قراءة في دور القاضي.. إنّهُ السلطة القانونية (5)

تسهم التحديات القضائية الناتجة عن التحولات التقنية والاقتصادية والاجتماعية، تسهم في طرح النقاش حول السلطة القانونية التي أصبحت تشكل إحدى أهم سمات الدور القضائي المعاصر، والتي لا يمكن تحقيقها بعيداً عن استقلالية القضاء. لذلك، كان لا بد من توضيح التحول الذي طرأ على دور القاضي على وقع كل هذه المتغيرات في ظل حكم القانون. هذه المتغيرات أدت إلى اعتبار القاضي رقيب القانون لناحية تقييم شرعية القوانين أو مدى احترام مضمونها لمصالح المجتمع، وإلى اعتباره باعث القانون أو محفّزه لناحية تقييم القواعد الفاعلة في المجتمع والسوق وإدخالها في الجسم القانوني.

لا بد لنا من قراءة دور القاضي في هذا الوسط المتغير، الذي تنقّل – منذ بدء النظرية الوضعية ودور الدولة وسلطاتها الثلاث ومعنى التوازن في ما بينها – بين حقبات مختلفة، تغير خلالها أداؤه ودوره بموجب أدوات تلك المراحل ومتطلباتها. نركن في هذا السياق، في تحليل دور القاضي، إلى مقاربة فرانسوا أوست في دراستيه المقدمتين في العامين 1991[1] و2001[2]، واللتين واكبتا التحولات العالمية المنعكسة في القانون والمجتمع والسلطات:

مرحلة الدولة الليبرالية

في مرحلة الدولة الليبرالية المبنية على إرادة الأفراد الحرة، كان القانون “يُعلِم ويَسجن” فعل القاضي ويمنحه دوراً ذا منطق استنتاجي لمضمون هذه الإرادات. كان القاضي في ذاك السياق يحجر نفسه في موقف سلبي ويظهر بذلك حارس القواعد القانونية الثابتة التي تعكس فصل السلطات. شكّل هذا الدور نموذجاً ليزرع القاضي معنى الحيادية، ووضع عمله ضمن حدود قواعد الشرعية وفقاً لمتطلبات نموذج العقيدة الليبرالية الكلاسيكية الذي تبنته الدول. وبذلك ترك لحرية الأطراف – الفاعلين الخاضعين للقانون الخاص، أمر تحقيق توازنات علاقاتهم لوضع الأطر الاجتماعية المناسبة. عرف دور القاضي في هذا السياق بالقاضي الحكم. ويقوم دور القاضي على تطبيق النص القانوني – كما صدر عن السلطة التشريعية – على النزاعات، وفقاً لنظرية مونتسكيو ورسمه لدور السلطات واعتماد مبدأ الفصل في ما بينها. هذا التوجه كان ضامناً لمبدأ المساواة أمام القانون منذ نهاية القرن الثامن عشر، حيث تم تقييد دور القاضي بهدف المحافظة على وحدة تطبيق القاعدة بشكل متساوٍ على المواطنين دون تمييز.

مرحلة دولة الرعاية

مع بلوغ دولة الرعاية ذروتها في سبعينيات القرن الماضي على أثر الثورة الاجتماعية، تغير أداء القاضي ودوره. انعكس ذاك التطور في أداء القاضي حيث واكبه تغير من القاضي الحكم إلى ما عرف بالقاضي المدرب. اعتبر رجل القانون حينها “المهندس الاجتماعي”، وقامت الدولة الاجتماعية برعاية القطاعات المتعلقة بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فإذا كان القاضي سابقاً يحكم ويحسم حتمياً في ظل القانون المحصور بالنصوص المكتوبة، تبلور أمام القاضي دور أكثر حيوية سواء في مرحلة ما قبل النزاع أو متابعة الإجراءات وإدارة النزاع أو ملاحقة تنفيذه وإلزام المعنيين باحترام قراراته. وأصبح يلعب أدواراً على هوامش القانون بموجب صلاحيات أُقرت له خارج الرسم الثابت القانوني، من خلال تدخله في إدارة التفليسة أو استخدام صلاحيات تُرك له تقديرها وممارستها كفرض الغرامة الإكراهية أو تقدير التعويضات وأنواع الأضرار أو اتخاذ تدابير احتياطية أو رعاية الفئات الضعيفة الاجتماعية (حالة الأطفال سواء ضمن الأسرة أو خارجها)، إلى أن فرض موقعاً من خلال استنباط حلول تجرأ فيها على جمود تعديل التشريع باعتماده على مبادئ قانونية تم تكريسها.

واكب هذا الدور الجديد للقاضي حراك اجتماعي، سواء في دول الغرب أو في لبنان، لناحية انتزاع حق الإضراب عبر القضاء لموظفي القطاع العام، أو النضالات النسوية التي سعت للجوء للقضاء من أجل الحماية وإن قبل صدور قانون الحماية من العنف الأسري في لبنان. تحول دور القاضي من تمجيد النص -الناطق باسم السلطة الحاكمة- نحو دور أكثر واقعية من خلال الواقع الملموس للنزاعات، وأخذ عمله الفعلي بعداً ذا طبيعة استنباطية وبراغماتية بدل عمله القانوني الاستنتاجي.

