لبنان وإسرائيل بين “كاريش” و”الاتفاق الأمني”.. التوقيت والحسابات؟

في زحمة الأحداث على الساحتين العربية والدولية وانشغال لبنان الرسمي والشعبي بنقاش إمكانية عودة الحرب الإسرائيلية على لبنان من عدمها، مرّت ذكرى ترسيم الحدود البحرية (اتفاق كاريش)، أمس الأول، مرور الكرام. برغم ذلك، من المفيد التذكير بها وبخاصة أنها تتزامن مع الضغوطات الدولية على لبنان لإبرام اتفاق أمني مع إسرائيل ومع نقاشات داخلية لا سيّما لجهة رفض "الثنائي الشيعي" لهكذا اتفاق.

نبدأ من نقطة أساسية لا يمكن إغفالها في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وتتصل بتوقيت كلّ حدث أو فعل سياسيّ لا سيّما على مستوى الدول. يلعب التوقيت دوراً أساسياً في محاولة فهم سياق الأحداث والربط بين عناصرها.

في الفترة التي جرى فيها الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، كانت هذه الخطوة متداخلة إلى حدّ كبير مع الأجندة الإيرانية-الأميركية، حيث كان يحاول الطرفان تقديم إغراءات متبادلة تُمهّد لجني مكتسبات في المفاوضات النووية. من هنا، فإن “التفويض الإيراني” للحزب، إذا صحّ التعبير، للسير بهذا الاتفاق في توقيته آنذاك إنما كان يهدف لإعطاء الأميركيين إشارة من جهة كسباً للوقت من جهة ولتحقيق مكاسب سياسية في المفاوضات النووية من جهة ثانية، وتكريس حزب الله لاعباً إقليميّاً أو لاعباً أساسيّاً في المشهد الإقليمي من جهة ثالثة.

عمليّاً، أصاب الإيرانيون آنذاك بأهدافهم المرحلية، وكرّس “حزب الله” نفسه لاعباً في أي مشهد إقليميّ، وما يُعزّز هذه الفرضية، هو الموقف الإيراني الذي اشترط مخاطبة الحزب في ملفات لبنان وسوريا واليمن. من هنا، كان يناسب هذا الاتفاق مصلحة الحزب من جهة والأجندة الإيرانية من جهة ثانية، الأمر الذي دفع بالحزب إلى تصوير هذا الاتفاق بأنه انتصار جديد للبنان ولقوة المقاومة في انتزاع الحق اللبناني والاعتراف الإسرائيلي والأميركي به. لاحقاً، تمّت مواكبة هذا الإخراج باحتفال مركزيّ مع تجاهل النقاط الأساسية التي شكّلت العناصر الجوهرية في الاتفاق والتي يتخذها الحزب اليوم ذريعة في رفضه للاتفاق الأمنيّ بانتظار الحصول على مكسب ما لاستخدامه لاحقاً في الإخراج السياسي.

مناورة.. ومكاسب

هنا، لا بد من وضع النقاط على الحروف:

أولاً؛ إن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل هو اتفاق أمنيّ وسياسيّ، إذ شارك ممثلون مدنيون عن رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك ميشال عون ولم يكن هذا التمثيل السياسي محلّ اعتراض لدى الحزب.

ثانياً؛ إن الاتفاق، ولو تمّ بطريقة غير مباشرة، إلا أنه كرّس الاعتراف اللبناني بإسرائيل كدولة، وهو ما لم يكن في الاتفاقيات السابقة وذلك من خلال مصطلح “دولة إسرائيل” الذي استخدم بشكل مباشر في نصّ الاتفاقية، أي أنه اتفاق بين دولتين وليس بين دولة احتلال وبين لبنان.

من هنا، تصبح الذريعة التي يتخذها الحزب بشكل خاص و”الثنائي الشيعي” بشكل عام حول مسألة التواصل والاعتراف بإسرائيل لاستكمال الترسيم البرّي ومعالجة الملفات الأخرى إنما هي ذريعة شكلية للاستخدام السياسي وللمناورة في محاولة منه/منهما لتحصيل مكاسب سياسية تُحسّن موقع الحزب ونفوذه ودوره في المرحلة المقبلة لا سيما في ضوء الخسائر التي مُنيَ بها في الحرب وبعد سقوط “محور المقاومة”.

أما رفض الحزب المطلق، في توقيته، فهو جزءٌ من تصعيد الخطاب السياسي والإعلامي للحزب بعد زيارة كل من أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني ووزير الخارجية الإيرانية عباس عراقجي ثمّ في ذروة التوتّر الأميركي الإيراني والحرب الإسرائيلية على إيران، ويستكمله الحزب اليوم لكن هذه المرة مع فتح نافذة صغيرة للمفاوضات ولتهدئة الخطاب. وللمفارقة، هذا التبدّل التكتيكي، إذا صحّ التعبير في خطاب الحزب، يتزامن مع اقتراب المفاوضات المرتقبة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية.

