

بدأت في الأيام الأخيرة، تتظهر تباعاً العقبات الكأداء، التي تحول دون التوصل في وقت معقول، إلى تسوية لأعقد صراع يدور على الأرض الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية. ولم تحل مظاهر الأبهة التي أحاطت بالقمة الأميركية-الروسية في مدينة أنكوراج بآلاسكا، دون تغيير جوهري في مطالب بوتين:
أولاً؛ تخلي أوكرانيا عن منطقة الدونباس (دونيتسك ولوغانسك) في الشرق، التي تسيطر روسيا على 88 في المئة من أراضيها.
ثانياً؛ تُجمّد روسيا خطوط القتال في منطقتي زابوريجيا وخيرسون، حيث تسيطر القوات الروسية على 73 في المئة من أراضي المنطقتين اللتين تقعان في جنوب شرق البلاد.. وابداء الاستعداد للانسحاب من جيوب صغيرة تسيطر عليها روسيا في منطقتي خاركيف وسومي في الشمال.
ثالثاً؛ يتعهد حلف شمال الأطلسي “الناتو” بعدم ضم أوكرانيا إليه.
رابعاً؛ تحجيم القدرات التسليحية للجيش الأوكراني.
خامساً؛ رفض إرسال قوة أوروبية إلى أوكرانيا لضمان السلام بعد التوقيع على اتفاق محتمل.
هي مطالب تعادل الطلب من أوكرانيا الاستسلام. ولن يكون في مستطاع زيلينسكي أو أي رئيس أوكراني آخر القبول بها، على الرغم من أن الرأي العام الأوكراني صار أكثر ميلاً إلى تجرع كأس تبادل الأراضي، سبيلاً إلى وقف الحرب.
ومع أن جوهر تفكير ترامب قائم على أن العالم يتقاسمه لاعبون أقوياء لا يخضعون لأية قواعد بينما توجد دول تابعة، فإنه سيكون من العسير عليه، فرض تسوية على أوكرانيا، بالشروط الروسية. وهذا ما يُفسّر التراجع في موجة التفاؤل التي تلت قمة آلاسكا. وعليه، سيغدو أي لقاء بين بوتين وزيلينسكي وما سيليه من قمة ثلاثية يشارك فيها ترامب، وكأنه بمثابة جهد ضائع لن يوصل إلى السلام المنشود.
منذ قمة آلاسكا، غابت عن تصريحات ترامب الدعوات إلى وقف النار، وكأنه صار أكثر وعياً بحجم النزاع وامتداداته، في وقت يطالبه الأوروبيون بأن يقيم الدليل على وجود نية جدية لدى بوتين لوقف الحرب بتنازلات متبادلة؛ وهذا ما جعل ترامب يعطي نفسه فرصة لمدة 15 يوماً حتى يتبين خلالها ما إذا كان في الامكان الدفع بالجهود الديبلوماسية. وفي موقف يعكس سيطرة نوع من التشاؤم، قال ترامب الخميس الماضي، إن أوكرانيا لا تملك فرصة لكسب الحرب، من دون قدرتها على شن هجمات داخل روسيا.
هذا الموقف قرأه بعض المراقبين، على أنه تشجيع لأوكرانيا لتصعيد الحرب، من دون الإتيان على ذكر جهود الوساطة التي يبذلها. هذا الواقع، أي عدم تحقيق اختراق ديبلوماسي، يُعيد ترامب إلى دائرة التخبط التي تحيط به منذ سبعة أشهر. ويبقى السؤال هو: إلى أي مدى لديه الرغبة في ممارسة الضغط على بوتين، وإلى أي مدى هو راغب في دعم زيلينسك؟
منذ قمة آلاسكا، غابت عن تصريحات ترامب الدعوات إلى وقف النار، وكأنه صار أكثر وعياً بحجم النزاع وامتداداته، في وقت يطالبه الأوروبيون بأن يقيم الدليل على وجود نية جدية لدى بوتين لوقف الحرب بتنازلات متبادلة؛ وهذا ما جعل ترامب يعطي نفسه فرصة لمدة 15 يوماً حتى يتبين خلالها ما إذا كان في الامكان الدفع بالجهود الديبلوماسية
يرى، توماس غراهام، وهو مسؤول سابق في مجلس الأمن القومي الأميركي أنه “من الواضح جداً أن الرئيس (ترامب) لم يفهم حجم التعقيدات على صعيد المشاكل التي يواجهها، ومال إلى قراءة إيجابية لبعض الأمور التي تحدث بها بوتين”.