وإذا كان هذا الأداء في المرحلة الأولى منتمياً إلى نظام الدولة وقدسية نصوصها ومحمياً في أطرها، وحيث اتسمت الدولة بطبيعتها البوليسية، فإنه في المرحلة الثانية تأثر بطبيعة الدولة المتدخلة في حماية المصالح وتوازنها، وتكرست بموجب ذلك طبيعتها الحمائية الراعية. وإن بقي القاضي محكوماً في هذه المرحلة بهاجس المثالية في الأداء على حساب التناغم المنطقي، حيث أخذ موجب التحفظ والابتعاد عن المجتمع بعداً جامداً، انعكس ذلك في سلوكه الذي يفترض حيادية القاضي عن التفاعل بالشأن العام. إلا أن ما يفترض الالتفات إليه من أهمية دور القضاء في تلك الحقبة هو ما ميز الدول الديموقراطية القائمة على حكم القانون عن الدول التوتاليتارية المتمثلة بنموذج الحكم بالقانون أو ديكتاتورية القانون الذي يخدم مصلحة السلطة. وبذلك ارتبطت الديموقراطية حينها بما عرف بدولة القانون والمؤسسات في حماية المجتمع وضمانته وتفاعلهما ضمن سياق حكم القانون.

المرحلة المعاصرة في ظل النيوليبرالية

أما التحولات المركزية التي دخلت فيها الدول مع نهاية الألفية الثانية، والتي سميت “شبكية الدولة والقانون”، فقد أدت إلى ظهور نموذج جديد للدولة باعتبارها دولة ناظمة، ونمطٍ جديدٍ لانتاج القانون من خلال التأثر بموازين القوى الاقتصادية العالمية، إضافة إلى السياسية منها. كما أن التحول الاجتماعي في الدول، تعزَّز أيضاً من خلال حقيقة صورة القاضي ورمزيتها، وتغيير دوره في نظر المجتمع المدني من ناحية وتجاه البيئة السياسية من ناحية أخرى. وبذلك تحول دور القاضي من مجرد دور تطبيقي إلى واضع للقاعدة القانونية على حساب المشرع سنداً للمعايير القانونية المتاحة له بموجب النظام القانوني والنظام القضائي للدولة، ما أدى إلى تعاظم دور القاضي[3].

كل هذه التحولات تفترض أداء مختلفاً لعمل القضاء يعكس من خلالها خطورة التحديات وأخلاقيات المواجهة. كان كلسن، مؤسس مبدأ تسلسل القاعدة القانونية وسمو الدستور، في مرحلة انبثاق النظرية الوضعية للقانون، قد اعتبر أن العدالة هي ضرورة أخلاقية، رابطاً بين مضمون الحق ومضمون الأخلاق أو العدالة. إلا أن الخلل الأساسي الذي انعكس في القوانين المكتوبة يكمن في تجسيدها لنصوص بعيدة عن مضمون الحكمة والأخلاق، ما جعل النظرية الوضعية بنموذجها المكتوب عرضة للانتقاد باعتبارها رسمية وشكلية بعيدة عن تحديات المجتمع. هذه القيم الأخلاقية التي افتُقِدت هي نفسها التي أعيد طرحها على أثر العولمة القانونية. وأعيد البحث حول مصدر القاعدة القانونية التي يفترض أن تحقق الانتظام دون المس بمبدأ العدالة، ورافق ذلك التحول البحث في دور القاضي وبشكل خاص في الدول التي تعتمد نظام القانون المكتوب.

تأثر إذن دور المؤسسة القضائية وفعالية عمل القاضي مع التغيرات التي طرأت على طبيعة الدولة ووظائفها. فكان من شأن تحول آلية عمل السلطات من الأنظمة والحكومات إلى التنظيم والحوكمة، وتضاؤل دور الدولة من دولة الرعاية إلى الدولة المتواضعة (Etat moderne, Etat modeste)، أن أدى إلى تجاهل واضح للعديد من الأدوار التي كانت تطلع بها الدولة وإلى إعادة الخلط بين الأدوار المختلفة للسلطات. نذكر على سبيل المثال صدور تشريعات في فرنسا تعتمد الوسائل الرقمية لتقدير التعويضات عن الأضرار الناتجة عن المسؤولية المدنية، على خلفية التأثر بالتطور التقني واعتماد القياس الرقمي للمصالح على حساب دور القاضي في التقدير. أظهر هذا التوجه استياء قضائياً على خلفية اعتداء المشرع على دور القاضي التقديري. لا شك أن التحولات التقنية والاقتصادية الاجتماعية قد ترخي بثقلها على نمطية عمل السلطات وصلاحياتها ومعايير التناغم في ما بينها. فهذه التحولات الواقعية قد تسحب بساطاً من الصلاحيات من جهة لتعطي لكل من السلطات أدواراً مستجدة يفترض أن تطلع بها. وعلى كل منها، والقضاء أولاً، أن يبحث عن الدور الأنسب لتحقيق الغاية المنتظرة من عمله من خلال تفعيل الهوامش المتروكة له.

التحول القانوني

إذا كانت النصوص القانونية هي أداة عمل القاضي في حل النزاعات، يرتكز إذن عمل القاضي على تطبيقها عندما تكون واضحةً أو تفسيرها في حال غموض النص، أو تحديثها عندما تصبح غير ملائمة للواقع وتطوراته، أو إتمامها عندما تكون ناقصة. كما يحق له أن يبتكر القاعدة عند غيابها انطلاقاً من الأسس التي وضعت في المادتين 2 و4 من قانون أصول المحاكمات المدنية، وذلك بالعودة إلى مصادر القاعدة المختلفة وإلى المبادئ العامة والمبادئ الأساسية للقانون اعتماداً على أسس العدالة والانصاف[4]. يعرف هذا الدور بالدور الاجتهادي، وهو يشكل أحد مصادر القاعدة القانونية المتممة للقواعد المكتوبة، ويدخل في صلب واجبات القاضي تحت طائلة اعتباره مستنكفاً عن إحقاق الحق. نشير أيضاً إلى أن هذا الدور هو الذي يشكل العنصر الفاصل بين دور القاضي التقني التطبيقي والدور الانساني الاجتهادي، والذي يستطيع من خلاله – لغاية الآن- أن يفرض نفسه في مواجهة الدور المفترض للذكاء الاصطناعي[5].