من خلال ما تقدّم، يمكن اختصار المحرّك الأساسي لمقاربة “الثنائي الشيعي” لملف المفاوضات مع إسرائيل، أكانت مباشرة أو غير مباشرة، بعاملين أساسيين:

أولاً؛ الأجندة الإيرانية-الأميركية وتحديداً في ما يتعلّق بالملف النووي الإيراني ومستقبل النظام الإيراني في ضوء ما يُحكى عن خطة إسرائيلية لخوض جولة عسكرية جديدة مع إيران.

ثانياً؛ دور الحزب ونفوذه في المرحلة المقبلة في لبنان بدءاً من السلاح وما يحكى عن ضمانات عربية يطلبها الحزب وصولاً إلى النفوذ السياسي.

سر الدخول المصري

في المقابل، وبينما يناور “الثنائي” في مسألة المفاوضات بالضغط على الدولة اللبنانية بما يتلاءم ومصالحه، تزداد الضغوط الأميركية والإسرائيلية على لبنان. في السياق نفسه، ما يزال لبنان الرسمي كما الحزب يستغلان استمرار المظلّة الدولية وبشكل خاص العربية للبنان، لا سيّما بعد دخول مصر بشكل مباشر على خط الملف اللبناني، الأمر الذي تُرجم بزيارة مدير المخابرات المصرية حسن رشاد إلى لبنان.

هنا أعود إلى التوقيت. لم تكن مصر يوماً بعيدة عن الملف اللبناني، لا بل هي فاعلة منذ عقود في لبنان وتنسّق في العديد من الملفات مع الحكومة الحالية كما فعلت مع الحكومات السابقة، سواء حول دعم الجيش اللبناني بالإضافة إلى الدعم السياسي والاقتصادي للبنان مستفيدة من شبكة علاقاتها الجيدة مع كل الأطراف اللبنانية. غير أن هذا الدخول المباشر لا يمكن فصله عن مؤتمر شرم الشيخ واتفاقية السلام الأميركية العربية أو ما تعرف بـ”خطة ترامب”. لذا، من المفيد التذكير بأن ترامب عند توقيع اتفاقية شرم الشيخ أشار إلى أن هذه الاتفاقية لا تنحصر فقط في غزة بل هي تشكل الإطار العام للتغيير الذي بدأ مسار تطبيقه في منطقة الشرق الأوسط ككلّ لا سيّما في ملف الصراع العربي الإسرائيلي وحلّ القضية الفلسطينية. من هنا، لا يمكن فصل تصدّر مصر المشهد اللبناني عن دورها في اتفاقية غزة بالتنسيق مع الدول العربية الفاعلة الأخرى. لذلك، وبحسب المعطيات والمعلومات، فإن رسالة مصر إلى لبنان الرسمي لا تنفصل عن كل السياق العربي والدولي في المنطقة، وهي تركّز على عنوانين لا ثالث لهما وهما: تطبيق قرار الحكومة اللبنانية بشأن حصرية السلاح وإبرام اتفاق أمنيّ مع إسرائيل لمعالجة الملفات العالقة بدءاً من احتلال إسرائيل لقسم من الجنوب اللبناني والمسعى الإسرائيلي لتثبيت المنطقة الحدودية العازلة مروراً بالترسيم البرّي وصولا إلى إطار عام انتقالي إلى حين نضوج التسوية الكبرى في المنطقة.

إقرأ على موقع 180  قٌضي الأمر.. إدارة الإنهيار وصدمة سياسية كبيرة

كما نقلت مصر رسالة إلى لبنان تتقاطع مع رسائل معظم الوفود العربية والغربية ومفادها أن هامش الوقت يضيق لبنانياً وأن الحماية النسبية لعدم توسّع الحرب لن تستمرّ في حال استمرّ لبنان كما الحزب في سياسة شراء الوقت وأن المماطلة لن تؤدي سوى إلى تفاقم النتائج الكارثية على لبنان لجهة استمرار الاعتداءات الإسرائيلية وارتفاع عدد الشهداء واستمرار التدمير والتهجير.

في الخلاصة؛ أتقن “الثنائي الشيعي”، قبل ثلاث سنوات، الإخراج السياسي الذي جعل جمهوره يتقبل اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. اليوم ثمة قناعة إقليمية ودولية بأن الاتفاق الأمني المرتقب بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي هو مسألة وقت مع نصائح توجّه إلى لبنان بعدم المماطلة لا بل المبادرة إلى اتخاذ قرارات جريئة حماية لأمنه وحدوده. في هذا الوقت، يشي سلوك “الثنائي” بأنه يناور للحصول على مكاسب، دوراً ونفوذاً، في تركيبة الدولة كما في أي مشهد مستقبلي، وذلك بانتظار مآلات التفاوض الأميركي الإيراني. فهل يُقدم لبنان الرسميّ على خطوة تجنّبه المزيد من التصعيد، مستفيداً من الدعم العربي والدولي حماية لمصالحه وحقوقه في أرضه وبحره؟ أم يغرق في فخّ لعبة شراء الوقت فيُشرّع كل الاحتمالات التصعيدية؟

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

أكاديمية وباحثة سياسية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  خطط ترامب التهجيرية.. نتائجها العكسية كارثية أمريكياً