تتحرك السياسة العالمية نحو فضاءٍ جديد، حيث الخوارزميات تساهم في إدارة الحملات الانتخابية، وفي صياغة الخطاب، وفي تحديد مزاج الجماهير. الدولة الحديثة تتراجع بوصفها جهازًا يهيمن بالقانون لتغدو مركزًا لتشغيل الذكاء الاصطناعي في مراقبة المجتمع وتوجيهه. تتبدل الهويات الجماعية مع كل تفاعل تكنولوجي، فالجماعات الإثنية والثقافات المحلية تستعمل الذكاء الاصطناعي لتأكيد ذاتها؛ لإعادة كتابة سرديتها؛ لخلق حضور رقمي يمتدّ إلى ما وراء الجغرافيا. الذكاء الاصطناعي لا يمحو الهويات، بل يدفعها نحو أشكال جديدة من التنظيم العضوي؛ هوية هجينة تجمع بين الأصل والعصر؛ بين الأرض والبيانات؛ بين الحقيقة والخيال. يُولّد ذلك أنماط انتماء جديدة تستند إلى المشاركة الرقمية، وتحولًا في السلطة من يد النخب السياسية إلى يد المنصّات الخوارزمية، وانتقالًا في طبيعة التضامن من رابطة القرابة أو المصلحة إلى رابطة الذكاء المشترك.
كل ثورة تقنية تُعيد تشكيل تقسيم العمل، لكن الذكاء الاصطناعي يفعل أكثر من ذلك، إذ يعيد تعريف معنى العمل ذاته. تتغير بنية الإنتاج، ويظهر اقتصاد المعرفة كفضاء يربط بين البيانات والخيال، بين البرمجة والعاطفة، بين الإنسان والآلة. تُستبدل المهن التقليدية بوظائف ذكية، ويُعاد توزيع السلطة داخل المجتمع تبعًا لمن يمتلك أدوات الذكاء لا من يمتلك رأس المال فقط. في هذا الإطار الجديد تصبح العدالة الاجتماعية مرتبطة بتوزيع المعرفة، ويغدو التخصص الذكي هو الأساس في بناء التضامن العضوي الجديد. ينشأ من ذلك اقتصاد متشابك يقوم على تداخل الإنسان والآلة في الإنتاج، وإعادة تعريف القيمة بناءً على القدرة التحليلية لا اليد العاملة، وبروز طبقة جديدة من الوسطاء الخوارزميين الذين يديرون العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع.
الثقافة تدخل مرحلة التحول البنيوي الذكي، حيث تتبدل الرموز والمعاني وطرق التفاعل. اللغة نفسها تتغير حين تكتبها الخوارزميات وتفسرها الآلات، والفن يصبح مجالًا للذكاء الجمعي. الطقوس القديمة تُعاد صياغتها في فضاءات رقمية، والذاكرة الجمعية تنتقل إلى الحوسبة السحابية، فيتحول التاريخ إلى بيانات قابلة للاستدعاء الفوري. يتبدل الزمن الثقافي فيتسارع الإيقاع وتُختصر المسافة بين الماضي والمستقبل. الإنسان يجد نفسه في زمنٍ لا يُقاس بالساعات بل بالمعالجة الرقمية. في هذه المرحلة يصبح الضمير الجمعي شبكةً متصلة تتجاوز الحدود، ويغدو الذكاء الاصطناعي شريكًا في إنتاج المعنى لا مجرد أداة لتسهيله.
التكنولوجيا تغدو الشكل الجديد للتنظيم الاجتماعي، فهي التي توزّع المعرفة وتعيد تعريف السيطرة. الذكاء الاصطناعي يعمل كقوة تدويل وتفكيك وتجميع في آن واحد، يوحّد البشر عبر المنصات، ويخلق تضامنًا كوكبيًا يتجاوز القوميات، ويزعزع المراكز القديمة ليمنح الأفراد سلطة جديدة عبر البيانات، ويعيد تركيب المجتمعات المحلية لتصبح شبكات معرفية متفاعلة. هذا التحول يفرض على المجتمعات إعادة بناء أخلاقها، لأن القواعد القديمة لم تعد تواكب إيقاع الذكاء. يظهر شكل جديد من الأنوميا حيث تتقدّم التكنولوجيا على القانون والعرف، ويصبح المجتمع محتاجًا إلى منظومة قيم قادرة على ضبط الإيقاع الخارق للتطور.
الزمن القادم يحمل ملامح خمس تحولات كبرى: تضامن عبر التخصص الذكي حيث يُدار العالم عبر ترابط الوظائف بين الإنسان والآلة؛ هويات رقمية متعددة الطبقات حيث تعيد الجماعات إنتاج ذاتها داخل الفضاء الرقمي؛ اقتصاد معرفة وعدالة ذكية تقوم على المساواة في الوصول إلى أدوات الذكاء؛ إعادة صياغة الزمن الاجتماعي عبر طقوس رقمية تُعيد بناء الإحساس بالاستمرارية والانتماء؛ ونظام عالمي متعدد الأقطاب الذكية يجمع بين الدول والشركات والمختبرات والثقافات الرقمية.
ثورة الذكاء الاصطناعي ليست مسألة أدوات، بل مسألة وعي جمعي يُعاد بناؤه. هي دعوة لإعادة تعريف التضامن والحرية والمسؤولية في ضوء تكنولوجي شامل. المستقبل ينتمي للمجتمعات التي تدرك أنّ الإنسان يتطور مع آلته ويتجاوزها بوعيه. هكذا يتكوّن العقد الاجتماعي الذكي الذي يجمع بين الإبداع الإنساني والعقل الخوارزمي في توازن يضمن استمرار الحياة كقيمة، لا كمعادلة. هل هذه الوقائع الاجتماعية والاقتصادية تُقرّبنا أكثر من المضمون الرأسمالي بمسمياته الجديدة أم تأخذنا إلى شيوعية من نوع جديد؟