وبين الأبعاد السياسية و/أو الاقتصادية و/أو الاجتماعية للقانون الوضعي تكمن أهمية القضاء، وأمام متغيرات العولمة والنيوليبرالية وسيطرة القوة وأدواتها الاقتصادية والسياسية على حساب القوانين الناظمة، أصبح القاضي هو الضامن للانتظام الاجتماعي والاقتصادي والتوازن في ما بين هذه المصالح. وانطلاقاً من كون القاعدة القانونية، بموجب القانون الوضعي، هي الضامنة للانتظام، والقضاء هو الوسيلة للوصول إلى العدالة، فإن التحولات المعاصرة أظهرت خللاً في مدى فاعلية هذا النمط بين القوانين والسلطة والمجتمع في كنف الدولة. لذلك، أصبح القاضي، بموجب مرحلة الواقعية، هو الممسك، بموجب مسؤولياته الأخلاقية، بعناصر البحث عن التوازن بين الانتظام والعدالة.

وهذا ما سنحاول توضيحه من خلال عرض التحولات التي طرأت على القانون بوصفه نصوصاً مكتوبة صادرة عن السلطات الرسمية وفق النظرية الوضعية، وعلى منافسته بقواعد ذات مصادر مختلفة. فنوضح أولاً العلاقة بين القانون والمجتمع ثم القانون والسياسة، ثم القانون والحريات والحقوق، لنخلص إلى مفاعيل التحولات في فرض القاضي سلطة قانونية.

القانون والمجتمع

تعد العلاقة بين القانون والمجتمع علاقة جدلية، فلا يمكن تصور قانون بلا مجتمع ولا مجتمع بلا قانون سواء على المستوى المحلي (الداخلي في دولة ما) أو على المستوى الدولي، أو حتى في العالم الافتراضي، مع فارق مصادره وآليات تفعيله. شكل القانون الوسيلة الناجعة لتحقيق الانتظام في الدول وضمن سيادتها على إقليمها وأفرادها، نظرا لضمور فاعلية القواعد الأخرى في فترات زمنية مختلفة، كالقواعد الدينية والقواعد الاجتماعية. وارتبطت السيادة بشرعية السلطة الحاكمة التي تمارس مهامها بموجب القوانين.

وإن كانت العلاقة بين الحقوق – وما يشملها من حريات – والقانون علاقة متداخلة، إلا أنها غير متطابقة. فالقانون يتمثل بمجموع القواعد الناظمة لهذه السلوكيات، والضابطة للحريات، والضامنة لممارسة المواطنين المختلفين لحقوقهم المتنوعة ومنع الاعتداء عليها ضمن سيادة الدولة. وكذلك، يمثل القانون الرابط بين البعد الفردي والبعد المجتمعي لسلوك الإنسان، ففي البعد الفردي يسعي لتحقيق مصالح الأفراد وحماية حقوقهم وحرياتهم، ويحقق انتظاماً اجتماعياً في بعده المجتمعي. فالقاعدة القانونية تهدف إلى فرض الانتظام الاجتماعي ضمن القواعد الملزمة المتعلقة بالنظام العام.

بناء عليه، كلما اتجه النمط الاجتماعي إلى الحياة المجتمعية، توجهت القاعدة إلى إعلاء شأن الانتظام دون المس بالحقوق الأساسية، وكلما جنحت المجتمعات إلى الفردية اتجهت القاعدة إلى ضبط التفرد في المصلحة الخاصة على حساب الانتظام، وذلك باعتماد معايير مرنة. ومع اتجاه المجتمعات نحو الفردية والحريات الواسعة المدى، ضعفت هوامش النظام العام لمصلحة الحريات الفردية. وهنا يكمن التحول الأبرز على مستوى السلوك والضوابط. في هذا السياق نوضح أن العولمة، بأبعادها وأدواتها المنبثقة عن النظام النيوليبرالي السائد في مجتمعات عرفت بما بعد الحداثة، أثرت بشكل أساسي على السلوك الإنساني وعلى معنى الحريات وأبعادها. ضعف بموجب هذا التحول هامش النظام العام المرتبط بدور الدولة لمصلحة المزيد من الحريات الفردية، كما ضعفت إمكانية الدولة على التدخل بتخليها عن دورها الرعائي. وأصبحت الحقوق والحريات جزءاً من العناصر المتنافس عليها في المجتمع على غرار المنافسة في السوق بفعل تفكك البنى الاجتماعية التقليدية. تغير مضمون النظام العام الذي كان ثابتاً في الحقبة السابقة وتعددت أبعاده وطبيعته[6]، بحيث أصبحت حماية الحريات الفردية هي من دوافع النظام العام المستجد ضمن معايير الجيلين الثالث والرابع لحقوق الإنسان.

هكذا، فرضت قواعد السوق نوعين من النظام العام، أولهما إلزامي لحماية المستهلك والثاني توجيهي لحماية المنافسة. وإن كانت القاعدة التقليدية الأساسية في فرض النظام العام مبنية على عدم قدرة الإرادة الفردية على تجاوزها، باعتبار القواعد المتعلقة بالنظام العام هي قواعد ملزمة، أصبح المعيار الحاسم في تمييز أبعاد النظام العام يرتبط بطبيعة الحق والمصلحة المحمية. فأعدنا التمييز بين الحقوق التي يمكن المفاوضة عليها والتي تشكل جزءاً من الحقوق المحمية بموجب الحقوق الأساسية للإنسان، والحقوق التي لا يمكن المفاوضة عليها وهي الحقوق الطبيعية الإنسانية. هذه الأخيرة تدخل ضمن ما كان سائداً قبل النظرية الوضعية أي ضمن نظرية القانون الطبيعي. هذا التحول يرتبط ببنية الدولة وتضاؤل دورها وبصلاحية القاضي ودوره في تقييم الحق وعلاقته بالكرامة الانسانية. يعود القاضي في تقدير معايير الكرامة الإنسانية لمفاهيم نظرية القانون الطبيعي، برغم أنه يلعب دوراً في الدولة المنبثقة عن القانون الوضعي، في مرحلة مجتمعات ما بعد الحداثة. خرج دوره بموجب هذا التحول عن تطبيق القاعدة ودخل ضمن حيّز تقدير الحق وتفعيله لمصلحة الانتظام في الدولة الذي يشكّل أحد أدواره الدقيقة المستجدة.