هذا نابع من الفرق في أسلوبي التفاوض المعتمدين من ترامب وبوتين. الرئيس الأميركي يُفضّل ديبلوماسية العلاقات الشخصية لتحقيق نتائج. والرئيس الروسي يعتمد طريقة منهجية خالية من العواطف.
ومثال الاندفاع العاطفي عند ترامب، يتجلى في زعمه أنه أوقف ستة حروب في ستة أشهر من ولايته. وهذا ليس دقيقاً. أما بوتين فلم يتراجع أمام التكريم الذي منحه إياه ترامب في آلاسكا، وتمسك بالمطالب التي يطرحها منذ بداية الحرب، من دون أن يعطي انطباعاً حول ظهور بوادر تعب على رغم الخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش الروسي، وعلى رغم كل ما يحكى في الغرب عن بداية ظهور تصدع في الاقتصاد الروسي بفعل العقوبات الغربية.
ولا يزال بوتين يمارس لعبة طويلة الأمد، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية. لعبة تستند إلى تقدم ميداني تدريجي بينما يتحدث الديبلوماسيون، حتى ولو أدى ذلك خسائر آلاف الجنود من الجانبين. ووفقاً لهذا المنطق، يقول مسؤول الشؤون الروسية في مجلس الأمن القومي الأميركي إبان ولاية جو بايدن، نايت رينولدز: “يعتقد الروس أن الوقت يعمل إلى جانبهم في النزاع.. ولذا ليسوا في عجلة من أمرهم للتوصل إلى تسوية سليمة. ولا يزال الجانبان بعيدان جداً في ما يتعلق بالقضايا الجوهرية”.
العودة إلى الجمود الديبلوماسي، تعني ذهاب ترامب في اتجاه فرض المزيد من العقوبات على روسيا، وبيع أوكرانيا أسلحة أميركية عبر الأوروبيين، ريثما تتمكن كييف من تحقيق قفزة في التصنيع المحلي، مثل انتاج صواريخ باليستية قادرة على ضرب العمق الروسي، بحلول نهاية العام. وهذا ما سيمنح أوكرانيا والحلفاء الأوروبيين، رافعة مهمة لاقناع بوتين بأن تحقيق نصر عسكري حاسم يغدو مستحيلاً. لا يعني هذا أن أوكرانيا لا تواجه صعوبات متزايدة في توفير العدد الكافي من المجندين. وفي مؤشر على ذلك، سمحت الحكومة بتطوع من هم فوق الـ60 عاماً في الجيش الأوكراني.
ولم تبقّ الصين بعيدة عن التطورات الديبلوماسية على الجبهة الأوكرانية. وفي رسالة غنية بالدلالات، أعلنت بكين أن الرئيس الصيني شي جين بينغ سيستضيف بوتين وأكثر من 20 قائداً، خلال انعقاد قمة شانغهاي للتعاون بين 31 آب/أغسطس الجاري والأول من أيلول/سبتمبر في مدينة تيانجين الصينية.
الصين، لم تكن بعيدة عن القمة الأميركية-الروسية في آلاسكا، ويهمها عدم التفريط بـ”الشراكة بلا حدود” التي نسجتها مع موسكو في السنوات الأخيرة، بينما تدور رحى الحروب التجارية الدائرة مع الولايات المتحدة والتنافس الصامت حول النفوذ في المحيطين الهادىء والهندي.