتى لدى معارضي النظام الذين أمضوا سنوات في السجون. وفي رأي البعض أن الهشاشة التي ظهرت عليها إيران الآن، هي دليل على حاجتها إلى قنبلة نووية، على غرار كوريا الشمالية، من أجل حماية نفسها.
وكتب أستاذ العلوم السياسية صادق زيبا كلام، الذي رفض الدوس على العلمين الأميركي والإسرائيلي في جامعة مشهد عام 2016، في صحيفة إيرانية: “حتى لو كنا جزءاً من المعارضة، لا يمكننا أن نبقى غير مبالين بحصول غزو لبلادنا.. لا يمكننا البقاء صامتين”..
وقالت المحامية المدافعة عن حقوق الإنسان المسجونة نسرين ستوده: “يجب أن ندافع عن تراب إيران، وليس عن أخطاء قادتها”.
وهاجمت زهراء راهنافارد زوجة المرشح الرئاسي السابق مير حسين موسوي الموضوع قيد الإقامة الجبرية “اليد المجرمة لنتنياهو وانتهاكه الفظيع لكل الأعراف الدولية”، وقالت “إنني كامرأة وطنية، أحذّر الحكام من السماح للحرب بأن تطول فتأكل الأرض والشعب”.
لاحظت “النيويورك تايمز” تغليباً للنبرة الوطنية الإيرانية منذ بدء الحرب، حتى لدى معارضي النظام الذين أمضوا سنوات في السجون. وفي رأي البعض أن الهشاشة التي ظهرت عليها إيران الآن، هي دليل على حاجتها إلى قنبلة نووية، على غرار كوريا الشمالية، من أجل حماية نفسها
استراتيجية خروج من الحرب
وفي آخر رسالة لمرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي ردّ فيها على تهديدات ترامب باغتياله، كان هناك تركيز على التهديد الذي يواجهه “الشعب الإيراني”، وليس “الجمهورية الإسلامية”.
ويلفت الباحث في معهد إسرائيل الوطني للدراسات الاستراتيجية راز زيميت، إلى أن استسلام النظام أو تغييره غير واقعيين. ويقول إن بقاء النظام “هو الأولوية القصوى للمرشد الأعلى.. وهو يرى في الوقت نفسه أن القدرة النووية لإيران، وخصوصاً تخصيب اليورانيوم، حجر الزاوية لهذا البقاء. والاختيار بينهما، يعني الاختيار بين سُميّن”.
ولهذا، يقترح رئيس الاستخبارات الإسرائيلية السابق عاموس يدلين “أننا نحتاج (فضلاً عن الحملة العسكرية) إلى استراتيجية خروج ديبلوماسية، ونتنياهو ليس ماهراً في ابتكار مثل هذه الاستراتيجية”.
ويُركّز مقال في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” كيف أن الحرب الإسرائيلية على إيران، تُهدّد بتغيير أولويات استراتيجية لدى ترامب، الذي جاء متعهداً بمواجهة الصعود الصيني، فإذ بنتنياهو يقف عقبة أمام هذه الاستراتيجية ويجره إلى حرب أبدية أخرى محتملة. ويورد مثالاً على ذلك، سحب أصول عسكرية أميركية من بحر الصين الجنوبي على غرار حاملة الطائرات “نيميتز” وتوجيهها إلى الشرق الأوسط.
الحرب الإيرانية-الإسرائيلية تُعيد تشكيل المنطقة من جديد. هي حرب تتجاوز البرنامج النووي بحد ذاته. ولا يجهل نتنياهو ولا ترامب أن البرنامج النووي بدأه نظام الشاه الذي سقط عام 1979. إنها الحرب على النفوذ في المنطقة وعلى هوية زعيم الإقليم.