القانون والسياسة والديموقراطية

لا يمكننا أن نفصل التطورات في علم القانون عن التحولات السياسية والمجتمعية وتطور دور الدولة ومكوناتها وصلاحياتها، لأن القوانين هي القواعد المنبثقة عن السلطات المنتخبة، وهي السلطات الحاكمة وفقاً لما تم التوافق عليه في ظل الدولة الحديثة الديموقراطية بموجب النظرية الليبرالية. كما وأنها قواعد ملزمة وعامة، ومرتبط تفعيلها بحصرية استخدام القوة المعطاة للسلطات الشرعية في الدولة، لذلك ارتبطت بالسلطات المنتخبة أو التي تتمتع بشرعية التمثيل.

وتتميز هذه الحقبة من التغيير بمعايير التمثيل والشرعية بعاملين أساسيين: فإضافة إلى الثورة الرقمية وانعكاساتها الاجتماعية، والعولمة الاقتصادية وأثرها الاجتماعي، تشهد الدول مرحلة تحول سياسي جذري، ويشهد لبنان انهياراً تاماً على مستوى الدولة ومؤسساتها. وعندما نتناول الأنظمة السياسية لا يمكننا تغييب أدوات الحكم الأساسية المتمثلة بالقواعد القانونية. أضيف إلى الشرعية التمثيلية للشعب الشرعية الدولية للحكم وما ينبثق عنه من قواعد، وأصبح الشعب ينادي بحقوق غير مشمولة بالضرورة بالقوانين، فأصبحنا أمام حقوق شرعية – قانونية وحقوق مشروعة. وما قضية الزواج المدني في لبنان وما تثيره من نقاش حول الحق القانوني والحق المشروع في الزواج المدني، إلا نموذجاً واضحاً على هذا النقاش في أبعاده الاجتماعية والسياسية والقضائية- الحقوقية والقانونية. في هذا الموضوع بالتحديد استطاع القضاء ربط الحق بالزواج المدني بالحقوق القانونية المرتبطة بالمبادئ الأساسية والعامة[7].

وعندما نتحدث عن ثلاثية الدولة والحق والمواطن نستنتج أن المحور الرابط لهذه العناصر هو القانون. وإضافة إلى تميز القانون بالزجر والعقوبة، يتميز بكونه القاعدة المطبقة على الجميع دون تمييز، فهو القاعدة العامة والمطلقة، يخضع لها جميع المواطنين وأشخاص القانون الخاضعون لسيادة الدولة المعنية، سواء أكانوا مواطنين أو مقيمين، أشخاصاً طبيعيين أو معنويين، بمن فيهم المسؤولون والحكام والمؤسسات العامة والسلطات نفسها والشركات الأجنبية الناشطة على أراضي الدولة في مشاريعها وعلاقاتها.

فمن ناحية، ووفقاً للديموقراطية الليبرالية، تصدر القوانين عن السلطة التشريعية كسلطة سياسية منتخبة من الشعب على أساس قانون انتخابي عادل وممارسة انتخابية نزيهة. وتضمن السلطة القضائية صحة تطبيق القانون وتفعيله، بما يشمله من ضوابط والتزامات وعقوبات، على أساس المساواة والإنصاف، تحقيقاً للعدالة على ضوء الواقع الاجتماعي وظروف النزاع المطروح. لذلك، تميزت الدولة الديموقراطية بكونها دولة القانون والمؤسسات. ومن ناحية ثانية، يمثل القانون أداة بيد السلطات لممارسة سيطرتها على المجتمع. لذلك، فكلما اتجه النظام نحو الديموقراطية تقترب غايات القانون من حقوق المواطنين وحماية مصالحهم، وكلما تراجع النظام الديموقراطي نجد أن غاية القوانين الصادرة تجنح لحماية مصالح الفئات الحاكمة وشراكاتها. فكان التمييز واضحاً بين حكم القانون والحكم بالقانون.

ومع أثر العولمة والشركات المتعددة الجنسيات على السلطات، استفادت أدوات الحكم المعاصرة، بتكتلاتها الفاعلة المستجدة، فاختلطت المقاربات بين النظرية الليبرالية والنظرية الماركسية، واعتمد النمط النيوليبرالي على القانون للحكم، وتفعيل مصالحه من خلال القانون. هذه المصالح التي تشكل تقاطعاً بين السلطات الحاكمة والقوى الاقتصادية الكبرى. لذلك، ومع الدول ما بعد الحديثة التي بنيت على حكم القانون، تبلورت ضرورة التوجه نحو حكم القانون في خدمة مختلف المصالح ومنها الاجتماعية والمستدامة، والتنبه من الحكم بالقانون كنموذج أوتوقراطي. فاستعادت الدراسات ضرورة البحث في مصدر القانون وكيفية تفعيله، بدلاً من الغرق في تفسير مضمونه وتقنيات تطبيقاته على غرار المقاربة الوضعية التقليدية. وأخذت الدراسات بالتمييز بين الحقوق الشرعية والحقوق المشروعة، والتناقض في ما بينها أحياناً، كما توجه البحث في تقييم القوانين من خلال التركيز على معايير تحاكي الديناميات الجديدة في السلطة والقرار والمصالح المختلفة وعلى تناغمها مع المجتمع[8].

التمييز بين الحقوق الشرعية والمشروعة

ولتوضيح الاختلاف بين الشرعية والمشروعية في أبعادها المعاصرة، يهمنا التركيز على التطور الذي طرأ على المفهومين. فقد ارتبطت الشرعية تقليدياً -سندا للمعنى المتعارف عليه- بقواعد الديموقراطية الغربية، أما “المشروعية” فارتبطت تقليديا بـ”حكم القانون” الذي كان يهدف إلى تفعيل القوانين وضمان حقوق المواطنين على أساس العدالة والمساواة. أما مع التحولات في مجتمعات ما بعد الحداثة، فقد أصبحت المشروعية مرتبطة بمدى توافق الممارسة مع حقوق الأفراد، التي تطورت بذاتها مع تطور نظرية حقوق الإنسان. إذ مع بداية القرن الواحد والعشرين، بدأت الأمم المتحدة بطرح مفاهيم جديدة على مستوى الشرعة الدولية لحقوق الانسان وربطتها بحماية البيئة ومكافحة الفساد، وأصبحت المشروعية مرتبطة، إضافة إلى الشرعية، بالمعيارين الجديدين. وقد تبلور ذلك في بداية الالفية مع مخطط كوفي أنان وإطلاق الميثاق العالمي للأمم المتحدة في العام 2000 (The UN Global Compact UNGC)، وأرفقت لاحقاً بخطة 2030 المعروفة بخطة التنمية المستدامة التي أطلقت في العام 2014. فأصبح التفريق، في المعايير الدولية، واضحاً بين الشرعية المبنية على النصوص القانونية في الدولة، وهي الممارسات المنضوية في ظل القواعد القانونية سارية المفعول والصادرة عن السلطات المركزية والتمثيلية –والتي عرفت بالقانون الموضوعي، والمشروعية وهي المرتبطة بالحقوق المنبثقة عن المبادئ العامة لحقوق الانسان – والتي ترتبط بموجب النظرية القانونية بالحقوق الذاتية. لم تعد المشروعية مرتبطة حصراً بآلية حكم القانون بل أصبحت منضوية تحت مظلة ما عرف بالقواعد اللينة والتي تجد جذورها في العديد من المصادر، وهي بذلك تحتاج تدخلاً قضائياً لتحويل الحالة الواقعية التي تنادي بالحق إلى مبدأ قانوني عام إذا توفرت شروطه.

إقرأ على موقع 180  "جيوبوليتيك إنسايدر": حزب الله أقوى كيان غير حكومي على سطح الكوكب!

وبما أن الشعب هو مصدر الشرعية وهو معيار هذه الشرعية، وانبثاق القاعدة عن الشعب هو الذي يجعل منها قاعدة مطبّقة وفاعلة، فإن موقف المجتمع من القاعدة القانونية هو الأساس، وفي غيابه تفقد هذه القاعدة شرعيتها. وانطلاقاً من هذه الشرعية، اختلفت آلية إدارة المجتمعات، في مطلع الألفية الثالثة، من شكل السلطة والحكم إلى الحوكمة والتشاركية في اتخاذ القرار، وأثر ذلك تلقائياً على مفهوم حكم القانون الذي لا يتحقق بغياب ثقافة القانون. هذا التوجه الجديد للديموقراطية، ينعكس على صدور القاعدة القانونية، وعلى عمل القاضي في هامشه الحديث، وبالتالي على دوره كصلة وصل بين ثقافة المجتمع وصدور القاعدة. وتتبلور بذلك معايير استقلاليته من خلال النتائج المرجوة من دوره.

القانون والحقوق والحريات

أمام التغيرات المعاصرة، وأسوة بما حصل في مختلف الدول الليبرالية، تبلورت عناصر جديدة ذات تأثير على حياة المواطنين، وبشكل أكثر تحديداً نذكر الدور الاساسي للشركات الكبرى والمتعددة الجنسيات في بعدها الاقتصادي والمنظمات غير الحكومية في بعدها الاجتماعي. وأصبحت المصالح الاقتصادية عنصراً فاعلاً – أو شريكا وإن غير رسمي – في القرار السياسي من جهة، وفي مفاعيل هذه السياسات على حياة الأفراد من جهة أخرى. انعكس ذلك في طبيعة التوازن بين الحقوق والحريات المكرسة في ظل القوانين المحلية.

فعلى صعيد الدور الاقتصادي وأثره على علاقة المواطن بالدولة والقانون، وضمن توجه خصخصة المرافق العامة بأنماطها المختلفة، أصبح ما كان حقاً أساسياً للمواطن خدمة أو منتجاً في السوق، ومن كان مواطناً محمياً بموجب صلاحيات الدولة أصبح مستهلكاً في علاقته بمقدم الخدمة. تحولت العلاقة إذن من حق محمي إلى حقين متواجهين، كلاهما محميان في القانون برغم اختلاف طبيعتيهما، هما من ناحية حق المواطن بالخدمة-المستهلك وحق الشركة مقدمة الخدمة بالربح. أصبحت هذه الحقوق المرتبطة بالمواطنة جزءاً من عناصر السوق، خاضعة لضوابط حرية المنافسة-إذا توفرت- ومبادئ حماية المستهلك – إذا تفعلت-، مع ما يعكسه ذلك من إمكانية التفاوض والتنازل عن هامش واسع من الحقوق التي كانت خارج الأطر العقدية.

وعلى الصعيد الاجتماعي ومع تنامي الحريات الفردية وضعف هامش النظام العام، أصبح الصراع الاجتماعي بين حقوق متقابلة يسعى أصحابها لفرض مصالحهم، متسلحين بمبادئ الحرية، ومتخطين بذلك ضوابط كانت تشكل ركائز القانون ضمن ما كان يعرف بالعقد الاجتماعي. نذكر في هذا السياق صراعين أثارا جدلاً سياسياً وإعلامياً واسعاً هما أبعاد حرية التعبير ودور الإعلام والفضاء الرقمي وضوابطها خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والصراع حول أبعاد الحريات الفردية والمثلية الجنسية في مجتمع ذي ثقافات متنوعة. فأصبح القاضي أمام تحدي البحث عن هذا التوازن بين الحقوق، ووضع معايير النظام العام في أبعاده المستحدثة، بما تشمله المعايير العالمية من قضايا البيئة والمساواة بين الجنسين والأمن السيبيري والتجارة الدولية، دون خطر الانزلاق إلى الدولة البوليسية.

ضمن هذا النظام العالمي الجديد، أعيد النقاش حول الحدود الفاصلة بين الحريات والحقوق المختلفة في ما بينها من جهة، وبينها وبين مبادئ الانتظام والضوابط من جهة ثانية، وفي ذلك أعيد طرح الحقوق المشروعة مقابل الحقوق القانونية المستندة إلى الشرعية التي هي بدورها مبنية على القوة. كما أعيد النقاش حول علاقة القواعد القانونية بالقواعد الأخلاقية، ودور المصالح في تحديد نطاق الحق وطبيعته وهامش الحرية المتاح في ممارسته. وضمن السياق نفسه، برزت الإشكالية في تحديد الهوامش بين القانون الطبيعي والقانون الوضعي والقانون الذاتي بما يتضمنه من فرض المصالح الخاصة والعلاقات الاتفاقية.

تقلصت بموجب ذلك قوة النظام العام لمصلحة التوازن بين مختلف الحقوق المتنافسة، وأصبحت الدوافع لضبطها مرتبطة بالمصالح الخاصة تحت مظلة المصالح المشتركة على حساب المصلحة العامة، سنداً للحقوق المشروعة، وباستراتيجيات ذات مصدر ذاتي[9] عرفت بالرقابة الذاتية. تنبثق الرقابة الذاتية من مبادئ الإدارة الذاتية وفق منطق الحوكمة، والتي تقوم على أسس الأخلاقيات كضوابط ذاتية. وأصبح بموجب هذه الأدوار من أهم أدوار القاضي الفصل في أبعاد هذه الضوابط القانونية، من خلال تحديد بعدها الملزم، ومتى تبقى قواعد ضمن هامش التفاوض والحريات.

وعلى الصعيد السياسي، إزاء هذا الواقع المستجد، تحول دور الدولة إلى ناظم لهذه الحقوق دون صلاحيات حقيقية بالتدخل إلا عند توفر جرائم. وأصبح التجريم أداة بيد الدولة لضبط الحريات وهو بذاته خاضع لخطرين: الردة إلى الدولة البوليسية أو الانصياع للتوصيات الدولية دون الانصات إلى نبض المجتمع، إذ اعتبر التجريم أحد عناصر أخلاقيات الدولة في القانون المعولم[10]. ولنا في قضايا معاداة السامية نموذجاً على مخاطر هذه التوجهات على القوانين المحلية والشعوب وحقوقها. وإذا عدنا إلى طبيعة الدولة الناظمة نجد أنها تهتم فقط بالوظائف السيادية كالأمن والقضاء، وهو ما تناولته ضمناً خطة الأمم المتحدة للعام 2030 في الهدفين الأخيرين، السادس عشر والسابع عشر. وتترك الدولة بموجب هذا الدور الوظائف الثانوية للقطاع الخاص ضمن ما عرف بالشراكة. هذه الوظائف الثانوية هي في الحقيقة من الوظائف الاساسية والمباشرة في العلاقة مع المواطن في حقوقه الاساسية والخدمات المختلفة التي كانت تشكل المرافق العامة في ظل دولة الرعاية.

مَن يُصدر القاعدة؟

ترتبط هذه الفكرة [11] مباشرة بالعناصر الفاعلة المؤثرة في القرار السياسي الذي ينعكس بصدور قوانين تحمي مصالح محددة على حساب الأخرى. انطلاقاً من هذه القاعدة، بنيت الديموقراطية على أساس نظرية التمثيل وارتكزت على دورية الانتخاب لتتم المحاسبة من قبل الناخبين. لعل أخطر ما ينعكس على الديموقراطية التقليدية في ظل التحولات في الاقتصاد السياسي يتمثل في تقاطع المصالح بين المسؤولين العموميين وأصحاب المصالح الاقتصادية، ما يؤدي إلى تضافر القوة بين هاتين الفئتين ضمن ما يصنف بالنظام الاوليغارشي و/أو الكارتيلات.

وشكّل تنامي جرائم الفساد والتهرب الضريبي أهم سمات العصر في مختلف الدول، ما انعكس في تطوير جريمة تبييض الأموال بادخال الأموال الناتجة عن الفساد أحد عناصر الأموال القذرة. لذلك، فرضت قواعد الحوكمة معياراً أساسياً مبنياً على عدم تضارب المصالح بين الأشخاص المعنيين بالشأن العام والمصالح الاقتصادية، وارتبط ذلك بإجراءات متعددة لمكافحة الفساد ضمن التوصيات الدولية ومن أهمها قواعد الشفافية. ولنا في قضايا الحق في الوصول إلى المعلومة باع طويل في العلاقة بين المؤسسات والإدارات العامة والمواطن والقضاء، والكثير من الأمثلة التي ضجت فيها الأخبار في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.

على ضوء ذلك، خرجت أبعاد الشرعية عن معايير التمثيل التقليدية لتدخل ضمن قواعد نظرية الأطراف المعنية، بما يسمح للمجتمع المدني والأفراد المهتمين بمتابعة القضايا المتعلقة بالحقوق وبتفعيل القوانين. ينعكس هذا التحول في دور القضاء في حسم معايير الصفة والصلاحية والمصلحة على ضوء كل هذه المتغيّرات، هذه المعايير التي تشكل شروطاً لصحة قبول الدعاوى أمام المحاكم المختصة.

دخلت إذن معايير الشرعية المستحدثة بتمثيل هذه الفئات التي تتمثل بالمجتمع المدني[12]، لذلك أخذت البرامج الموجهة من المنظمات غير الحكومية تتوسع نحو قضايا الكوتا النسائية، ودمج ذوي الحاجات الخاصة، والفئات المهمشة. واتجهت البرلمانات إلى تضمين النصوص لهذه الشروط بحثاً عن الشرعية الدولية الشكلية. وبقيت هذه النصوص دون تفعيل اجتماعي فعلي إلا ضمن ما يعكس حسابات رقمية في برامج هذه المنظمات، ناهيك عن مخاطر التمثيل الطائفي داخل المحاكم وانعكاس ذلك على وموقع القضاء. وعلى خلفية التركيز على طائفة القاضي في متابعة بعض الملفات ذات الأثر في الرأي العام، برز تحدٍ أساس أمام القضاء في تفعيل حكم القانون، واستعادة الثقة بين القانون والمجتمع، متمثل في دور هذا القانون في خدمة المجتمع دون أن يشكل مرآة للتمثيل الطائفي كوسيلة للشعور بالعدالة أمام القانون.

وإذا كانت الغاية المرجوة من إصدار القوانين هي الاستجابة لمتطلبات الاستقرار والأمن في المجتمع، فإن سلوك السلطات التشريعية عبر العالم أدى منذ الربع الأخير من القرن الماضي إلى انتاج العديد من الأزمات الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية. ويشكل الواقع اللبناني – في أزمة المصارف على سبيل المثال لا الحصر- أحد أشكال الأزمات التي لم تستطع النصوص الموجودة من إيلاء القاضي سهولة البت فيها على أحسن تقدير. تثار هذه المسألة على مستويات عدة، سواء في عمل المشرع لإرضاء سياسات خارجية على حساب المصالح المحلية، أو في خرق السيادة المحلية في بعض التوجهات السياسية، أو عند وجود تدابير استثنائية وظروف طارئة تسهم في استصدار قوانين مؤقتة ومآلات ذلك على حقوق الأفراد ومصالحهم. يبرز إذن دور القضاء في البحث عن الحماية الاجتماعية وضوابط المصالح الخاصة في ظل السياسات العامة، من أجل تثبيت الانتظام وتفعيل القوانين.

لم يعد إذاً الحكم الفعلي للمجتمعات محصوراً بحكم الدولة وقوانينها بل أصبح المجتمع خاضعاً لشبكة قوى عالمية ودولية ومحلية – اقتصادية وحكومية وغير حكومية، إضافة إلى المعايير الموضوعة من مؤسسات خاصة معنية بمنح التصنيفات للمؤسسات التي تلتزم بمعاييرها، كل ذلك منبثق عن معايير الحوكمة. ناهيك عن كون الدولة نفسها، خاضعة في تشريعاتها، ليس فقط إلى الاتفاقات الدولية التي تشكل أحد مصادر القانون الوضعي في التنظيم الدولي، وإنما إلى تلك القوى الاقتصادية والعالمية، وإلى قوانين صادرة عن دول أخرى ذات أثر خارج أراضيها. نذكر على سبيل ذلك قواعد الفاتكا الأميركية في الرقابة على الحسابات المصرفية المحلية، أو معايير تفرضها الدول المصنعة للتعامل مع شركاتها المعنية في العالم الرقمي أو الذكاء الاصطناعي. فأصبحت التشريعات المحلية محكومة بمواصفات ومعايير تصدر إما عن دول أخرى أو عن مؤسسات غير حكومية، ولم تعد دوافع إصدار القوانين المحلية محصوراً بالاتفاقيات الدولية أو دور المنظمات الحكومية. إضافة إلى هذه الدوافع، ارتبطت أشكال التقييم بمعايير رقمية وشكلية ليست بالضرورة عاكسة للبعد الاجتماعي الوطني، وهذه المعايير عالمية وشاملة لا تحترم بالضرورة خصوصية المجتمعات. جهزت هذه الأطر الحديثة الأنظمة لدخول العالم الرقمي على حساب إنسانية الفرد. فأصبحت حماية البعد الانساني والاجتماعي المحلي وضمان استقراره منوطا بالقضاء.

القاضي هو الرقيب

أما على مستوى دور القضاة في عملهم، فإن الدراسات التي حاولت مواجهة هذه التحديات ركزت على الدور الأساسي للقضاة في مواجهة الانحراف السياسي من خلال إصدار قوانين لا تخدم بالضرورة المصلحة العامة، والتي أفضت إلى النقاش في عدم مشروعية القواعد القانونية الصادرة عن قوة السلطة، أو عدم تناغم القوانين مع القيم والأخلاق. كما ذهب النقاش للبحث في مدى شرعية القوانين عندما لا تلبي مصالح المجتمع. وساهمت الدول التي اعتمدت معايير ديموقراطية في تحقيق الرقابة على القوانين من خلال توسيع دور المحاكم الدستورية وإمكانية مراجعتها لإبطال تلك القوانين، أو من خلال دور متقدم للقاضي الذي يقوم بتطبيق هذه النصوص. إذ شكّل تحدي عمل القاضي في بته للنزاعات وتطبيق النصوص، بالبحث في توازن العلاقات من خلال تقييم أثار تطبيق النصوص وتقييم نتائجها إن كانت منطقية أو غير منطقية على أطراف النزاع أو عند البحث في النتائج المناقضة لأصحاب المصالح المختلفة[13]. يتسق هذا التوجه في تقدير قيمة القانون مع مبادئ الاستدامة والتشاركية، حيث ارتبطت بموجب الدراسات الحديثة بالمقبولية الاجتماعية للمشاريع المطروحة[14]. وفي ذلك، تظهر أهمية الديناميات المستحدثة في الربط بين الحقوق والمصالح والقوانين ضمن مقاربة الجدوى المرجوة والنتائج المحققة. دخل في صلب تقدير القاضي العامل المنطقي في توازن المصالح وينطبق هذا التقدير على العديد من الأسس التي كانت تشكل معايير ثابتة، كعامل المهل وعامل الربح وعامل المصلحة وعامل الحق، وغيرها.

المصادر والمراجع:

[1] Ost, “Jupiter, Hercule, Hermès: trois modèles du juge”, in La force du droit, dir. P. Bouretz, Paris, éd. Esprit, 1991, pp. 241-272

[2] Ost, “le rôle du juge vers de nouvelles loyautés” in Le rôle du juge dans la cité, actes du colloque du 12 oct 2001, les cahiers de l’institut d’études sur la justice, Bruxelles, Bruylant, 2002, pp 15-45.

[3] Ch. Panier, Le juge et la société civile, in le rôle du juge dans la cité, les cahiers de l’Institut d’études sur la justice, Bruylant, Bruxelles 2002, p. 135.

[4] يمكن مراجعة الدراستين التاليتين حول هذه المبادئ في القانون اللبناني:

منصور، سامي. “المبادئ القانونية العامة بمفهوم المادة الرابعة من قانون أصول المحاكمات المدنية”. مجلة العدل. العدد 2-3 (2002).

MAAMARI Mouhib, « réflexions sur l’équité », intervention dans le colloque L’Equité ou les équités Paris, septembre 2002, publié dans al ADL, revue publiée par le barreau des avocats de Beyrouth, 2003/1, pp. 109-121 ;

[5] وقدأثبتت دراستنا التي قمنا بموجبها مع د. عزة شرارة بيضون على عينة من الأحكام الصادرة عن القاضي المنفرد الجزائي في بعبدا إلى أن القاضي والقاضية في هذه الدائرة يقومان بدور تقني بحت: عزة الحاج سليمان وعزة شرارة بيضون، نساء لبنان في سلك القضاء: تعزيز السائد وإهمال الهوامش، ط. 1، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2023، الفصل الرابع.

[6] L’ordre public à la fin du XXe sciècle, avec la coordination du Th. RIVET, éd. Dalloz, Paris, 1996.

[7] سامي منصور، الحق القانوني في الزواج المدني في لبنان، محاضرة قدمت في مؤتمر في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية حول الزواج المدني في ظل القانون اللبناني، في 23/5/2015، منشورة في مجلة الحقوق والعلوم السياسية، العدد 7، 1/2016، ص. 274.

[8] CARCASSONNE G., « Société de droit contre l’Etat de droit », in L’État de droit, Mélanges en l’honneur de Guy BRAIBANT, Dalloz, Paris, 1996, pp. 37-45 ; BOBBIO N., « Sur le principe de légitimité », Droits, Revue Française de Théories de Philosophie et de culture juridique, PUF, n° 32, 2000, p.153 ; Rouvillois F., « L’efficacité des normes, Réflexions sur l’émergence d’un nouvel impératif juridique », fondation pour l’innovation politique, 2006, p. 3 L’efficacité des normes (fondapol.org).

[9] “La sphère de l’autonomie est devenue le petit paradis de chacun contre l’enfer des autres”: Bernard BEIGNIER, «L’ordre public et les personnes», in L’ordre public à la fin du XXe siècle, op.cit., p. 23 ;

[10] يمكن مراجعة الدراسات التالية:

Béatrice PAGOUI, Le droit pénal comme éthique de la mondialisation, Revue de science criminelle et de droit pénal comparé, 2004, no 1, pp. 1-10 (hal-00425159)

Olivier CORTEN, Droit force et légitimité dans une société internationale en mutation, R.I.E.J., 1996, 37,

Gilles LHUILIER, Minerais de Guerre : Une nouvelle théorie de la mondialisation, FMSH-WP-2013-36, juillet 2013

[11] «Qui édicte la norme, gouverne la Cité »: B. TEYSSIÉ, «Loi et contrat», in Actes du colloque Vive la loi, Sénat/Paris II, 2004.Colloque organisé à l’initiative du Sénat, le 5 mai 2004, Palais du Luxembourg, Paris.

[12] لا يسعنا في هذا السياق إلا أن نطرح الإشكاليات الحقيقية المرتبطة بحقيقة تمثيل هذه الجهات للقضايا التي تطرحها، ومدى ولائها لهذه القضايا دوناً عن غيره من الولاءات. ولأي مدى تستقل في هذا التمثيل عن مصالح أخرى. من هنا يدخل هذا الموضوع ضمن تفعيل معايير الحوكمة بما تشمله من شفافية ومحاسبة في أدائها وعملها.

[13] Paul Martin, «Sur les loyautés démocratiques du juge», in La loyauté, Bruxelles, De Boeck & Lacier, 1997, pp. 260-257 ; Michel LeRoy, «Balance des intérêts, démocratie et mégalomanie», in La république des juges, Actes du colloque, Liège, Editions du jeune barreau de Liège, 1997, p. 31.

[14] يمكن مراجعة الدراسات والمؤتمرات الواردة على الرابط التالي: https://crsdd.esg.uqam.ca/cahiers-de-recherche

(*) راجع الجزء الأول: استقلالية القضاء في لبنان.. ضرورات وتحديات (1)
(*) راجع الجزء الثاني: القضاء والتحولات المرحلية في العالم.. ولبنان (2)

(*) راجع الجزء الثالث: استقلالية القضاء اللبناني.. ودولة العدالة الإجتماعية المفقودة (3)

(*) راجع الجزء الرابع: الحوكمة ومعاييرها: نظام الحكم المعاصر (4)

Print Friendly, PDF & Email
عزة الحاج سليمان

أستاذة في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، بيروت

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الدولة ووظائفها المُصادرة.. "فدرال بنك" نموذجاً!